المقالة

الهوربوري مازباد أو الزلنطعي

 

في مرحلة ما دار بيننا مصطلح دارج “زلنطعي” كنا نعرف على من نطلقه، دون أن نستطيع تعريفه بكلمات محددة أو إيجاد مرادف له، لكنه يشير إلى شخص يختزل عدة صفات شائعة تقال بالفصحى والعامية دون أن تفي هذا المصطلح الذي لا جذر له في لغتنا حقه (انتهازي، متسلق، مدعٍ، بلعوط ، متلون، لديه القدرة على التكيف مع أي ظرف، والتواجد في أكثر من مكان في الوقت نفسه…إلخ).

كثيرا ما كنا نُسأل عن المقصود بهذا النعت الذي يروق لنا أن نلصقه بشخص ما تنطبق عليه هذه الصفات أو أكثر منها، وحين نحاول الشرح، يؤتى لنا بمرادف من هذه الصفات، لكننا لا نوافق تماما. إنه ليس حكما قيميا بقدر ما يمثل مهنة لها محترفوها الذين يدافعون عن إدراجها في سلم المهن التي أفرزها عصر الجماهير. وللرد على السؤال نذهب أحيانا إلى أن “الزلنطعي” شخص به كل هذه الصفات، لكن في النهاية لا تستطيع أن تكرهه، فهو يقوم بكل هذه الألاعيب بخفة يحسد عليها وبقدرة دائمة على الابتسام وأخذ من يقابلهم بالأحضان، كما أنه لا ينكر أسلوبه المبتكر للحياة، ولا يخجل منه في الوقت نفسه، لا يبالي بإطلاق هذه النعوت عليه صراحة، بل ويشاركنا الضحك وكأننا نتحدث عن شخص آخر يعرفه.

مع الوقت أصبحنا نتبادل هذا الاصطلاح الذي تم ترويضه لصالح الفكاهة، وبدا منتشرا بشكل كبير وكأن المنتمين له يتكاثرون جرثوميا ، لدرجة وصل الأمر لأن نطلقه على بعضنا البعض كلما بدر من أحدنا تصرف لا يخلو من فهلوة.

مصطلح “الجماهير” لم يكن مصطلحا حديثا اخترعه مهندس عصر الجماهير الليبي، لكن كان حاضرا بقوة في الفلسفة وفي علم الاجتماع وفي علم السياسة وحتى في علم النفس المتأخر، ومنه دبج المفكر الفرنسي، جوستاف لوبون، كتابه المثير للجدل “سيكولوجية الجماهير” قبل أكثر من قرن.

عندما أصبح “الجمهور” الذي تفتقت عنه الثورة الفرنسية مصطلحا قاصراً عن وصف دقيق للشعب ــ أو بمعنى آخر، الجمهور جزء من الشعب الذي في حقيقته يتكون من عدة جماهير ــ خرج هذا المصطلح كلقية للأنظمة الشمولية التي يغريها أن تذيب مفهوم الفردانية؛ الذي استهوى الأدبيات الليبرالية، في كتلة هلامية يمكن إدارتها طبقا لوصفة جوستاف لوبون الذكية، فكانت أنشودة “الجماهير” هي الوصفة المناسبة لصياغة القاعدة البشرية التي تبنى عليها الفاشيات، واستخدم هذا المصطلح بنجاعة لإقصاء مفهومين حضاريين أسهما في بناء الحضارات وهما (النخبة والكفاءة).

عصر الجماهير في ليبيا كان البيئة المناسبة التي خرج منها ذلك الشخص المسمى (الزلنطعي)، والذي أصبحت مواهبه مع الوقت هي شهاداته العليا للوصول إلى المناصب الحساسة، خصوصا حين بدأ التصعيد الشعبي لتقلد المسؤوليات، وأصبحت حكمة المشاركين في التصعيد: لا نحتاج إلى كفاءة بل إلى شخص يستطيع أن يتعامل مع منظومة الإدارة الجماهيرية بحنكة ويجلب لنا المصالح، وكان الزلنطعي هو الشخص المناسب جدا، وهو صاحب اختراع نقل قوارير العسل الجبلي إلى الإدارات المركزية في العاصمة، طرابلس أو سرت، أو ما سمي في ذلك الوقت “إدارة العسل”.

ظل هذا المصطلح عصيا على التعريف، بالنسبة لي على الأقل، ولكن في صدد إعادة قراءتي لكتاب المفكر الإيراني، داريوش شايغان “أوهام الهوية” وجدت ما يقابله في اللغة الفارسية، مع تأكيد شايغان على أنه لم يجد ترجمة مناسبة له، غير أنه يشير إلى نموذج رسمه الفيلسوف الليبرالي الأسباني “إي غاسي” في كتابه “ثورة الجماهير، وهو يتحدث عن النموذج الذي رسمه الكاتب الإيراني، جلال الأحمد:
” على غرار ما فعله خوسيه أورتيغا أغاسي في كتابه “ثورة الجماهير” يرسم جلال الأحمد صورة بليغة لهذا الإنسان الواقع بين بين، الذي يسميه (Horbori Mazbad)، وهي عبارة يصعب ترجمتها، ولكنها توحي، بمعنى ما، بحالة من يدعي الإيمان بشيء ولا يؤمن بشيء. إنه إنسان مقطوع عن ماضيه ولا يملك أية صورة ذهنية عن المستقبل. “إنه ليس نقطة على السطر، بل نقطة افتراضية تطفو على سطح ما، أو معلقة كذرة في الفضاء”.

هذا الإنسان الوضيع المتغرب يغزو كل قطاعات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فالأقل شأنا من بين التجار يمارس التجارة، والأكثر عجزا بين المعلمين يتعاطون بالثقافة، والأكثر إفلاسا من رجال المال يديرون البنوك، والأقل تجذراً بين الناس يُنتخبون في البرلمان. هذا الـ (Horbori) إنسان بلا رأي يميل مع الريح. لا يعارض شيئاً ، يتسلل بسهولة عبر حلقات الشبكة، وفي الأسوأ من الحالات يستعفي ويستسلم. وحين تسقط الحكومة سرعان ما يعود وزيرا في الحكومة اللاحقة، وإذا فاتته بعثة، نراه عضوا في حلقة دراسية، أو فاتته سفارة فلا همَّ، ها هو يصبح وزيرا. يبقى غير قابل للعزل مع أن الحكومات تتبدل واحدة تلو الأخرى. إلا أن هذا الوضيع هو أيضا مخادع بارع، يعرف على أي قدم يرقص، وعند أي قديس يعترف، ومن غير أن يتزود بالبركات يتجه كدوار الشمس نحو شمس السلطة. ولهذا فهو كلي الحضور، نراه في كل مكان، في التجمعات والاجتماعات وفي البعثات.

إنه إنسان خلاسي يعرف من أين تؤكل الكتف. انتهازي، وهو أيضا لا مبال. حين ينسحب من مهمة لا يهمه إطلاقا ما تبقى من الأمور. يصلح لأي عمل ولا يصلح لشيء. بيد أنه يتمتع بثقافة ما، يستعرض معلوماته ويدهش السذج بخطاباته الراعدة. خليط من فردية بلا شخصية، ومن شخصية خالية من أي خصوصية. ولأنه بلا أمان فهو يختبئ وراء الكتمان. ومع أنه يتقن الحفاوة فهو لا يثق بأحد، لأن وسواس الشك مسلط عليه، والكل يثير لديه القلق. خصوصيته الوحيدة الخوف: الخوف من الغد، من فقدان الحظوة، من الخفاء، والخوف أخيرا من خواء هذه الكتلة المتحجرة التي، رغم كونها دماغا، ترزح داخل رأسه”.

بعد النهاية الافتراضية لعصر الجماهير وبداية عصر الميليشيات خضنا الانتخابات لأول مرة في تاريخنا ولكن بعقلية التصعيد التي مازالت تعتبر الكفاءة غير ضرورية، وأصبح الكثير من الهوربوري مازباد متصدرين للمشهد، بينما عادت الجماهير الى سابق عهدها تجيد التهكم في الطوابير على الزلنطعيين الذي دفعت بهم للواجهة.

__________________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

النفاق والنفاق المضاد

عمر أبوالقاسم الككلي

“المَسْدة”: بيت العفة ..ومنتهي الحكايات !!!

زكريا العنقودي

في فلسفة الحزن والإيمان

عبدالله الغزال

اترك تعليق