علجية حسيني – تونس
تلقب مدينة وهران بكلمة “الباهية” و توافقها بالفرنسية ” La Radieuse “. يمكن إرجاع سبب هذه التسمية لما تحمله مدينة وهران من معاني ترتبط بالإشراق و الابتهاج و حب الحياة. لكن مدينة وهران، في رواية الموت في وهران للكاتب الجزائري الحبيب السائح، تفقد كل هذه الصفات. إذ تغيرت ملامحها المرتبطة بصفات الجمال و الفتنة وتبدلت فيها أسماء الشوارع و الأحياء “حي اللوز ( ليزار مندي. سابقا)”/ “سان بيار سابقا”/”في شارع ميروشو (سابقا)”. فأسماء الشوارع ليست مجرد كلمات يمكن إبدالها بأخرى و إنما تحمل تاريخ مكان و تحيل إلى الذكريات و القصص التي حدثت فيه. باستبدالها بأسماء أخرى إشارة للقطع مع تاريخ مضى بذكرياته و قصصه و بداية زمن جديد بظروف و أحداث جديدة. وهذا ما يمكن لمسه في وهران. فالحياة و الذكريات التي عاشتها شوارع و أحياء وهران زمن الإشعاع و الابتهاج ولت مع تغيير أسمائها. فالقارئ من الصفحات الأولى للرواية و إلى أن ينهيها يصله الشعور بأن الجو النفساني الطاغي في الرواية هو وصف لمدن ما بعد الحرب. فتكون عادة مدن كئيبة و منهكة نتيجة لما لحقها من دمار و فقد لأبنائها و معالمها و حياتها الطبيعية. نظرا لأنه من أسباب الكآبة أو الإكتآب في تعريف علم النفس يعود إلى موت و فقد أحد الأشخاص الذي نحبه. فمدن ما بعد الحرب تتسم بالحزن و العبوس و الغم. وهذا ما يشكل مدينة وهران في الموت في وهران . الحبيب السائح.كاتبها، شكلها و صورها مدينة ضعيفة و منكسرة و لا تحمل إلا مشاعر الموت و السوداوية و العبوس و الكآبة. فهي مدينة عاشت الكرب من الفواجع و الموت الحزين الذي يحدث داخلها. في هذه الرواية، تنتفي المعاني المرتبطة بمدينة وهران من السحر و الإشعاع و الجمال و الحياة التي كانت تميزها. لتحل محلها معاني الموت و ما يتصل به من اكتئاب و عبوس و كرب. الإحساس بالموت في وهران يصبح العنصر الأساسي في الرواية. و هو ما أكدته الشخصية الرئيسية للرواية هواري لسكرتيرة والد حبيبته بختهالشرڨي عندما وصفت وهران بالمدينة الساحرة “وهران مدينة ساحرة !” . إجابته كانت رد فعل واقعي لما عانى من تجربته الحزينة وبما يحسه تجاه المدينة الملقبة بالساحرة ” فبلعت مغصي. هازا رأسي بتأكيد : ” ويحلو الموت فيها أيضا”. وهران توقف الزمن فيها لا يعرف القارئ متى و كأن الزمن انتهى في تاريخ ماضي و غير محدد. ما يعرفه القارئ فحسب أن الزمن توقف في الساعة الثالثة وهذا ما أعلنت عنه ساعة بناية البريد التي “اليوم أمست معطلة”. وهران رواية الحبيب السائح لا تحلق فيها من الطيور إلا النوارس و هي الطيور البحرية التي ترمز للموت. وهو دليل على تفشي الإحساس بالموت داخلها.
مدينة وهران في الرواية تجسد التهديد المستمر بالموت و الفقد. و يغيب فيها الأمان. قد يحدث الموت في أي وقت من اليوم وفي أي مكان و أي شارع أو أي بيت من بيوتها. مثلا مدير مدرسة هواري قتل صباحا و أمام مدرسة أطفال. حسنية ماتت بحزنها في بيت هواري. سكان وهران تملأهم الريبة من وهران. جمال الدين سعياد، صديق هواري، دائما يأتي في سيارة و محاط بسائق خائف من أي خطر موت محتمل. ” في سيارة يقودها سائق والده الشخصي بزي مدني و يغرس مسدسا في خاصرته تحت قميصه” . و يضطر البعض لإخفاء هوياتهم حتى يتجنبوا موتهم في مدينة يحبها الموت. فحسنية لا يعرف أحد اسمها الحقيقي نسيمة وزاني باستثناء هواري لأنها تثق فيه و لا يشكل خطرا على حياتها. ومثل حسنية الكثير من الفتيات الأخريات اللاتي تتخفين وراء أسماء أخرى للحفاظ على حياتهن، “الفتيات اللائي يدخلن المدينة غريبات بأسماء مستعارة متنكرات الروح و الأثواب فرارا من مطاردة رقيب متربص مترصد عند كل زاوية”. و إخفاء الاسم هو إلغاء و نكران وجود الشخص لنفسه. وهران مدينة للموت أو الانتحار الرمزي يقوم به الشخص تجاه نفسه.
وهران في رواية الموت في وهران التي تعرف بالباهية أثارت غيرة و حقد محبي الموت فاتخذوها هدف لتشويهها و نشر البشاعة لطمس فتنتها و سحرها. طمسوا نورها لينشروا ظلام الموت و القنوط.فاكتأبت و انكمشت و انقبضت بعد أن كانت مشرقة و مشعة. جعلوا منها مدينة كئيبة و مختنقة. و سبب آخر نفسي للكآبة هو التعرض للأذى من الأشخاص المحيطين. وهران تحوي داخلها الكثير من الأشخاص الذين عرضوها للإكتآب و سلطوا عليها الألم. فنجد منهم المتطرفين الذين لم يحتملوا جمالها و اتساعها لكل الناس و الأطياف. فقتلوا فيها التسامح و مبدأ قبول الآخر لينتجوا منها مدينة رافضة للمختلف و أرضا ملائمة للتعصب و التطرف و الكره و النفور و يلونها لون قاتم عابس.“كنيسة الروح القدس المخرس بابها. على تذكار تفجير في ليلة صيفية كان شتت أشلاء جسدي أسقفها كلافيري و محمد سائقه الشخصي” . وهران مدينة لا توفر الأمان لأصحاب الفكر و الذين بإمكانهم المساهمة في ازدهارها و تقدمها و استمرارية حياتها. أصبحت مدينة موت لرجال الفكر و الفن و العلم “كان موعدا لاغتيالات طالت صحفيين و كتابا و فنانين و مدرسين”. المدن مثل الأشخاص تموت أو تحيى بتوفر أسباب الموت أو الحياة. . بموت هؤلاء المحبين للحياة ينقص الجمال في مدينة وهران .المدير كان قبل قتله يحافظ على جمال مظهره “فقد قضيت زمنا. مولعا بإعادة بعث ذلك المدير في كل شخص أنيق رأيته. أشبهه، و أنا إلى اليوم أجهل اسمه. بأولئك الذين أحسبهم لا يزالون يحفظون لأصول وهران عهدا بموضات ملابسهم و أنواع تسريحات حلاقتهم”. و باغتيال الفنانين ترتد الحرية و معها يتقلص الخلق و الإبداع. وبذلك تكون وهران مدينة بلا روح ولا حياة. بما أنها مدينة فارغة من الموسيقى و المسرح و السينما. لا توجد إشارات للاحتفال بسهرة غنائية أو موسيقية أو عرض مسرحية أو فيلم. الأدب أيضا لا تهتم به وهران الكئيبة. المكتبات أقفلت أبوابها “من تلك المكتبة. التي لا تزال تقاوم، بعد أن أغلقت أبوابها بقية المكتبات الأخرى… فمنها ما حول إلى تجارة الألبسة و الأحذية و منها ما ينتظر مخرسا بأقفاله الصدئة، مثلها مثل بعض البارات و المطاعم العتيقة “.لأن الأدب هو الحرية و التحليق في الخيال و الشعور الملموس بالقتامة و البؤس يكبل الخيال و يقتله. فيعجز الكاتب عن الخلق. و قاعة السينما كذلك مغلقة. ” و عند بهو قاعة السينماتيك المغلق غالبا، كنت أتسمر. أقرأ برامج عروض سابقة” و هذا من أعراض الإكتآب و هو الامتناع أو افتقاد الرغبة في الاستمتاع بشيء مثل الفن أو مطالعة الأدب.
كآبة وهران تجذب إليها المحبطين من المدن التي تحيط بها.فيزيدونها كآبة و يأسا من الحياة. و كأن قدرها أن تكون مخزنا للمعاناة و الموت. جد هواري تمتع بالحياة في تيموشنت و كما قال عنه مصطفى ” جدك عاش أيامه في الزهو!”. و عندما أصابته نوبة عصبية و أصبح يهدد الناس بالموت و اكتأب جيء به للمدينة الكئيبة و التي توفر الموت ليموت في مستشفى الأمراض العقلية بسيدي الشحمي. و حسنية اغتصبت بسيدي بلعباس وهربت لحياة وهران..“حسنية هربت بعارها الى جامعة وهران” لتلعق جراحها و تموت فيها . أما وهيبة بوذراع. أم هواري فقد جاءت بعد أن غضب عليها أبوها لتعيش موتا معنويا بامتياز،“جدي طرد أمي من حياته غضبا عليها لقبولها أن تبقى في يمين شخص و ضيع النسب”. ففي وهران أحبطها سوء اختيارها بانقطاعها عن الدراسة و زواجه من معمربن صفصاف، أب هواري. وفيها عانت آلام الندم و المرض و توفيت فيها.
أما الأذى الأخر الذي تتعرض إليه وهران في الرواية هو الأذى الأخلاقي الذي يمارسه عليها بعض سكانها. فنجد وهران تحمل داخلها من يمثلون الانحطاط الأخلاقي. الضابط شحمة “شخص يغطي على المهربين و يراقب بيوت الدعارة غير المرخصة و يبتز المرتشين من الموظفين الكبار و المقاولين” و كذلك يساعدون من يشوه و يدنس حياة وهران البهية بتبييض الأموال الذي “كان آتيا من غنائم الجماعات المسلحة و من بارونات التهريب على الحدود و من الابتزاز مسؤولين في الأمن و من اختلاسات الموظفين الكبار و من رشي مسؤولين في العدالة”.
اكتآب وهران يبرز في غياب دورة الحياة و تغير الفصول . أحداث الرواية تدور تقريبا كلها في فصل الخريف و هو الفصل المرتبط عادة بالحزن و الكآبة.”ففي خريف.مثل هذا الخريف”/ “و كان الوقت خريفا” و ذكر الصيف مرة واحدة و كان في آخره و اقترابه من الخريف “أواخر الصيف”. ووصف الطقس بالجميل يوم مشمس دافئ مرة واحدة أيضا. التركيز على فصل الخريف يحيلنا مباشرة للون الباهت للأشياء و قد وصفها هواري ب “وهران الشاحبة”. كشجرة بدأت أوراقها تصفر و تسقط. وهران بحزنها و شحوبها ليست أرضا للشجر المثمر.بل تخنقه بتفشي الموت فيها. فالنخل الشجرة العالية و الشامخة لتلامس السماء لا تجد التربة الصالحة للنمو في وهران المنكسرة و المطأطئة من ثقل الهم .”من أين للنخل أن يسكن وهران فكيف يثمر إذا في رطوبتها طلعا؟”
و لأنها مدينة الكآبة. يفقد العيد بهجته في وهران.“أضحيت أقضي أيام العيد بلا فرح ” و يصبح العيد فيها. مصدر معاناة “معطوب النفس بوحشة صارت لا تنجلي عني الا بعد اختفاء مظاهر العيد كلها. و نهائيا”
بعد أن كان الناس يتغنون بسحر وهران الباهية و الفاتنة. تسقط في الكآبة و الشحوب . لتمسي مدعاة للبكاء و الرثاء من جميع سكانها . وكأنهم ببكائهم و رثائهم يؤكدون موت وهران المعنوي و الروحي.
“فرددوا جميعا. كأنهم إياي وحدي.
» وهران وهران
رحتي خسارة
هجروا منك ناس شطارة «
يمكن تشبيه وهران بالمرأة ووصف حالتها. و هي غارقة في أساها و غمها. باستعمال تعبير من علم النفس الذي نحته سيقموند فرويد و هو” قلق الإخصاء” أو ” Castration Anxiety “. و يمكن تحليل حالتها بالمعنى المجازي . تعني كلمة ” قلق الإخصاء” في” ويكيبيديا ” : ” الشعور بعدم الأهمية و ضئالة النفس” و المعنى الرمزي للعبارة يعرف ” قلق الإخصاء” بخوف الشخص من الإحساس بالإهانة و الضآلة و الهيمنة عليه / عليها من أشخاص آخرين. ويؤدي ” قلق الإخصاء”. أحيانا. حسب علماء النفس إلى الخوف من الموت و الخوف من فقد السيطرة على حياة الفرد. و يؤدي الشعور بالخوف من الموت و الأفكار السوداوية إلى الكآبة. و هذا ما حصل لوهران في رواية الموت في وهران.. إذ يمكن تشبيهها “بالمدينة المٙخصية ” لأنها أهينت وأُهملت وشُوهت. حُقرت و همشت و فقدت السيطرة على حياتها البهية و المشعة. و فقدت كل قوتها و جمالها.
لكن وهران تنتقل من حالة المدينة الضحية إلى المدينة الوحش في ذاته. و يمكن استعمال مقاربة Barbra Creed في هذا الجزء من التحليل. إذ ترى في تحليلها لأفلام الرعب وجود أن “كل المجتمعات الإنسانية تحمل مفهوم الأنثوي- الرهيب الذي يدور حول المرأة التي تكون صادمة ومخيفة و مرعبة و دنيئة”. هذه وهران المدينة/” المرأة المٙخصية ” أو ” Castrated Woman ” تتحول إلى مدينة / “امرأة مُخصية “ أو” Castrating Woman ” تحاول إخصاء أبنائها و ساكنيها. فتتشكل صورة أخرى موازية لوهران الضحية و الكئيبة إلى مدينة قاسية بنشر كربها و انقباضها ليخنق كل من يسكنها. فيصير أكثر الشخوص بدورهم عالقين في دائرة “قلق الإخصاء” و يواجهون الخوف و والمعاناة الذي عاشته وهران. فاكتشافهم و إحساسهم أنها تفتقد لكل قوة و هي ضعيفة و هشة و منكسرة يجعلهم يخافون من أن يواجهوا المصير ذاته و هو ما يفجر معاناة و حزن معظم الشخوص في الرواية.
يمكن أيضا تشبيه مدينة وهران في الرواية “بالأم السيئة” أو ” Bad Mother ” على حد تعبيركارل أبراهامKarl Abraham. أم قاسية و تفقد الرحمة و تثقل روح أبنائها بكآبتها فيصيروا حزانى و يائسين داخلها. تنقل وهران كآبتها لتحاصر أبنائها و ساكنيها و كأنها تصيدهم لتلفهم في شبكتها و دائرتها السوداوية و القاتمة. كل من يدخل وهران أو يسكنها يُحصر في قنوطها و انكسارها و يمتص أساها. صورة وهران لديهم مثل الأم الظالمة وبدون رحمة لأنها تلزم عليهم حياة قاسية مثل السجن و تحاصرهم بحزام من القلق و الشعور بانعدام الأهمية و الجدوى في هذا العالم . فوهران مدينة تشعر كل من بداخلها أنها تمثل مصدر خوف فهي كما شبهها هواري بمدينة “خادعة بأنوارها”. و حسنية وعت بخطورة ظلم وهران من أول مجيئها للجامعة فاختارت السقوط في الدعارة لمواجهة قسوة وهران على الضعفاء ” وضعية واحدة مثلي في جامعة كبيرة تتطلب حتما اللوذ بشخص لا يحميها فقط من سطوة الرجال الطامعين و لكن يؤمن لها ما تواجه به الحياة في مدينة كوهران”.
من خلال قراءة كل فصول الرواية نستنتج أن وهران حقا مدينة كئيبة و جعلت من معظم الشخوص يحملون داخلهم أرواحا حزينة. كل الشخوص تقريبا من الشباب أو الكهول، نساء أو رجالا عالقين في الحزن ولو بشكل متفاوت. كآبة وهران معدية و شرك للحزن و نجحت في جعل كل من يسكنها يائسا و منهكا من يسكنها. كلهم معرضين للوقوع في الأسى و المعاناة في كل مكان أو ركن أو زاوية من وهران يحتوى على روح مهمومة و حزينة. قنوط وهران زرع الحزن في كل أماكنها فأصبح الجميع يعانون و يستوون في الحزن. أرواحهم توحدت في المعاناة. بيت هواري ملجأ للكرب لهواري و حسنية. فهما شابان في ريعان الشباب. وهو عمر الابتهاج و الإقبال على الحياة بأمل و تفاؤل. لكنهما في وهران غارقان في الحزن إلى أقصى درجات الألم..“شعور حسنية بغربة قاهرة في مدينة خادعة بضجيجها و ألوانها و أنوارها. هو ما قد يكون قربها مني”. وكلاهما يستعمل وسيلة للهروب من الحياة البائسة التي أرهقتهما. هواري يلتجئا للخمر لينسى آلامه و الهروب من الواقع البائس.” خزنتي لم تكن تخلو من زجاجة ويسكي أو قنينة نبيذ ولا من كانتينات البيرة… صار ذلك عندي عادة مذ أمسيت وحيدا”.أما حسنية فقد اختارت المخدرات لتضيعفي عالم غائم بعيد عن عالمها المحزن و المأساوي ,” تغرق في كأسها شجونها، أو في نار سيجارتها تحرقها. أو هي تنف نفات من غبرتها البيضاء لتصعد عني إلى سماء أوهامها”. تعد حسنية أكثر شخصية في الرواية تعرضت للإهانة و الإنكسار في وهران رغم أن اغتصابها حصل في سيدي بلعباس. لكن مستنقعات وهران زادت من أحزانها.“محنة حسنية، قياسا إلى فواجعي أنا، كانت أمر من أن تترجمها كلمات“. وهران جعلت منها كائنا محطما مهزوما و هشا ” فقد لمست أن كل ما خرج من عالم حسنية الداخلي لم يبلغني إلا منكسرا انكسار نظراتها و حركاتها”.
زبائن حانة فلورنس الذين كانوا محبين للاحتفال و مستمتعينبالشرب نسوا و تركوا لهوهم و مرحهم و استبدلوا متعة شرب الخمر بقهوة رخيصة. ” من حانة فالوريس (سابقا). خرج بكؤوس قهوتهم المعصورة من تبقى من زبائن كانوا. قبل ثلث قرن. شبابا و كهولا متوثبين يحتسون البيرة فيها… أو يشربون الباستيس مع الكمية “. .
ملهى الميلومان أيضا تملأه أرواحا متشابهة في التعب و الأسى. زبائن الميلومان الذين كانوا ” أزواجا قدامى و عشاقا و فرادى وحيدين فقدوا القرين و من خابوا“.كلهم أصبحوا كورال لحسنية في الملهى و رددوا ورائها عندما غنت أغنية تصف حالتهم النفسية المرهقة و الحزينة،
“أميمتي أنا
واش بي خليت دارنا ؟
توحشت
حومتي
و بكيت احبابي”
رددوها لازمة:
“أميمتي أنا
واش بي خليت دارنا ؟”
المدرسة في وهران عوضا أن تكون فضاء للأمل و بناء المستقبل تصبح مكان للحزن و اليأس، “فسنواتي الثلاث. في ثانوية لطفي. بأيامها الكئيبة. كانت ثقيلة على مزاجي ممططة و خانقة !”. فهي مكان للقتامة والرتابة و للموت الروحي لكل من يرتادها أو يعمل فيها،” إذ يحمل أعوان مدرسة لطفي أرواحا ممتلئة سأما و تجهما، كنت لا أراهم. نساء و رجالا، إلا متجهمين خريف شتاء و ربيعا. تحسبهم بلا أرواح إذ يدخلون بورقة إثبات الحضور يمضيها هذا الأستاذ و ذاك بروتينية كابسة”. ووجوه النساء في هذه المدرسة تفتقر إلى أدنى سمات الجمال و يغطيها الحزن و التعب. فهن لايبالين بأنوثتهن لأن جو مدينة وهران الكئيب و الخانق يطمس الرغبة فيهن للتجمل. فهن لا يبدين إلا مرهقات عابسات.” مثلما لا يخفي على وجوههن الممسوحة من كل زينة و على أيديهن و أظافرهن العارية على آثار الطبشور كأنها الحمض الناخر فيها ! فيما كان أكثر الأساتذة يبدون لي آتين من عفر اليأس”. المدرسة في وهرانلم تعد الفضاء لمعاملة النشا و الأطفال بالحب و الاهتمام لجذب الصغار و تحفيزهم لحب التعلم و المعرفة. إنما صارت مكانا للكره و الحقد و زرع بذور الموت في أرواح الأطفال. فأستاذ الرياضيات حذيفة الشيخ كان يكره تلميذاته لأنهن يهتممن بجمالهن. “كنت أحس ذلك الأستاذ يحمل في صدره نقمة العالم على التلميذات اللائي يخالفن إرشاداته عن التحجب و الكف عن الإغواء بالماكياج : «الشيطان يأمركن بالفسق ». و يحقد على تلاميذه الذين لا يهتمون بالكتب الصفراء التي تتحدث عن عذاب القبر و منكر ونكير. وكأنه وجد في المدرسة فضاء ملائما ليهيأ التلاميذ للموت و ليس للحياة فهو يأمل أن يكون هواري مثل أبيه إرهابي.“فحدق إلي بشماتة. على شفتيه: « كأنك لست ابنه!». المدرسة في وهران منفرة للأطفال،“تخلصت من بعضها. قطعته. ذريته بغياباتي المتكررة”. المدرسة في وهران.صورها حبيب السائح في الموت في وهران كما عرفها ميشال فوكو أن المدرسة تشبه السجن. في الرواية. المدرسة مثل بالسجن بكل تفاصيلها .“كانت دقة جرس الدخول مصمة و مفزعة كنذير شؤم، بعد أن بدلت الأجراس الرنانة بصفارات انذار. تستعملها مجموعات الحماية المدنية و السجون”. فهي مبعث للكآبة و الاختناق مثل السجن.“هناك.في صناناس، ذقت حموضة غربتي الأولي في متوسطة عقبة…كما كدت أبلعها بعد سنين في السجن”.
السجن لم يعد ذلك المكان الذي يأوي المجرم و الخارج عن القانون و إنما يصبح فضاء للمنهارين النفسانيين مثل وهيب الذي كان.” تحت المسكنات. يقضي عقوبة المؤبد لقتله بالساطور ابنته و زوجته… و انهار بعدها عصبيا” و في السجن ذاق إهانة جسده بتلويث خصرو البومة لكرامته.
و لأنها مدينة كئيبة فهي ليست أرض للأحلام. جل الشخوص تلاشت أحلامهم فيها. تبخر الأحلام و التحسر على أماني ضاعت يمثل منبعا آخر للمعاناة في مدينة وهران و يجعل الحياة بلا جدوى و لا قيمة لبعض الشخوص. هواري يرى نفسه صار “علامة للفشل”.فهو أطرد من الجامعة لظلم أستاذ القانون الدولي في كلية الحقوق. و قد شكل حرمانه من مواصلة دراسته تحطيما معنويا لم يبرأ منه.“غداة طردي من الجامعة، أستعيد ذلك مغصوصا”. بتوقفه عن الدراسة أحس بألم الضياع و أقفلت سبل الأمل أمامه، “و خرجت من باب جامعة االسانية الشرقي لأدخل في بداية نفقي”. مغادرة الجامعة جعلته يصبح متشائما و يشعر بأن لا معنى و لا هدف لحياته في المستقبل. ” فأنكستني لحظة قنوطي، لإحساسي أني لن أكون الذي تريده هي : « لا ألمس جدوى من أي طموح. و حياتي أعيشها لغاية لا أعرفها. ». عبدڨا النقريطو أيضا اندثرت أحلامه بأن يصبح ممثل مسرحي باغتيال مدير المسرح علولة. فبقي مقهورا لعدم تحقيق حلمه و هو ما يدفعه للتعويض بتقليد أصوات الممثلين،“محاكيا صوت أحد الممثلين”. فهو دائما يريد أن يؤدي دور و لو كخال لهواري في المدرسة ليعوض إحساسه بالفشل، فتمثيله ذلك الدور تجاهي إنما كان بالتقدير كان تعويضا عن تبخر حلمه في أن يصبح فنانا ضمن فرقة علولة المسرحية“. ليبقى يتلقى أجرا زهيدا و غير منتظم ليعيل عائلته و ليعاني معنويا و ماديا. حسنية بدورها تتأسى لشعورها بالإحباط و الفشل، “أحس سموم الفشل تعكر دمي”. حسنية مثل هواري فشلت و تبعثرت أحلامها لأنها ظلمت في وهران مثلها مثل هواري . “هدني الظلم. تخليت عن أحلامي و نثرت أوهامي”. حياة وهيبة بوذراع بنيت على الفشل و الإحباط . انقطعت عن تعليمها لتعيش زواج فاشل و مليء بالعنف و الحزن. و تعاني الخجل و الندم بسبب قتل زوجها معمر بن صفصاف كإرهابي و تتحمل مسؤولية تربية هواري لوحدها في وهران. و لئن حاولت التعويض عن فشلها بمساعدة ابنها في النجاح الدراسي.” لم تكلمني. بصوت مكروب. إلا عن دروسي في المتوسطة. فذلك ما عاشت مشغولة به. من قبل و من بعد، أكثر من غيره في حياتي. كان ذلك لا بد لهاجس أ، لا تراني أنقطع عن دراستي. كما انقطعت عنها هي في الثانوية”. لكن حلمها لم يتحقق و أطرد من الجامعة لتسقط هي في الإحساس بالفشل و الحزن.” لم تقاوم شهقة غبنها. متناهية إلي من البهو“. و هو ما يجعل هواري يعاني مرارة فشله و الشعور بالذنب تجاه أمه الذي لم يستطع إسعادها بنجاحه.”كان لانكسار خطوات أمي. نحو غرفتها، أزيز قضقضة انهيار في وجداني”.
ولأن روح الكئيب تخلو من الرغبة في المتعة و تميل للانكماش و الانعزال فان وهران تنقل موجات الكآبة السلبية إلى شخوص الرواية. حياتهم تفتقد الاستمتاع بالحياة. حتى الجنس تجعله وهران تجربة مؤلمة وتخلف حزنا في روح الأفراد. الجنس يفقد معناه و هو توفير المتعة الجسدية ليصبح مصدرا للحزن و المعاناة. وهيبة بوذراع توفيت بسبب الجنس. فهي امرأة وحيدة وعندما بحثت عن الاحتفاء بجسدها من خلال المتعة الجنسية بعد أن بقيت بلا زوج.“ففيم تكون أمي طمعت إذا. و لم أعرفها إلا زاهدة. إن لم يكن تعويضا لجسدها البض العذب المقهور بصبرها في سرير خال من رائحة رجل. كان يأخذها إليه راغبة أو مكرهة“. فوهيبة بوذراع بحثت في الجنس عن المتعة و الاحتفال بجسدها من خلال تحقيق رغباتها الجنسية ” لتستعيد إحساسها بجسدها فتنظر إلى وجهها في مرآتها بلا كآبة “. لكن الجنس أدى إلى مأساتها و وجدت نفسها مصابة بالايدز لتبدأ مراحل المعاناة الناجمة عن الام المرض. “كنت لاحظت أن أمي أمست عاجزة عن تحمل صداعها” لتموت حزينة و خائفة من نظرة المجتمع القاسي لها في وهران، “عاندت أن لا تحمل معها إلى قبرها أني اكتشفت عنها جرح العار. لا أتصور أحدا كان سيرحمها. لا الذي لوثها. لا الذي عرفها”.
لم تحصل حسنية أيضا من الجنس إلا على الحزن والقرف. فكانت علاقاتها الجنسية لا تشعرها إلا بالحزن.مع نوار المصمودي لا يريد منها إلا تلبية شهوته الجسدية لم يعاملها بالحنان الذي تبحث عنه للمتعة الجنسية. و نوار يعاني مشكلة نفسية فهو، “نوار مدمن على الاستنماء “. فالجنس معه عملية تخلو من أي متعة،“فدب في صدرها بغضها له مذ أخبرها كيف عاش ألذ الأوقات في تحقيق نزواته مع محترفة للجنس “. فبدأت معاناتها عند ممارسة الجنس معه، “فتقيأت. ثم صارت. كلما قربها تصده. و اشمأزت نفسها منه”. و بقية الرجال الذين يحتقرونها و يرونها لا تستحق الاحترام و مع ذلك تواصل عملها كمومس من اجل القليل من المال لشراء المخدرات و مجابهة الحياة في وهران.
الرغبة الجنسية عند هواري ترتبط بالألم و الحزن. فالشهوة الجنسية لديه تدخل في خانة عقدة أوديب. وهو الشعور اللاواعي بالرغبة لممارسة الجنس مع الأم و الرغبة في قتل الأب ليحل محله. و هي دائما رغبة غير متحققة و يعاني الطفل من قمع و كبت رغباته. هواري “تخلص” من أبيه الميت و أخذ مكانه ليتشهى جسد أمه و يرغب فيه. فهو دائما يبدي إعجابه عند وصف جسد أمه و الصور التي يستعملها لعاشق لجسد امرأة. فهو يركز على التحدث عن ملابسها الداخلية المصنوعة من الحرير، ” فملابس أمي، الداخلية منها خاصة… فغير ما مرة سحبت إحداها و حننت بخدي عليها و تشممتها”. و يتخيل أمه في البحر و يتشهي كامل أعضاء جسدها المثير“متصورا إياها بقطعتين أيضا، كانت تغوي عين الشمس و تجتذب أصابعها! فمن عنقها و من وجهها إلى صدرها و زنديها و ساقيها”. لكن سرعان ما يفقد مكانته في افتكاك مكان الأب لوجود منافسين آخرين في احتمال ممارسة الجنس واقعيا مع أمه. فيعاني من الشعور بالغيرة لفقد أمه كهدف لتحقيق رغبته الجنسية اللاواعية، ” و في صدري اضطرام غيرة”. يمكن مقاربة تأزم هواري بحالة شخصية هاملت . Hamlet. في مسرحية شيكسبير Hamlet الذي لم يتحمل زواج أمه Gertrude من عمه كلاو ديس.Clauduis. بعد موت أبيه الملك.“آه. كثيرا ما كنت استرقت إليها نظرة و أخرى إذ تتحرك في البيت في لباس خفيف أو قصير. فأصابتني غيرة مجنونة عليها لتخيلي كم رجل فتنته!”. إذ أصبح حزن هواري لإحساسه بوجود رجال آخرين.غيره، في حياة أمه مثل حزن هاملت و هو يرى أمه تتزوج عمه،“صدفة أم قدرا كان الذي جذبهما الى بعضهما؟ أين وقع الذي حدث أول مرة، بأي مناسبة. مبعدا أنا بهذه الهشة الذهنية و تلك. مثل دجاجة مفزعة، كل ما داهم مشاعري عن أمي تستسلم”. “. وبغياب و موت الأب يبقى هواري في لاوعيه معلقا في مرحلةPhallic Stage. فهو فقد الأب الذي يحتاجه للتماثل أو Identification به ليتجاوز عقدته. و بذلك يضل هواري يعاني من قمع رغباته و نوازعه الجنسية اللاواعية تجاه أمه يسعى دائما لامتلاكها و التخلص من كل منافس له في ممارسة الجنس مع أمه.
وهران توفر أسباب الحزن لهؤلاء الشخوص و تضاعف شعورهم بالضعف و الألم عند معاناتهم من أحزان أخرى و ذاتية لبعضهم. مثلفقدان الأم. إذ يعد أهم سبب من أسباب الحزن التي يعاني منها أغلب شخوص الرواية و خاصة الشباب منهم. يتعمق حزنهم لأنه في سنهم يكون الفرد في حاجة للشعور بالأمان في مدينة كئيبة و خادعة و قاسية مثل وهران. فهواري أكثر الشخوص التي عانت روحه لوفاة أمه لأنها كانت تمثل السند الوحيد في حياته. “كانت ملجئي إليها من هول يتمي و لعنة إخفاقي”. فكل الرواية صدى لإحساسه بالحزن لفقد لأمه. فهو دائما يعبر عن انكساره بعد موتها،” لأتنسى فاجعتي في أمي” و” و كنت لا أزال مكمود القلب”. و لم يستطع قبول فكرة موتها و هو ما يعمق كربه. “لا شيء. لا أحد كان يمكنه أن يواسيني بأن ذلك كان أجلها مسمى !”. و مأساة هواري أنه عاش مرارة الصدمة لعلمه بمرضها نقص المناعة . ” استوعبت الرجة قوضت في كياني سندي الوحيد”و “أحسست الحكم الطبي جزة مشرط جذ حبلي إلى أمي فانفصلنا متباعدين هاويين في سديم لانهائي“. ومما يزيد من عذابه و معاناته تجربة توقع موتها في أي وقت. حسنية أيضا عاشت تجربة موت الأم. حتى أنها دائما تتذكرها بحزن. ” أجهشت : « كان فقدها فادحا. أنا أعيش يأسي الأعظم.»” و “و انتحبت:» هواري.. تعرف؟ كنت.. نغني.. لأمك.. لأمي.».
شخوص الرواية الذين فقدوا أمهاتهم و سقطوا في كرب آخر وهو البحث عنها في أشخاص آخرين. و كأنهم لم يمروا بمراحل الحداد الخمس ( النكران، الغضب،التكيف. الحزن،القبول). حسب التحليل الفرويدي للحداد والحزن، ليتعودوا على العيش دون أمهاتهم المتوفيات. ما يلمسه القارئ أن هواري و حسنية بقيا معلقان بين النكران و الحزن و لم يشفيا من فاجعة الفقد. وهو نكران لاواعي لموتهم مما يجعل فترة الحزن تطول وتصبح شبه مرضية. نكران موت شخص عزيز مثل الأم يزيد من حزن الفرد. و هو ما يدخل الفرد في دائرة غير نهائية من الحنين و العذاب لمن فقدوهم. و ترتبط الشخصيات يبعضها للبحث عن أم فقدت و لن تعود و لن يعوضها من التجئوا إليه. هواري يرى في بختة الشرڨي أمه، “أهدى بختة الشرڨي واحدة من عطور أمه« شيء واحد كان دفعني الى فعل ذلك: أن أشم فيها رائحة أمي» “.
و حسنية وجدت في هواري شيئا من أمها. “ووضعت راحتها على جبهتها :« ليتك كنت لي أما. غريب حقا أن أبحث فيك عن شيء من آثارها.» و نوار بحث في حسنية عن أمه التي لن تكونها، “لا أحس بغير الشفقة نحو نوار المصمودي لأنه لم يعرف حب الأم. و أنا لم اكن مستعدة لأن أكون معه تلك الأم. قدري أراد لي أن أفر من ظلمه لأتردى في شقاء أشد مرارة”. وحسنية و هواري كل واحد منهما يرى في الأخر آثار من أمه،“لم أحدث حسنية عن أمي، أبدا. لعله لإحساسي أني كنت إياها معترفة إلى نفسها. كانت في جانب ما هي لساني”.
هواري الشخصية الرئيسية في الرواية وهو أكثر معاناة من الفقد. لم يفقد أمه فحسب و إنما فقد أباه أيضا، “كانت غيبة أبي اليد التي كفأت فوق رأسي صحن مرارتي”. و تتعمق ماساته في الرواية في شكلين.الأول انه عانى من غياب أبيه و هو حي. و قضى طفولته في عذاب انتظار أن يراه مرة أخرى ولكن لم يعد و ضل يتذكره يوم العودة المدرسية “فهاج في نفسي. مرة و مرة. أن يظهر عند الباب طيف الذي لم التفت إليه ذلك اليوم. و ليتني كنت فعلت ! ” و ” كنت سأطمئن. كذلك يراودني الآن شجن شقي عن أبي إن كنت سأراه لا يزال واقفا إلى حين اختفائي وسط الساحة ليغادر بعدها”. ومعاناة الفقد بعد وفاة أبيه و تأكده من موته.“لم أكن أدرك أني حملت إلى قسمي شارة اليتم إلا لما قد تلبستني حيرتي على أبي أن لا يظهر، كما يظهر كثير من أولياء غيري من الأطفال. فرأيته خلال شرودي… في انتظاري عند المخرج. أو وجدته هو من فتح لي الباب إذ رجعت”. بقي يعاني من فراغ روحي كامل طفولته و شبابه. فغياب الأب يمثل وجعا لا يمكن جبره. لأن الأب يمثل مصدرا أساسيا لتكوين شخصية الطفل و إحساسه بالتوازن و الثقة بالنفس. و غياب الأب ينتج نقصا في روح الطفل و من الصعب ملأ الفراغ الذي يكبر حجمه مع تقدم الطفل في السن. لكن هواري بقي يبحث عن أبيه رغم ارتباط ذكراه بالحزن والعنف. فهواري يريد أن يكمل الفجوة في روحه لينقص حجم حزنها. فهو يصر على رؤية اثر ابيه ولو مكان قتله.“و كنت أردت ان أتعرف على موضع البيت الذي قتل في والدي”. هواري ممزق بين إكمال روحه و صورة أبيه القاتل الظالم. فلم يستطع إيجاده ولا كرهه لأنه في حاجة للإحساس بالانتماء لأب. لأنه لا مأساة أثقل على المرء من لا يمتلك أباه و لو صورة واحدة في الذاكرة.“و إن أرقني أن يكون هو قاتل مدير مدرستي فاني لم أجحده أبا لي، أبدا. ذلك كان ابتلائي في قدرتي على الفصل بين أبوته لي و بين إدانتي لفعله”.
المعاناة من الفقد تؤدي إلى نتيجة طبيعية و هي الشعور بآلام بالوحدة. شعور هواري بالوحدة هو الدافع الأساسي لتدوين الأحداث الحزينة التي عاشها بوهران، “ما الذي يكرهني على نقل وقائع حياتي… إن لم تكن وحدتي التي تحيط بي من كل زاوية في هذه الشقة المحزونة بفراقاتي و ضياعاتي المتعاقبة! وحدتي تبغي محاورتي. وحدة ذاقت ذرعا بوحدتها”. هواري يشعر انه وحيد لغياب الأم والأب و بختة الشرڨي من حياته.” فهزمتني مرة نوبة بكاء على وجودي وحيدا في مدينة كبيرة ضاجة صاخبة مثل وهران في خريف كانت بختة الشرڨي خلاله رحلت إلى الجزائر“.
أمه، وهيبة بوذراع، عاشت حزينة ووحيدة بلا عائلة ولا زوج. فكانت هي الأم والأب في الوقت نفسه، “كانت أمي.وهيبة بوذراع. و لم أعرف لها أختا و لا أخا أو عما ولا خالة. غير صورة قديمة لأبويها. و لا لقبا قبل أن أقرآه يوما في عقد ميلادي”. حسنية وحيدة في اضواء وهران و لم تجد الا هواري عند شعورها بالخطر، “و كانت أضافت أنها هاربة الآن من كبابة. و ليس لها من يؤويها غيري “.
ظلم المجتمع في وهران يجعل من الشخوص حزانى و بائسين. و حسنية كانت الشخصية الأكثر تعرضا للظلم. المجتمع لم يرحمها لأنها بغي. بل أسفر في تحقيرها و إذلالها..” لم يروا في شخصي غير فاسقة جديرة بالقهر و الاستغلال”. مما افقدها الإحساس بالكرامة الإنسانية. كلما لجأت لأحدهم إلا و كان سببا في معاناتها , كبابة النذل عذبها و أهانها حتى أنها فكرت في قتله. نوار المصمودي الذي التجأت إليه ليحميها من وهران هو من عرفها بالملاهي. “كان نوار هو من قربني من أنوار ملاهي وهران الخادعة”. فأصبحت بغيا و أدماها.” لكنه هو الآخر أدماني”. ظلم المجتمع تجاه حسنية جعلها يائسة و منكسرة .” لاشيء يشفيني من جراحاتي.إني أتأَّلّم. إني سأموت من ذلك”. هواري هو الشخص الوحيد في وهران الذي يتعاطف معها ويستمع إليها عندما تحكي عن عذاباتها، “كنت أشعر بعمقها يرجل بركانا من الانفعالات كلما أبدت لي بعضها بحساسية متطرفة فعلت ذلك كلما وجدتني لم أقدم لها شروحا قاطعة لحالها و لا أجوبة نهائية عما جعلها تعرف مصيرا لم تكن تتمناه” . فهي دائما في حالة من التعاسة. ” و لكن الآن يجب أن أبكي. كيف لا أبكي؟ هل أنت تسمع نحيب أعماقي؟”. و لا ترى في الرجال إلا وحوش متهيئين للانقضاض عليها. “قالت لي : « صرت لا أرى الرجل غير وحش مترصد لطريدة أحسني صرتها ».
هواري أصبح قاتلا في سجن وهران ليدافع عن كرامة جسده من خصروالبومة. “كان يقضي عقوبة السجن بثمانية أعوام لإخلاله بالحياء في حق قاصر و ترويجه مخدرات”. وهدده بخنقهإذا لم يتنازل له عن جسده و هو ما أهانه، ” شعرت أني سأكون في غدي فقدت سيادتي على جسدي إن تنازلت على حرمته الى خصرو البومة، تحت تهديده إياي بخنقي”. حوله خصرو البومة الى مجرم و عنيف مثله. فاستعمل مقبض مثقب الثلج لقتله ووجه “رأس السفود إلى سرته العارية. بزق الدم. عاودت أشد قوة الى بطنه مرة ثانية. تجشأ. و ثالثة في صدره. شهق. و رابعة… ووجهت له أخيرة على مستوى جذر ذكره”. قتل خصرو البومة رغم أنها دفاع عن كرامة الجسد إلا أنها أحزنت و حطمت هواري “و استقمت فأحسست صرختي المحبوسة ارتدت متنائية إلى سحق أعماقي”. فظل يعاني من رائحة الدم.فعطر بختة الشرڨي. لم تقض على رائحة دم خصرو البومة. “فيبيد عطرها ما كان سكن مشمي من روائح الجدران و الوسادة و الأغطية و الأجساد قرفا و تقززا حد القيء، الا رائحة الدم!”. و كأنه يذكرنا بلايدي مكبث. Lady Macbeth. في مسرحية ويليام شيكسبير Macbeth بعد أن حرضت زوجها مكبث. Macbeth، على قتل الملك. بقيت ترى الدم في يدها أثناء هلوستها و عاجزة على على محوه. و كأن وهران مليئة بالظلمة و الأشرار الذين يستحقون القتل فعبدڨا النقريطو تمنى لو استعاد مثقب الثلج ليقتل به شخص آخر مثل خصرو البومة ” ربما كريته لمظلوم آخر يقعر به كرش حڨار آخر من أولاد القحاب”.
مجتمع مدينة وهران ظالم فهو يحمل الأشخاص أخطاء لم يرتكبوها مثل احتقار عامل مصلحة الحالة المدنية لهواري لعلمه إن معمربن صفصاف كان إرهابي و قتل،“فرفع إلي رأسه و قطب بما أفهمني أنه غير مستعد لسماع شخص أخرق. و نش نحوي بأصابعه. كما على ذبابة. أن أبتعد” . وهو ما يجعل هواري خجلا و مقهورا و يشعر بالضآلة و النقص أمام الناس لجرم لم يرتكبه.“يتمي أنا، ليس من أبي. انه من هذا العالم الغاشم النفور!” . و يدفعه إلى الإحساس بالذنب تجاه عائلة المدير الذي قتله أبوه. وهذا ما يعمق ماساته من الشعور بالألم تجاه أناس لم يخطا في حقهم و إنما يدفع ثمن جريمة قام بها والده. و هو ما يجعل عذاب الخجل و تأنيب الضمير يلازمه و يضيف إلى عذابه و ماساته حزنا آخر،“فبأي شعور كنت سأواجه أحدهم. بنتا كان أو ولدا؟ و إن لقيتهم. فبأي ملامح ؟ ما الذي سأقوله ؟ أطلي جسدي بطين الفجيعة و أصرخ : « أبي ظالم !».
هواري و حسنية أجبرا على مواجهة نوع من صيرورة أحداث لم يختاراها و إنما كانت ضد إرادتهما. فالأسباب التي سطرت حياتهما كانت خارج عن إرادتهما و يمكن تفسير حياتهما بنظرية الحتمية أو “ Detrminism “ . أي أنهما غير مسؤولين عن ما حدث لهما ” إنما كل شيء في حياتي يتم فوق إرادتي و ضد رغباتي و يعرضني الى هذا الضياع ” . لإحساسه بالظلم و الضعف. أصبح يرفض مجيئه لهذه الدنيا التي لم يعرف إلا مآسيها “فأنا هو، هذا المخلوق الذي أجاءته إلى وجوده نزوة أبوين مبرمجين. مثل حيوانين، لإعادة إنتاجهما.”. هواري قتل لان أباه كان قاتلا.“و هو أنا.إذا من يتحمل تبعات هذا الشقاء أني قتلت. ليس كما قتل أبي فقتل، و أني زنيت و عصيت؟”. و اطرد من الجامعة وأبوه أيضا اطرد من المتوسطة « أنا مجنون بالوراثة!».
حسنية أجبرت على ممارسة الدعارة و لا خيار لها.“لم يكن بيدي ان أكون بغيا”. فالدعارة نتيجة طبيعية لما مرت به. اغتصبت و هربت من سيدي بلعباس إلى مدينة قاسية كوهران. لا يمكن أن تعيش إلا بعرض جسدها” أنأ لم أكن اخترت بيدي شيئا مما وقع لي فلماذا أتدمر بهذه القسوة ؟”. فحسنية لم تقبل بقدرها و ظلت رافضة له لإحساسها بالقهر و الظلم من قدرها. “لو تجسد لي قدري لصرخت في وجهه بحمم من ألمي ليحس حريقي الداخلي”. بل أنها تلوم الله على مصيرها المأساوي.”حدادي على نفسي بدأ يوم سكت ربي عن استغاثتي لتخليصي من قبضة الذي مزق أحشائي”.
يمكن القول أن السبب الأصلي لمأساة و معاناة هواري و حسنية هو الأب الغير مبال و الغير مسؤول. كلاهما يحملان صورة بشعة و بائسة عن أبويهما، “اليوم.في هذه العزلة. يملأني يقين أليم بأن والدي لم يكن فكر في أمي يرميها. و إياي. في عامها الحادي و الثلاثين شابة جميلة إلى شقاوة هذه الدنيا”. صورة الأب العنيف هو ما يحمله هواري في ذاكرته عن أبيه معمر بن صفصاف .” شيء مثل سراب من هيئته نصف عار و هو يصفع أمي… و صرخت أنا إلى أعماقي ملتجئا إلى المطبخ”. فلم يترك أثر الأب الطبيعي الذي يمكن أن يقربه من روحه، كان له في نفسي أثر مبهم ليصير اليوم مظلما”. و لم يعلق في روحة إلا صورة الأب القاتل، “أبي كان أنانيا. مات خطاء”. و أب حسنية كان وراء مآسيها جميعا فهو من أرغمها على الزواج من مغتصبها فيما بعد. فهو صفعها و أرغمها على الزواج رغم أنها تحب إكمال دراستها و لم يترك في روحها عندما تحزن إلا صورة الأب المتسلط و بلا مشاعر.“كانت في أسوأ حالاتها إذ نطقت بتشنج أن والدها، وهي شابة في الثانوية، كان يتلف كُل كتاباتها”.
يمكن مقاربة الموت في وهران بنظرية آدموند ويلسون Edmund Wilson فيفي دراسته النقدية ” Dickens :The two scrooges“ “عن الكاتب الانكليزي تشارلز ديكنزCharles Dickens و التي تحدث فيها عن أهمية المعاناة التي تعرض لها في الطفولة و التي جعلت منه كاتبا عظيما. المعاناة و الفواجع هي ما دفعت هواري يدون أحداث حياته. فهو اهتم للتفاصيل الأليمة التي عاشها منذ طفولته إلى أن بلغ من العمر أربع و عشرون سنة. و الرواية تحمل قصة معاناة و جراحات أو كما يسميها Edmund Wilson ” and the Bow Wound The “. بما معنى كيف تمكن الجراحات التي يعرض لها الشخص من جعله مبدعا في مجال الفن. و الرواية هي عبارة عن تدوين لحياة مليئة بالحزن و القهر و تتقاطع مع قصص بائسة أخرى عاشتها بقية الشخوص. مما يوافق الفكرة الرئيسية للرواية أن الكآبة تنتشر في كامل وهران. و لم يتبع السرد مسار زمني منتظم و إنما تعتبر الرواية مجموعة من صور مختلفة و غير مرتبة عن الكاتب و الشخوص الذين عرف قصصهم. و هي تقنية تتوافق مع تشتت فكر هواري و عدم توازن نفسيته من الحزن و المعاناة.
عند الانتهاء من رواية الموت وهران يبقى الانطباع العام في ذهن القارىء أنها رواية يمكن تحويلها و بسهولة لشريط سينمائي مثلما نقلت روايات نجيب محفوظ إلى السينما عن القاهرة. الرواية تعج بتفاصيل ترتبط بمدينة وهران من اللهجة و الأسماء. هي إلى حد ما خريطة مصغرة لأماكن في وهران و يمكن رسمها في الذهن بتتبع الأسماء القديمة و الجديدة للشوارع و الأحياء في وهران. فيلم ينقل عبر التقنية السينمائية الاسترجاع الفني أو Flash back تحول مدينة وهران من الباهية و المبتهجة و المشعة إلى مدينة مقهورة و منكسرة و غارقة في كآبة منتشرة في كل أرجائه. القارئ للرواية يستطيع أن يرى أجزاء الرواية مقاطع و مشاهد مصورة للشخوص و هي تتحرك و تتنقل في وهران بملامح حزينة و يائسة. مدينة مليئة باللحود و شواهد القبور. مدينة تفقد ملامحها الجميلة وتتغير أسماء شوارعها. بهاءها يتحول إلى شحوب و سوداوية. اللون الطاغي هو اللون الأبيض والأسود. مدينة وهران تطمس ذكريات أبنائها مع الأمكنة من الحانات و المقاهي و المدارس. وتتغير عاداتهم من الاحتفال بالحياة إلى كائنات مهمومة و خائفة و قانطة. هذه المدينة تخنق و تحاصر ساكنيها من الضعفاء ليصبحوا حزانى و مقهورين مثلها. شخصيات الفيلم أكثرهم غارقين في حنين و تأسي و “نوستالجيا” لذلك الزمن الذهبي لوهران و هي تلبس و ترفل في ألوان الفرح و الحب و الحياة و أبنائها يحتفلون بكرمها و اتساعها لتقبل كل الأطياف. لكن الفيلم ليس نقلا لحياة كئيبة فحسب و إنما إبراز لإمكانية البعث من جديد و يمكن أن تنهض وهران من أحزانها و انكسارها و تكسوها ألوان زاهية مثلما كانت ألوانها مبعث للسرور و المرح لكل من يدخلها. فوهران لا تأوي فقط الضابط شحمةو معمر بن صفصاف و خصرو البومة و كبابة النذل وحذيفة الشيخ و الدكتور قدور بن حوار الذين ألحقوا الأذى بها و بأبنائها. وهران تحمل براعم للحياة و الحب و القيم الإنسانية التي بها يمكن أن ترمم تصدعها و تضيء عتمتها.. بختة الشرڨي تؤمن بالحب و الصداقة. عبدڨا النقريطو رمز الأمل لبساطته و استعداده للاحتفال مهما كانت المآسي و يمثل الأخ و الجار الطيب. هواري رمز التسامح و الغفران و قبول الآخر بكل أخطائه. و هو ملجأ لكل مكسور و محبط. المعلم الطاهر فراحي تستحقه وهران لبعث االثقة بالنفس في نفوس أطفالها. و الأستاذ الناصر عوني هو الأستاذ المحفز للعلم و المعرفة و معه مريم بوخانة تنشر العشق و الجمال في شوارع وهران مثل نجمة سينمائية. بهؤلاء الأشخاص وهران تضمد جراحها و تزهر من جديد مثل طائر العنقاء الذي يعرف بالجمال يموت و يبعث من رماده طائر جديد. فتصبح مدينة القوة و فضاء للاحتفال و الفرح. و تستعيد لقب و تسمية وهران “الباهية” أو “La Radieuse“.