أول مرة صادفني فيها اسم مفتاح العماري كشاعر، أو أول مرة انتبهت فيها إلى هذا الاسم، كان في ثمانينيات القرن الماضي، حين كنت سجينا سياسيا.
في فترة أخذت إدارة السجن توزع علينا الصحف بشكل شبه منتظم وكنا نحتفي بما نجده من كتابات واعدة، خصوصا في مجال الشعر والقصة والنقد الأدبي، وتصادف أن وصلنا عدد من مجلة “الشعب المسلح” كانت به قصيدة لمفتاح.
لا أذكر عنوان القصيدة الآن.
ولا أريد أن أستخرجها من دواوينه الموجودة لدي.
أريد أن أعيد تمثيل الواقعة. وأستعيد أجواء و مشاعر اللحظة.
شدتني القصيدة من بدايتها (وأنا من النوع الذي، غالبا، لا يكمل نصا أدبيا لم يشده منذ البداية، حتى ولو كان قصيرا).
لا أذكر الآن شيئا منها، ولا مناخها العام.
أذكر، فقط، سطرا واحدا، كان أكثر ما أثر في ذائقتي الجمالية:
” موزع قلبي كدخان القطارات المسافرة”
يا للروعة!. بأي ملقط من ملاقط الإبداع، بأية أنامل خيال رشيقة خبيرة، بمنقار وبراعة أي طائر حوام صياد سمك، انقض خيال الشاعر، في خفة ورشاقة الكوبرا الرصينة، وانتشل هذه الصورة الفذة، من بين الصور المتطايرة هنا وهناك؟. وأي عالم تقذفه في مخيلة القاريء:
برارٍ مترامية متنوعة التضاريس وأفق منفتح برحابة خيال المبدع، وقطار طويل (يمكن أن يكون رمزا للحياة برمتها) يسير متلويا بعرباته المتجرجرة كزمننا المضطرب، قلب القطار يجيش بالحركة والدفء وصهيله يشق الفضاء والسكون. دخانه المتصاعد، قاصدا قلب السماء، ما يلبث أن يتشتت في الهواء، كمشاعر قلب صديقي الشاعر المحتشد، لحظة كتابة القصيدة، بالوجد والأسى، والحب والشوق والهواجس والإحساس بانفراط الأشياء. ثمة، في هذه الصورة، إحساس عميق بالخسارة والتلاشي وخوف من استمرارهما وتحولهما إلى خواء وعدم. ثمة نبوءة، وثمة رغبة في ألا تتحقق هذه النبوءة. أن تكون نبوءة كاذبة!. يضاف إلى ذلك أن الصورة كلها مكتنفة، ومستبطنة، بالسفر، الذي هو دلالة على التبدل والتجدد والاكتشاف المصحوب بالهواجس، وبعبارة أخرى: دلالة على الحرية.
لا أزعم أن حبات عنقود الصورة ارتسمت، فور تلقيَّ لها، واضحة في ذهني على النحو الذي أوردته أعلاه.
لكن من المؤكد أنها اخترقت وجداني وظلت تحفر فيه، لأنها تتوفر على كل ما كان يمتليء به وجداني: وجدان السجين المصادرة حريته.
في الأشهر الأولى بعد إعادتنا إلى الحياة خارج السجن، التقيت بمفتاح العماري.
كان اللقاء بمناسبة انعقاد المؤتمر السادس عشر لاتحاد الأدباء والكتاب العرب في طرابلس.
لم أعد الآن أذكر تفاصيل اللقاء.
اكتشفت أنه كان يعرفني من خلال نصوص قليلة قرأها نشرت في السبعينيات، و بالذات قصة “القفزة” التي كان معجبا بها. واكتشف هو أنني، أنا الخارجَ من ضنك الزنازين وما تحاوله من فتك بالروح والجسد، أعرفه ومعجب بأشعاره. فسرع ذلك من انعقاد علاقة سلسة بيننا قوامها الود والاحترام العميق المتبادلين.
لم تساعدنا ظروف الحياة على التواصل المنتظم، فكانت غالبية لقاءاتنا بمحض الصدفة. لكن الود ظل مبسوطا والتقدير عميقا والاحتفاء بكتابات بعضنا حارا وواضحا.
منذ أمد بعيد، لم تعد مكانة الشاعر مفتاح العماري في خريطة الحركة الشعرية الليبية محل أخذ ورد. فهو شاعر ذو تجربة متميزة، غنية، تجعل منه علامة بارزة من علامات حركة الحداثة الشعرية في ليبيا. إضافة إلى كتاباته النقدية ذات المنحى الرصين الذي يُفتِّح النص المنقود وينور القاريء، بعيدا عن لجلجة الادعاء ورطانة الإيهام بالعمق وطول الباع.
______________________
(*) إشارة إلى عنوان قصيدة الشاعر الشهيرة: ” رجل بأسره يمشي وحيدا”. والمقال كتب منذ سنوات عديدة بطلب من المشرفين على القسم الثقافي بصحيفة “قورينا” حين كانوا يعدون لإصدار ملف عن الشاعر تضامنا معه في محنة مرضه. لكن، لسبب لا أدريه، ألغي مشروع الملف ولم ينشر المقال منذ ذلك الحين.