كان يراقب ذلك المشهد الذى قفز امامه دون سابق تخطيط له كان هناك مجموعة من الديدان خرجت من قطعة لحم نتنة و ظلت تلتهمها بشراهة .. وفجأة اختفت تلك الديدان بعد ان أتت على تلك القطعة بالكامل و لم يبق منها سوى أثر..لعل تلك الديدان تريد ان تنظف الآرض من ذلك العفن و تنهى وجود ..تغيرت الصورة و ساد العدم ..لقد أختفى كل شيء من أمامنا ..قطعة اللحم و الديدان و كأن شيئا لم يحدث لقد أدرك العدم تلك الديدان ..أدرك أن الحياة هي وجود و فناء .. فالعدم نقيض الوجود و رأى ان الحياة بدون موت هي عدم مطلق .. فالجدلية هي أساس وجودنا ..عدم يسبقه حياة .. فالحياة من حولنا قابلة للفناء و هكذا الوجود .. لو رفعنا العدم ماكان هناك وجود .. فالحياة أساسها نقائض ..
كان لديه أدراك بأن هناك يداً شكلت وجودنا ببراعة فائقة .. قفزت من أمامه صورة أبيه الذى غيبه عنه الموت وهو يحتضنه في صباه و لازالت صورته ملتصقة طوال وجوده.. ترقررت عيناه بالدموع لغيابه الأزلى ..وكلما يذكر الصورة كانت تترقرق عيناه بالدموع .. وتساءل هل يمكن أن يدرك والده ثانية ؟؟ وكان يؤمن أن العدم لا ينجم عنه حياة ثانية ..
لقد أختفت تلك الديدان من حوله و لم تعد ثانية ..لعل المشهد لا يختلف عن غياب والده ..جسدا وروحا .. كان يقول لنفسه هل أرى والدى ثانية كان لديه أعتقاد بأن ذلك ضرب من الخيال .. كان يذكر عندما غيب عن الحياة أثر حادث تعرض له لم يعد يتحسس الحياة من حوله .. لعل ذات الموقف قريب من الموت .. فالعدم هو غياب الوعى عنا هو الذى خلق لنا تراجيديا الوجود .. كان يذكر ذلك الوجه الملائكي لمحبوبته التي ذهب بها الموت بعيدا ..لعله طوال حياته كانت صورة تلك الفتاة تتراقص أمامه .. والعدم هو الذى يدفعنا للحياة .. كان يؤمن لا ابدية لهذا الوجود المتناقض .. فالعطب ينفث من حولنا دون توقف ودون رحمة .. فنحن نعيش في الموت .. كان كل شيء من حولنا يقفز الى ضده ..الألم مقابل السعادة .. فالآنسان محكوم عليه بالعدم أنه يشعل الحروب و العداوة و لا يفهم ماجدوى ذلك .. أنه مدفوع الى العدم .. دون أن يعى ذلك .. أننا نسعى الى الموت رغم أرادتنا .. فنحن مدفوعون للموت .. فالحياة بدون موت لا معنى لها مثل تلك الديدان التي تحركت في الوجود ..فالصراع لا ينفك من حولنا ..خلقنا هكذا ونظل على المسار حتى و أن توفرت الحكمة من حولنا .. حكمة السلام و المحبة .. فالآنسان نقيض ذاته من خير او شر أنه يسعى للخير و الشر دون انفكاك عنهما ..فلا يمكننا نرفع الشر عن الخير .. فلا معنى للخير مالم يصتدم بالشر ..فهذا الديالكتيك هو أساس فلسفة الأخلاق .. كان يدرك جيدا لا خلاص لنا في هذا الوجود من اى تناقض يواجهنا في دنيانا ..السعادة تلتمس دائما الآلم .. و الحرية تقابلها العبودية .. و الديموقراطية تقابلها الفاشية .. و تلك الديدان التي تتحرك حول قطعة اللحم تحركها روح غامضة يصعب أدراك كنهها فهى لم تولد ذاتها أن هناك قوة فيما وراءها .. أننا نعيش في هذا الوجود ولا نستطيع أدراك فيما وراء ماهيته .. ولا يستطيع فكرنا الوصول اليه مهما أتينا من معرفة ..فمعرفتنا بتحرك تلك الديدان لن تصل الى تفسيره الا ظاهريا عقب المشاهدة .. نحن ندرك الظواهر فقط دون أن نصل الى المعرفة الممكنة لأننا نحى في وجود لا متناهى لن يوصلنا الى معرفة بماهية وجودنا ..
كان يقول لنفسه: متى أرى تلك الوجوه التي غابت من حولى .. كان يرى هذا الآعتقاد في العودة ثانية أمرا من ضرب الخيال في العودة ثانية .. فالعدم خارج عنا ..أين أحبابنا الذين كانوا يلتفتون حولنا .. لم يعد لهم من أثر ..لقد رحلوا في غير رجعة و لم يتركوا الا الحسرة من حولنا ..فالموت نهاية حياة وجودنا و لن يبقى لنا سوى التصور .. كان لديه ادراك تام بأن الماهية ليست جزءا من وجودنا أنها تحلق بعيدا عنا .. أما ما يسمى بالروح ماهو الا إرهاص منا فليس لنا القدرة على أدراك كنهها ..أننا خلقنا هكذا و سوف ننتهى دون علم منا ..
كان لديه أدراك تام أن الحياة لغز يفر من حولنا مهما أتينا من معرفة و علم لحله .. فالعلم سوى أدراك للواقع من حولنا ..ليس لنا وعى مافوق الوجود .. وتصورنا للآلهة لا يبتعد كثيرا عن أدراكنا لملامسة الواقع من حولنا ..فلا شيء خارج معرفتنا الوجودية يمكننا الوصول اليه .. فرب (موسي) لا يمكن لموسى ملامسته فهو خارج الوجود الكونى ..لو ظهر الله (لموسى) لأنتفى كونيا أن يكون أله ..لا أحد يلامس الكون الا الأنسان .. هذا الأنسان خلق على الأرض ليلامس الوجود خيره وشره .. أنه يعيش تراجيدية وجودية في أن يلامس المتناقضات .. وهى سر تعاسته الوجودية .. أنه الحيوان الوحيد الضاحك ليطرد المأساة من حوله ..
نهض من أمام المشهد و لم يجد تفسير له وقفل راجعا الى أسرته التي كانت تنتظره فقد طال غيابه عنهم عندما كان غارقا في تأمله اللامجدى؟؟ ظل تراوده رؤية ان الحياة اشتقاق من العدم فلا حياة بدون عدم.. العدم يتسرب إلينا كل لحظة ..