من أعمال التشكيلية خلود الزوي.
قصة

حضن شاغر

فهيمة الشريف

من أعمال التشكيلية خلود الزوي.
من أعمال التشكيلية خلود الزوي.

تقليت في الفراش كثيرا محاولة النوم لكنها لم تستطع، كلما أغمضت جفنيها فر النعاس منهما و بدت الأفكار في الورود إليها.

لم تكن هذه الليلة الأولى التي تقضيها ‘صفية’ ساهرة حتى وقت متأخر، مطرقة في أحلامها، مشغولة بمواقف مرت بها خلال يومها أو تلك التي عفى عليها الزمن و بقيت مركومة في داخلها تفتق جروحا مغمورة كلما تذكرتها،لا شيء يخفف وطأة ألمها سوى الدموع السخينة تذرفها و هي تلوك عبارات الندم حتى يأخذها النوم في رحلته الهادئة. كانت ‘صفية’ البالغة من العمر السادسة و الأربعين عاما تعيش لوحدها في منزل حديث بعد وفاة والديها و زواج إخوتها الذين قلما يزورونها و تزورهم، الأعياد و المناسبات الاجتماعية النادرة تجمعهم،هي أيضا نادرا ماتبقى في البيت، في الصباح تخرج إلى عملها في شركة الاتصالات حتى الواحدة ظهرا ثم تذهب لمقر الجمعية الخيرية الخاصة بالأطفال المعوقين ذهنيا و لا تعود للمنزل إلا مع الثامنة مساء ،أما يوم الراحة فتمضيه في متنزه عائلي ليس ببعيد عن مكان سكناها.

رغم تقدمها في السن إلا إنها تبدو صبية في ريعان الشياب بملامح وجهها الرقيقة و جماله، لا تضع مساحيق تطمسه بل هو قلم أحمر شفاه خفيف و قليل من الكحل في عينيها الخضراوين و هندامها الأنيق المتناسب مع قوامها الرشيق ،كل من يراها تقع من نفسه موقع الإعجاب لكن لا أحد يجرؤ على محادثتها أو طلب الزواج منها فهي ذات شخصية قوية و لها أسلوب صعب في التعامل مع الرجل و تعتبر نفسها ندا له، لا يمكنه مجاراتها في قرار تتخذه أو تجاهل وجودها،كل زملائها يحسبون لها ألف حساب خصوصا في الأونة الأخيرة بعدما تسلمت منصب رئيس قسم المبيعات، كذلك رئيس مجلس الإدارة يستشيرها قبل البث في أي أمر كأنها الآمر الناهي في الشركة، رغم مزاجها المعقد و الصعب إلا أن قلبها الطيب الرقيق يحب الأطفال لدرجة لا توصف.

عندما كانت في العشرين من عمرها تهافت الخطاب عليها من كل صوب لكنها رفضتهم جميعهم بحجة عدم التفكير إلا في دراستها و صنع مستقبلها و الزواج سيعرقل ذلك، و أحيانا بأن من تقدم إليها ليس بالزوج الكفؤ، وحينا بأن الزواج أمر تافه لا يعني لها شيئا، في كل مرة كانت والدتها تسدي إليها بالنصح وهي تعرض عنها مغترة بجمالها وشبابها، آخر خاطب طرق بابها عندما كانت في الثانية و الثلاثين وقتها بدأت العمل في الشركة ولا حجة للدراسة لكنها رفضته ﻟﻔﻘﺮﻩ ﻭﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺍﻟﻮﺿﻴﻌﺔ ﻛﻨﺎﺩﻝ ﻓﻲ ﻣﻄﻌﻢ ﻟﻠﻮﺟﺒﺎﺕ ﺍﻟﺘﺮﻛﻴﺔ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺮﻛﺔ ﻛﺎﻥ ﻗﺪ ﺭﺁﻫﺎ. ﻓﺄﻋﺠﺒﺘﻪ، ﻋﻠﻢ ﻛﻞ ﺍﻟﺰﻣﻼﺀ ﺑﺄﻥ ‘ﺻﻔﻴﺔ’ ﺗﺮﻳﺪ ﺭﺟﻼ ﻏﻨﻴﺎ ﻭ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ ﻻ ﻳﻤﻠﻚ ﺳﻮﻯ ﺗﻠﺒﻴﺔ ﻃﻠﺒﺎﺗﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﻧﻘﺎﺵ ﻓﺼﺮﻑ ﺍﻟﻄﺎﻣﻌﻴﻦ ﻧﻈﺮﻫﻢ ﻋﻨﻬﺎ ﻭ ﺭﺿﻮﺍ ﺑﺎﻹﻋﺠﺎﺏ ﻋﻦ ﺑﻌﺪ.

ﻣﻨﺬ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻧﺴﻲ ﺍﻟﺨﺎﻃﺒﻴﻦ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﺇﻟﻰ ﻣﻨﺰﻟﻬﺎ ﻭ ﺍﻧﺪﺳﺖ ﻓﻲ ﺃﺣﻼﻣﻬﺎ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﺗﺠﺘﺮ ﺭﻏﺒﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺰﻭﺍﺝ ﻣﻦ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻣﻌﺪما ﻻ ﻳﻤﻠﻚ شيئا ﺍﻟﻤﻬﻢ ﺃﻥ ﺗﺤﺼﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻃﻔﺎﻝ. ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺷﻌﺮﺕ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻥ ﺃﻟﻤﻬﺎ ﻳﺰﺩﺍﺩ ﻭ ﻣﺸﺎﻋﺮﻫﺎ ﺧﺎﻭﻳﺔ، ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺗﺤﻴﻄﻬﺎ ﺑﺄﺳﻮﺍﺭ ﺣﺪﻳﺪﻳﺔ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﻔﻜﺎﻙ ﻣﻨﻬﺎ. ﻟﻴﻠﺔ ﺯﺍﺩﺕ ﺑﺮﻭﺩﺗﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﺒﺮﺕ ﺑﺨﻴﺎﻝ ‘ﺻﻔﻴﺔ’ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ ﺍﻟﺒﺎﻛﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺘﻨﺰﻩ ﻭ ﻫﻮ ﻣﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﻇﻨﺎ منه أنها ﺃﻣﻪ ﻭ ﻫﻲ ﺗﻼﻃﻔﻪ ﻭﺗﺤﺎﻭﻝ إﺳﻜﺎﺗﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺟﺎﺀﺕ ﺃﻣﻪ ﻭ ﺃﺧﺬﺗﻪ، ﺗﻨﻐﺼﺖ ﻭﻳﺪﺍﻫﺎ ﺗﻄﻠﻘﺎﻥ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮ، ﻟﺴﺎﻧﻬﺎ ﺃﺧﻔﻰ ﺃﻣﻨﻴﺔ “… ﺁﻩ .. ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻟﻲ ﻃﻔﻞ ﻳﻘﻮﻝ: ﻣﺎﻣﺎ”.

ﺑﻼ ﺳﺎﺑﻖ ﺇﻧﺬﺍﺭ ﺍﻧﻬﻤﻠﺖ ﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ﺗﺴﻘﻲ ﺧﺪيها ﺍﻟﺮﻃبتين ﻭ ﺃﻧﺎﻣﻠﻬﺎ ﺗﺮﺗﺠﻒ ﻣﺎﺳﺤﺔ، ﻟﻢ ﺗﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻭ ﺷﺮﻳﻂ ﺍﻟﺬﻛﺮﻳﺎﺕ ﺑﺪﺃ ﻋﺮﺿﻪ ﺍﻟﻤﻌﺘﺎﺩ ﻫﺬﻩ ﺻﻮﺭﺓ ﻟﻄﻔﻞ ﻳﺴﺄﻟﻬﺎ:

– ﺧﺎﻟﺔ ﺃﻧﻲ ﺃﺭﺍﻙ ﻛﻞ ﺟﻤﻌﺔ ﻫﻨﺎ ﻭ ﻻ ﺃﺭﻯ ﺃﻃﻔﺎﻟﻚ ﻣﻌﻚ. لماذا لم ﺗﺠﻠﺒﻴﻨﻬﻢ؟

ﻭ ﺁﺧﺮ:

– ﺃﺭﺟﻮﻙ ﻳﺎ ﺧﺎﻟﺔ أﺣﻀﺮﻳﻬﻢ ﻟﻨﻠﻌﺐ ﺳﻮﻳﺎ.

ﻭﺻﻮﺭﺓ ﻷﻃﻘﺎﻝ ﻳﻘﺒﻠﻮﻧﻬﺎ ﻭﻳﻄﻠﺒﻮﻥ ﺍﻟﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻠﻮﻯ ﻭﻳﻤﺮﺣﻮﻥ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﻭﺃﺧﺮﻯ ﻟﺮﺟﻞ ﻣﺴﻦ ﻳﺨﻄﺒﻬﺎ ﺗﺮﻓﻀﻪ، ﻭ ﻫﻨﺎ ﻋﺎﻣﻞ ﻧﻈﺎﻓﺔ ﺗﺸﺘﻤﻪ ﻭ ﺗﺘﺄﻓﻒ ﻣﻦ ﺟﺮﺃﺗﻪ، ﺫﺍﻙ ﺍﻟﻤﻮﻇﻒ ﻓﻲ ﺷﺮﻛﺔ ﺍﻟﻜﻬﺮﺑﺎﺀ تعاند ﺭﻏﺒﺘﻪ ﻭﺗﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﻫﻮ ﺃﺭﻗﻰ ﺭﺗﺒﺔ ﻓﺠﻤﺎﻟﻬﺎ ﻳﺴﺘﺤﻘﻪ ﻭﺯﻳﺮ ﺃﻭ ﺭﺋﻴﺲ ﺩﻭﻟﺔ ﻻ ﺗﺎﻓﻪ ﻣﻦ ﻋﺎﻣﺔ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺁﻫﺎﺕ ﺗﺨﺮﺝ ﺻﺎﺭﺧﺔ ﻭ ﻗﻠﺒﻬﺎ ﻳﺘﻤﺰﻕ ﻟﻮﻋﺔ ﻭﻫﻲ ﺗﺼﻐﻲ ﻟﺼﻮﺕ ﺃﻣﻬﺎ ﺍﻟﺒﻌﻴﺪ:

– ﺍﻟﻔﺮﺹ ﻻ ﺗﺘﻜﺮﺭ ﻳﺎ ﺍﺑﻨﺘﻲ … ﻻ ﺗﺮﻓﻀﻲ ﻓﻘﻄﺎﺭ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﻳﺠﺮﻱ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﻭ ﻟﻦ ﺗﺸﻌﺮﻱ ﺑﻪ … ﻻ ﺗﺘﺮﻛﻲ ﻣﺠﺎﻻ ﻟﻠﻨﺪﻡ ﻳﻮﻣﺎ ﻳﻔﺠﻌﻚ.

ﺻﺮﺧﺖ ﻭ ﻫﻲ ﺗﻠﻄﻢ ﻋﻠﻰ ﺧﺪﻳﻬﺎ:

– ﺑﻠﻬﺎﺀ .. ﺃﺟﻞ ﻛﻨﺖ ﺑﻠﻬﺎﺀ .. ﻻ ﺃﺣﺪ ﻳﻤﻸ اتساع ﻋﻴﻨﻲ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ … ﻻ ﺷﻲﺀ ﺳﻴﻌﻮﺽ ﺃﻣﻮﻣﺘﻲ ﺍﻟﻐﺎﺋﺒﺔ .. ﻻ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭ ﻻ ﻛﺜﺮﺓ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻭ ﻻ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻟﻄﻤﻮﺣﺎﺕ .. ﻣﺎ ﺃﻏﺒﺎﻧﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺭﻓﻀﺖ ﺍﻟﻔﺮﺹ.. ﺁﻩ .. ﻟﻮ ﻳﺮﺟﻊ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻟﻠﻮﺭﺍﺀ ﻭأﻭﺍﻓﻖ ﻋﻠﻰ أﻓﻘﺮﻫﻢ ﻭ أﺩﻧﺎﻫﻢ ﻣﻨﺰﻟﺔ .. ﺁﻩ .. ﺁﻩ ﻳﺎ ﺃﻣﻲ.

ﻓﻲ ﻭﺳﻂ ﻋﻮﻳﻠﻬﺎ ﺃﺣﺴﺖ ﺑﻤﻐﺺ ﻗﻮﻱ ﺃﺳﻔﻞ ﺍﻟﺒﻄﻦ ﺳﺮﻋﺎﻥ ﻣﺎ ﺍﺳﺘﺤﺎﻝ ﺁﻻﻣﺎ ﺣﺎﺩﺓ ﻛﺴﻜﻴﻦ ﺗﺠﺰﺭ ﺍﻟﻠﺤﻢ ﻭ ﺗﻔﺘﺘﻪ ﺇﻟﻰ ﻗﻄﻊ ﺻﻐﻴﺮﺓ، ﻛﺎﺩﺕ ﺗﻨﻬﺎﺭ ﻭ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺧﺰ ﺍﻟﻤﺘﻮﺍﺻﻞ ﻟﻮﻻ ﺗﺠﻠﺪﻫﺎ، ﺑﻌﺪ ﺛﻮﺍﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻠﻮﻱ ﻭ ﺍﻟﺘﻘﻠﺐ ﺷﻌﺮﺕ ﺑﺮﺣﻤﻬﺎ ﻳﻨﺘﻔﺦ ﻭ ﻳﺰﺩﺍﺩ ﺣﺠﻤﻪ، ﺻﺪﺭﻫﺎ ﻳﻜﺒﺮ و ﻳﺘﻀﺨﻢ، ﺍﻷﻟﻢ ﻳﺸﺘﺪ، ﻗﺎﻭﻣﺖ ﻟﺘﻨﻬﺾ ﻭﺗﻘﻒ على ﻗﺪﻣﻴﻬﺎ.

ﻓﺠﺄﺓ ﺍﻧﺪﻓﻊ ﺩﻡ ﻳﺴﺎﺑﻖ ﺻﺮﺍﺧﻬﺎ ﻭ ﻫﻨﺎﻙ ﻓﻲ ﺍﻷﻋﻠﻰ ﺳﺎﺋﻞ ﺷﻔﺎﻑ ﻳﻘﻄﺮ ﻣﻦ ﺣﻠﻤﺘﻲ ﺻﺪﺭﻫﺎ.. ﻟﻘﺪ ﻣﺎﺕ ﻃﻔﻠﻬﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺓ ﺃﻳﻀﺎ ﻭ ﻟﻠﻤﺮﺓ ﺍﻷﻟﻒ ﻣﻨﺬ ﺳﻦ ﺑﻠﻮﻏﻬﺎ، ﻇﻞ ﺣﻀﻨﻬﺎ ﺷﺎﻏﺮﺍ ﻭ الحلم ﻳﺮﺍﻭﺩﻫﺎ ﻓﻲ ﺭﺅﻳﺔ ﻃﻔﻞ ﻳﻨﺎﺩﻳﻬﺎ: ﻣﺎﻣﺎ ….

مقالات ذات علاقة

وجه أمّي وطن

محمد المسلاتي

حين غابت الغولة عن حكايات جدتي!!

زكريا العنقودي

محلل

إبراهيم حميدان

اترك تعليق