تحت أحد أقواس الفندق البلدي ببنغازي يجلس حرفي المزامير.. كان رجلا هرما .. معظم سني عمره سقطت في جُبِّ الزمان .. شدقاه متغضنتان بعد رحيل معظم ضروسه إلى الشمس .. تجاعيد متـشابكة قرب الصدغ والعينين .. سراب من لحم يرسم خطوطا أفـقـية على جبهته .. التف حوله بعض الشراة والمهتمين بالتراث والفضوليين أيضا .. امتزج صخب السوق بصخب تجريب المزامير . وسط هذا الضجيج انبعث صوت صادحا بالتحية : السلام عليكم ياعرب .. مصدر الصوت شايب كبير .. أنيق الثياب .. مهذب الشوارب واللحية .. ترتسم على محياه أمارات السعادة والرضا .. يرتدي جردا أبيض كثلج .. يتدلى من عقدة صدره منديل برتقالي .. لوح بيده لكل المحتـشدين .. أفسحوا له الطريق وأجلسوه جانب الزامر على مصطبة مُغطاة بورق مقوى .. التقط أنفاسه .. استراح قليلا .. تفرّس في وجوه الحاضرين .. ثم التـقـف مزمارا لامعا تنتهي قصبتاه بقمعين من القرون تـفتحان إلى أعلى تربط أجزاءه حلقات رقيقة من الجلد القرنفلي القاني .. بينما يتأرجح من عنق المزمار عقد مزدان بالقرنفل والمحلب وقرون الجداء الصغيرة .
جرّب الشيخ أكثر من بالوص .. أخيرا اهتدى إلى التوافق الملائم بين نـفخاته وتحريك أصابعه واستمتاعه .. الكل تملكه التوق للإستماع .. أرسل بأنفاسه الأنغام لتتهادى ببطء كنسيم رهيف مس جناحي نحلة منهمكة في ارتـشاف الرحيق .
سكنت الحركة .. الصخب قـل .. والنغم الذي نقشه في الوجدان أسـّـرَ النفوس .. السوق توقـفت .. أنزلت صروفها من الكفـّـات .. الكل بدأ يقترب .. الكل ترك بضاعته يحرسها الاطمئنان .. أصبحت الأنغام تـتـنـاثر في الفضاء .. والآذان تزدحم حولها .. تلاحق الصدى لتمسك بتلابيبه المنغمة .. أصابع الشيخ تـنـتـقل برشاقة فوق آبار الثـقوب .. تحت الثـقوب هواء دافئ .. تبعثه رئتان حنونتان .. كلما رفع الشيخ إصبعا فاض الومض مع النغم وانساب عبر القرنين لحنا شجيا من صدى النور .
حرفي المزامير سعيدٌ جدا جدا .. راجت بضاعته .. دبّ النشاط في يديه النحيلتين .. تناول من جرابه سكينا وأخرج من قـفة السعف التي بجانبه أعواد قـصب رقيقة .. أخذ يشق مقدمة القصبة بدقة .. يجرح قاطعا من ظهرها بتأن .. ٍ يرفع اللسان المشقوق بظفره .. يتركه يرتطم فجأة محدثا رنـّة لطيفة .. ليلقمه بعد ذلك فمه نافخا في لوحه روح النغم .
الناس حوله مازالت في رحيلها مع الشيخ الزامر .. تستمعه بنشوة .. ترقص مع ارتعاشات البلبلة العذبة .. تصفق .. تـقـفـز .. تصرخ .. تبتهج لما تحدثه الموسيقى الشعبية في مكانينهم من وجد .. الشيخ لم يتوقف عن التـزمير .. أصابعه لم تتعب .. رئتاه لم تشعرا بأي ضيق .. سحر الأنغام أذهبَ عنهما كل صدأ أو صديد .. لكن عينيه ليست معه .. إنهما في مكان آخر .. امتطاهما خيال لذيذ .. أصبحت مغمضتين أمام الناس مفتوحتين في عالمه الذي يعزف له .. تعرف ذلك من تقاسيم وجهه التي تـتسع وتـترحب في فضاء الابتسام .
اقترض الشيخ بعض الأنغام من آذان الحشد المستمع .. أرسلها بزفيره الهادئ إلى حبـيـبـته .. هي الآن جدّة حنون تسكن أحد نجوع درنة .. رماها بسيل من نغماته .. عيناه مترقرقتان بالشجون .. ازدادت النفخات والدقات نبضا وخفقا في إيقاع مؤثر .. تعيده عبر وفاء مخيلته إلى ذاك الصباح المشرق .. عندما كان جالسا إلى جانبها تحت شجرة بلوط وارفة الخضرة والظل .. هي تحلب عنزة وهو يُسعّر النار .. هي تلبس رداء مزركشا وهو يلبس سورية تمزّق أسفلها من حبو الحصاد .. ناولته قدح اللبن الطازج فناولها خبز الشعير الناضج .. اكلا .. شربا .. حمدا الله و نظرا إلى السماء الصافية .
قال لها : بارك الله فيك زودتـيـني بالزاد والماء سألتحق بالمجاهدين بسيدي عمر المختار .
ابتسمت مشجعة .. رافـقـته حتى مربط فرسه في جذع شجرة الزيتون .. همست له وهي تعلف فرسه بحفنات من الشعير والقمح :
ألا تحتاج إلى شيء ؟!
ابتسم لها قائلا : أحتاج إلى زغرودة !
مذ ذاك الزمان لم يرها .. قـُـبض عليه أسيرا في إحدى معارك الجهاد ضد الطليان الفاشيست .. أقـتـيد عنوة إلى جزيرة في عرض البحر .. كان قلب البحر رحيما وقلوبهم قاسية .. كان البحر سلوته في ليالي الوحشة والبرد .. دائما ينعشه برذاذ دمعه المالح .. عانى الكثير من الجوع والعطش والمرض والعذاب والحرمان .. سرقوا جهده .. امتصوا دمه ودمعه وعرقه وشبابه .. نهبوا منه كل ما يملك من متاع .. الشيء الوحيد الذي عجزوا عن انـتـزاعه منه هو زغرودة حبيبته البدوية .. والتي يرسل ترنيمات أنفاسها الآن عبر مزماره .. لتـتـشاجر عليها آذان المخلوقات وتـقطع لجمالها الأخّاذ أصابعها ..