من أعمال التشكيلي جمال دعوب.
قصة

عن المدينة والبحر وبرنيس

من أعمال التشكيلي جمال دعوب.
من أعمال التشكيلي جمال دعوب.

 

بعد أن حادت الشمس عن منتصف السماء..عاد العربادجي (بوراوي) إلى منزله في شارع (المدنية) وهو يمسح قطرات العرق عن جبهته ويلهب جسد الحصان بالسوط.. يتباطأ الحصان في جر العربة منهكاً من كثرة التجوال في شوارع مدينة بنغازي ..ونقل الركاب طيلة الصباح ..يحرقه بين الحين والآخر لهيب السوط.. فيسرع قليلا.

وصلت العربة إلى المنزل .. دخل الحصان يجرها من باب (بوخوخة) .. أزاح (بوراوي) ثقل العربة عن جسد الحصان..ووضع له التبن والماء..نفث الحصان زبده متنهداً بارتياح.. أكل وشرب ثم قذف بعره..وراح يدندن لنفسه مردداً مطلع أغنية شعبية:
(داي طال والقلب انكوى ونار الحب توقد في العضا)

تناول (بوراوي) غداءه.. غرق في نوم القيلولة..علا شخيره فوصل إلى سمع الحصان..نظر الحصان إلى فتحة باب (بوخوخة) الموارب.. قال بفرح وهو يحدث نفسه :
ـ هذه فرصة مناسبة .. إن (بوراوي) يغط في سبات عميق..ولابد أنه قد دخل إلى عالم الأحلام ..سوف لن يستيقظ الآن…

تقدم الحصان .. ضرب برجله ظلفة الباب فانفتح أمامه ..خرج إلى الشارع وسار متحرراً من العربة .. شعر أنه خفيف الحركة ..فانطلق يركض حتى وصل إلى سوق (بن عمران) ..توقف عند دكان صغير لنجار يبيع (القباقيب و المعاصد والمغارف وضرابات المقطع والصفر ).. صهل بصوت مرتفع.. توقف على قائمتيه الخلفيتين بعد أن رفع الأماميتين.. وصاح في النجار :
ـ أيها النجار أريد قبقاباً .. هيا أريد قبقابا .. أريد أن أتمخطر مثل الآدميين ..

وقف النجار مرعوباً .. توقفت الكلمات في حلقه.. لم تسعفه الإجابة.. امتلأ قلبه خوفا .. ازدادت دقاته .. وارتعش بدنه..فصاح به الحصان :
ـ ألم تسمع ما قلته لك ؟..أريد قبقاباً يا تيس التيوس وإلاَّ رفستك بقدمي هاتين..وأزهقت روحك..هيا.. أحضر لي قبقاباً في الحال..
نطق النجاربصعوبة..وقال بارتعاش ظاهر :
ـ حسناً .. حسناً أيها الحصان..سأعطيك ما تريد..فقط لا تغضب.. اهدأ .. اهدأ ..حالاً سأحضر لك القبقاب..

أحضر النجار زوجين من القباقيب .. وألبسهما للحصان مثبتاً إياهما بيدين مرتعشتين في أرجله الأربعة .. فشكره الحصان ممتناً بعد أن هدأ غضبه وقال له :
ـ اسمع أيها النجار ..أنا لا أحب أكل حقوق الناس لأني حصان طيب.. بإمكانك أن تأخذ ثمن الزوجين من القباقيب من العربادجي ( بوراوي) فأنا حصانه الذي يكسب من تعبه لقمة عيشه .. ولا بأس إذا اشتريت قبقاباً على حسابه .. وهو رجل كريم وسوف يعطيك حقك..

صهل الحصان معبراً عن بهجته .. ومضى عبر شارع (بالة) وهو ينفث الزبد من فمه ويدندن مبتهجاً .. ثم عرج على السوق البلدي وتوقف أمام دكان لتاجر يبيع التبن والشعير .. صهل وتوقف على قائمتيه الخلفيتين قائلاً له :
ـ أعطني بالة تبن .. هيا قلت لك ..أعطني بالة تبن..

لم يصدق التاجر أذنيه .. وتسمر واقفاً ينظر إلى الحصان باستغراب..فأعاد الحصان طلبه مهدداً التاجر :
ـ ألم تسمع ما قلته لك يا بسطاردو ؟.. أعطني بالة تبن إذا أردت أن تنجو من رفساتي ..هيا تحرك في الحال وإلاَّ………..
فقاطعه التاجر مذعوراً :
ـ لا بأس .. لا بأس.. سأعطيك ما تريد..

ثم حمل بالة من التبن ووضعها فوق ظهر الحصان مثبتاً إياها بحبل .. فشكره الحصان وقال له :
ـ أنا حصان العربادجي (بوراري).. بإمكانك أن تطالبه بثمن بالة التبن حين يزورك كعادته..
ومضى الحصان يتمخطر مبتهجاً بصوت القبقاب وهو يطرق الأرض يتجه عبر الشارع المؤدي إلى منطقة (سوق احداش) .. وعلى امتداده ناحية منطقة (دكاكين حميد).

كان صوت القبقاب يصل إلى أذنين المارة فيما دقات قلب الحصان تخفق بشدة كلما اقترب من الوصول إلى مربط الفرس التي غامر لأجلها وحمل إليها بالة التبن هدية..
وفيما هو يسير قال يمني نفسه :
ـ أرجو أن تصهل الفرس برضا وسعادة حين تسمع وقع أقدامي من بعيد..

مقالات ذات علاقة

الصـــــراخ

إبراهيم حميدان

قصيدة التأتأة

المشرف العام

ثورة باب بن غشير الأخيرة

عبدالحكيم الطويل

اترك تعليق