انتقد المؤرخون فيلم ريدلي سكوت “مملكة السماء” عام 2005 -الذي تدور أحداثه حول دخول صلاح الدين القدسعام 1187- على نطاق واسع لعدم دقته.
حتى في الوقت الذي كان فيه الفيلم لا يزال قيد الإنتاج؛ فإن مؤرخ كامبريدج جوناثان رايلي سميث وصفه بأنه “هراء” و”نسخة أسامة بن لادن من التاريخ”، بينما كتب مايكل هاج: “سكوت يعيد كتابة التاريخ، أو بالأحرى يخترعه”. ويختتم تقييمه بقوله إنه “لا توجد علاقة بين أحداث الفيلم والحقائق التاريخية”.
ومهما كان رأي المؤرخين؛ فقد حاز الفيلم ثناءً كبيرا، وذكرت مجلة رولينغ ستون أن “سكوت يقدم الترفيه المثير”، وحقق الفيلم إيرادات تزيد على 211 مليون دولار في شباك التذاكر. ووصف مانولا دارجيس -الناقد في صحيفة نيويورك تايمز- الفيلم بأنه “رواية عادلة ومنصفة عن أحد أقل العصور عدلًا وإنصافًا في تاريخ البشرية”.
إذن من منهم كان على حق: المؤرخون المحترفون أم النقاد والجمهور؟ بدلًا من ذلك يتلخص السؤال فيما إن كان يجب على صانعي الأفلام أن يُثقفوا جمهورهم، أو أن يُسلّوه.
ابدأ التصوير
لا يمكن للفيلم أن يقدم الماضي بدقة مطلقة. وعلى المستوى الأساسي؛ فإن الدقة التاريخية مستحيلة بسبب طبيعة حقائق الإنتاج السينمائي، مثل استخدام الممثلين والأزياء والمجموعات لإعادة إحياء السرد التاريخي.
وحتى لو حققت هذه النتائج توافقًا في الدقة بين المؤرخين، فإن هذه الجماليات لا تخلق سوى نسخة وهمية عن الماضي. يجب على صانعي الأفلام إعادة صياغة حلقة من التاريخ لتصبح قصة قابلة للتسويق، وجذابة للجمهور، وتوفر عائدًا ماليًا للمستثمرين.
في “النسخة النهائية” من دي في دي فيلم “مملكة السماء”؛ أوضح كاتب السيناريو وليام موناهان الحاجة إلى الكتاب لتسوية شأن الدقة التاريخية، وقال “استخدم ما يحقق النجاح للفيلم، ولا تستخدم ما لا يفيد في ذلك”.
في كتابها الذي صدر عام 2007، “التاريخ يذهب إلى السينما: دراسة لما تعرضه السينما عن التاريخ”، سردت مارني هيوز-وارينغتون (المتخصصة في مجال السينما) ما تعرضت له المؤرخة ناتالي زيمون ديفيس من إحباط بعد محاولة العمل مع صانعي الأفلام.
فبعد التعاون مع دانيل فيني وجون كلود مخرجيْ الفيلم التاريخي “Le Retour de Martin Guerre”، شكت ديفيز من أن “جوانب القصة قد تم ضغطها أو تغييرها أو حتى إغفالها”.
وأضافت لهيوز-وارينغتون وفقًا لروايتها: “تساءلت ديفيز عما إن كانت السينما قادرة على التعامل مع الأمور التي تختلف فيها الآراء. وبعبارة أخرى؛ هناك حدود للطريقة التي يمكن بها للأفلام التاريخية أن تخلق رواية ترضي المؤرخين.
الوسط الفني الساحر
ولكن كيف سيتعرف الجمهور على ملامح الحياة قبل قرون من العصر الذي بدأ فيه التصوير؟ وكما قال الباحث الأميركي في العصور الوسطى والمتخصص في العلوم السينمائية، أ. كيث كيلي؛ فإنه ما لم تتمكّن الطباعة -على مدى قرون من الكتابة- من تحقيقه ليُقدر الناس حروب العصور الوسطى، يمكن لأفلام مثل “Braveheart” أو “القلب الشجاع” و”هنري الخامس” أن تحققه في دقائق.
بعبارة أخرى؛ يمكن للوسط الفني أن يوفر للجمهور تجربة تعطي مظهر الأصالة التاريخية، رغم القيود التي تفرضها السينما على تقديم التفاصيل الواقعية المطلوبة.
سيتطلب الأمر مقالة كاملة لتوضيح التفاصيل التاريخية البعيدة عن الدقة في فيلم ميل جيبسون “القلب الشجاع” الذي عُرض لأول مرة عام 1995. إذ تم تبسيط السياسة بشكل مبالغ فيه، لتظهر في صورة سرد مستهلك من اللغة الأسكتلندية الجيدة واللغة الإنجليزية السيئة.
لكن هذا الافتقار الشنيع للدقة التاريخية لم يمنع الفيلم من الفوز بخمس جوائز أكاديمية (بما في ذلك أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل تصوير سينمائي)، وحقق إيرادات تزيد على 210 ملايين دولار في شباك التذاكر.
ليس درسًا
يمكن للفيلم الوثائقي توفير مستوى أعمق من الدقة، ولكن افتراض الدقة التاريخية لا يزال يمثل مشكلة. يجب على صانعي الأفلام الوثائقية التنازل عن الدقة والتفاصيل لبناء “السرد” المطلوب.
على سبيل المثال؛ يركز فيلم Crusades: Crescent and the Cross على الحملة الصليبية أيام صعود صلاح الدين وصراعه مع ريتشارد قلب الأسد، بينما تجاوز صعود المماليك. وهذا يخلق قصة تصور الحرب الصليبية الثالثة كذروة للحملات الصليبية التي استمرت بالفعل لمدة 100 سنة أخرى.
ولكن من السذاجة أن نقول إن الجماهير لا تستطيع أن تفرق بين الحقيقة والخيال الأدبي. إذ توحي دراستان -إحداهما من الولايات المتحدة والأخرى من أستراليا- بأن الناس يميلون إلى الثقة في الكتب وأعمال المؤرخين والمتاحف الأكاديمية، أكثر من الأفلام أو البرامج التلفزيونية.
لذا، لا يتوقع الجمهور حتى أن يقوم صانعو الأفلام بتثقيفهم، كما تظهر الأرقام أن أفلام الخيال التاريخي تصير مربحة عندما يتحول الفيلم لتجربة ممتعة، بدلًا من كونه إعادة سرد دقيقة للأحداث التاريخية. فالفيلم التاريخي ليس درسًا في التاريخ، ولكنه خيال تاريخي يوفر مستوى من الأصالة ويخلق قصة في إطار تاريخي معين.
إذا لم تكن الجماهير تتوقع الدقة بنسبة 100%، فلماذا تزعج نفسك بمقارنة هذه القصص الخيالية مع أعمال علماء التاريخ؟ ليست الدقة ضرورية لتحقيق أرباح عالية، ولا للنجاح الكبير، ولكن الأفلام التاريخية الجيدة يمكن أن تدفع الناس لمعرفة المزيد عن الفترة التي يتم تصويرها.
إن مقارنة الفرق بين الحقيقة التاريخية والخيال السينمائي لا يُمكّن المشاهد من تحليل ما يدركه المخرج عن هذه الفترة فقط، بل وتحليل ما يريد صانع الأفلام أن يقوله من خلال هذا الواقع التاريخي. وعلى أي حال؛ كما سمعنا من قبل “استخدم ما يحقق النجاح”.