أحلام المهدي
لم يكن «جنون الشباب» فيلمًا عاديًا وعابرًا في السينما المصرية، فقد أثارت قصته زوبعة «الجنس» في فنجان العقل العربي المتناقض جدًا فيما يخص بعض التابوهات، التي ينظر إليها بعينين مختلفتين تمامًا وزائغتين أيضًا، أنتِج هذا الفيلم عام 1972، ورغم وجود أبطال بحجم أحمد رمزي وميرفت أمين ومريم فخر الدين ومحمود المليجي وسناء يونس، إلا أن تطرقه لموضوع «المثلية الجنسية» جعل الرقابة تمنع عرضه في جميع دور السينما، إذ لم يظهر للنور إلا عام 1980، وللمفارقة فإن يوليو من العام نفسه كان موعد العرض الأول للمسرحية الشهيرة «سك على بناتك»، من إخراج وبطولة الفنان فؤاد المهندس.
لعب المهندس في المسرحية دور الدكتور رأفت (والد نادية وسوسو وفوزية)، وهذه الأخيرة هي نفسها «عصمت» التي جعلت الرقابة تتحفظ على عرض فيلم «جنون الشباب»، عصمت التي انتحرت بسبب زواج صديقتها في السينما، تتحول على خشبة المسرح إلى «فوزية» التي كانت الآلة المسؤولة عن صناعة 95% تقريبًا من كمية الضحك، الذي راكمته كل فصول المسرحية.
كانت فوزية أو «لوزة» في هذه القصة التي كتبها «لينين الرملي» أكبر بنات الدكتور رأفت، نعم هي ليست أكثرهن جمالا في حضرة الحسناء شيريهان «سوسو»، لكنها أكثرهن عفوية وبراءة وصدقا، خاصة في المشاهد التي جمعتها مع خطيبها وزوجها لاحقا «حنفي»، محمد أبو الحسن الذي أظن بأنه أجاد تقمص الدور بشكل يجعلني أستبعد تماما صورة الممثل أسامة عباس، الذي كان «حنفي» في العروض الأولى للمسرحية، والممثلة عائشة الكيلاني كانت فوزية لبعض الوقت عندما كانت سناء يونس مسافرة خارج مصر لارتباطها بتصوير أحد أعمالها، لكني أيضًا لا أتخيل فوزية إلا بملامح سناء يونس.
لقد تماهى أبو الحسن جدًا مع شخصية حنفي وغرق فيها حتى أذنيه، وكان داعما لدور الفنانة سناء يونس، وعاكسا يزيد من كمية الضوء المسلطة على الشخصية الكوميدية المقنعة لفوزية، فعندما قرأت عن الفيلم الذي لعبت فيه يونس دور الفتاة، التي قد تُقدم على الانتحار ولم أكن شاهدته بعد، لم أتخيل ما كانت لتقوم به هذه الفنانة في إطار الدراما الجادة، لأن عبارات بعينها كانت قد ارتبطت باسمها في ذاكرتي الصغيرة، وهذا تحديدًا ما جعلني أعشق آداءها الكوميدي بعيدا عن الدراما التي كانت كثيرا ما تقدمها في السينما أو في التلفزيون.
أحببت تبريرها لغياب حنفي عن حفل زفافهما بأنه «حاول يمسك إيدي يا بابا»، ليستغرب الأب «المحافظ» هذا التصرف ويتساءل: «هوّ من ساعة ما خطبك من سبع سنين ما كانش لسّه مسك إيدك؟! كنتي سيبيه يمسكها يا فوزية»، أحببت أيضًا الحرج الذي استدعاه الدكتور رأفت في أكثر من مناسبة من «رئيس الجامعة ومعه لفيفٌ من الأساتذة»، وأيضًا عندما مزجت فوزية الرثاء بالاعتداد بالنفس والتغزل بها «يا لوزة يا حلوة يا طعمة يا صغيرة يا منمنمة ياللي ما يجيش منك عشرة».
أما استخدام بعض العبارات الفصيحة في حديث عفوي لفتاة قُدّت من بساطة فقد أعطى بعدا آخر للحوار، قلده غيرها من النجوم الكبار فيما بعد، فمن ضرب حنفي هي «الجماهير الغفيرة» التي «هجمت كالتتار»، كذلك فإن فوزية عندما أرادت أن تتغير وصفت نفسها بأنها «امرأة بلا قيد»، وأنها «تريد خبزا وحنانا».
الصور كثيرة والعبارات التي لازالت تضحكني حتى اليوم كثيرة، وجميلة هي فوزية التي جعلتني أحب الراحلة سناء يونس ولا أتخيلها أبدا في غير براح الكوميديا.
العودة بـ(المزاج)
لكن هذه النجمة التي رسمت لنفسها خطا يختلف عن معظم اللامعات في الساحة وقتها، أعادت بعد سنوات من نجاحها في فوزية تجربة الفتاة التي ينبذها المجتمع، فعادت إلى السينما بفيلم «المزاج» الذي شاركتها بطولته النجمة الجميلة مديحة كامل والراقصة فيفي عبده والفنان أحمد بدير، أنتج هذا الفيلم عام 1991، أي بعد ما يقارب العشرين عاما من فيلمها الأول الذي يدور في نفس الفلك «جنون الشباب»، لتكون هذه المرة «نعمات» الأكثر عدوانية وسادية من «عصمت»، ونعمات لم تنتحر لكنها كانت تعتدي على زميلاتها في السجن بدعم من صاحبة النفوذ والمال و«المزاج» فيه.
نجح الفيلم الذي أخرجه علي عبد الخالق بمقاييس الإنتاج ولم يتجرع مرارة مقص الرقيب، لكني لا أحب أن أرى وجه سناء يونس التي تجولت كثيرا بين التلفزيون والمسرح والسينما ورحلت في مايو 2006، إلا في قالب فوزية الطيبة العفوية والبسيطة، التي تغار على حنفي من ميرفت أمين، والتي تستعين بالجماهير الغفيرة لتمنع زوجها من الإمساك بيدها، والتي ترفض القيد، والتي لا تريد إلا «خبزا وحنانا».