صفحات كتاب
دراسات

أَسَاسِيَّات التأليف في الأدب العربي -ج 1

سنشرحُ العُنْوان بإيجاز..

ونبدأ بأنَّ المقصود بالتأليف كلّ عمل نثري أو شعري باللغة العربية أبدعه مؤلفون يعيشون في بلدانهم ولا يعانون ضغط الغُرْبَة وإنعكاساته على نصوصهم.

ويتحدَّدُ العملُ النَّثْرِي في أجناس أدبيَّة كثيرة كالراوية، والقصة القصيرة، والدراما المسرحية، والخاطرة، وبعض مستويات السيرة الذاتية، والمَقامَة، والمقالة الأدبية.

ويَضُمُّ الإبداع الشعري : القصيدة العمودية ، والقصيدة الحديثة، والمسرح الإستعراضي الغنائي و”الأوبريت” ذات الحَدَثِ والحَبْكَة، والإنْشاد الملحمي المتضمَّن أحداثاً واقعية وتاريخية، ثم ويضم الإبداع الشعري: القصيدة العمودية، والقصيدة الحديثة، والمسرح الاستعراضي الغنائي و«الأوبريت» ذات الحدث والحبكة، والإنشاد الملحمي المتضمن أحداثًا واقعية وتاريخية، ثم الأسطورة وهي مزيج من صميم المعتقدات القديمة والفلكلور الشفهي المتحدر إلى أزمنة بعيدة قبل نقشه في الحجارة أو تحبيره على الجلود وأوراق البردي.

وتشكل الأسطورة الموضوع الذي يختص بدراسته علم شهير هو «الميثولوجيا mythology واخترنا كلمة ” أدب ” لأننا سنتطرق بإشارات عابرة إلى آداب الأمم الأخرى.

وبشأن الرواية يبدو بارزًا ـ لأي عابر سبيل ـ طود الرواية العربية الكاتب المصري الكبير «نجيب محفوظ».

وقد تبوأ هذه المكانة العالية بفضل النفس الطويل والمثابرة والمقدرة الأدبية الفذة التي يمتلكها «نجيب محفوظ» وليست في حوزة معاصريه أو سابقيه.

والواقع أن نشأة الرواية العربية تعود إلى القرن التاسع عشر.

وهذا يعني أنه قبل نجيب محفوظ بفترة طويلة ظهرت الرواية العربية لكنها لم تكن بطبيعة الحال ذات قيمة أدبية وإن كانت تحمل سبقًا تاريخيًّا كإحدى البواكير لهذا النوع الأدبي.

وقد عثرنا على خبر به تقريظ لرواية معينة في مجلة «المقتطف» المصرية التنويرية التي كان يصدرها الأستاذان الكبيران «يعقوب صروف» و«فارس نمر» وذلك في عددها المؤرخ في مايو سنة ١٨٩٥م حيث جاء ما يلي:

«شمس الضحى» هي رواية أدبية غرامية فكاهية مهذبة الألفاظ والمعاني، ألفها حضرة الكاتب الأديب «حبيب أفندي حنا» من موظفي إدارة الخزينة العمومية بنظارة المالية، وزينها بكثير من الصور، وقد طبعت في مطبعة «المقتطف» طبعًا متقنًا فنثنى على حضرة مؤلفها ثناءً عاطرًا، ونتمنى لها الانتشار.

وينبغي أن نلاحظ بعد قراءة الخبر أنه وفق المتداول في المجتمع المصري لا يطلق لقب “أفندي” على الدرك بل على كل متعلم يرتدي الطربوش أو الزي الإفرنجي المعتاد حاليًّا في جميع البلدان العربية وغيرها.

ومع ذلك كله يظل ظهور الرواية العربية الحديثة مقترنًا باسم نجيب محفوظ كرائد للرواية العربية وأديب أصيل حاز أخيرًا على جائزة «نوبل» العالمية في الأدب اعترافا بدوره ومستواه الأدبي الرفيع.

وقبل ذلك الصيت الرنان.. منذ أن كان نجيب محفوظ طالبًا في الجامعة كان يقرأ مقالات وأبحاث الكاتب الكبير «سلامة موسى»، ويتابع ذلك بإعجاب، وبعدما نال ليسانس كلية الآداب في مادة الفلسفة لم يشتغل مدرسا أو كاتبًا بإحدى الصحف الكبرى بل التحق بعمل روتيني محض، وتوطدت علاقته بعد تخرجه بالأستاذ سلامة موسى.

وعن العمل الروتيني، فنجيب محفوظ هو الأديب الوحيد في البلاد العربية الذي إستطاع المواءمة بين الروتين ونزعات الفنان وسجاياه التي تضيق بالنظم الروتينية.

وإزاء ذلك أبدى الكاتب المصري المعروف الأستاذ «أنيس منصور» تعجبه قائلاً: “إن “نجيب محفوظ ” منظم في كل أحواله إلى حد يفوق الوصف، وهو فريد في هذا الباب لدرجة أن جميع أوقاته على مدار النهار والليل مبرمجة لا يحيد عنها قيد أنملة».

وفي تلك الأثناء شرع نجيب محفوظ في إتمام رواية حملها بعد ذلك إلى أستاذه سلامة موسى، لكن الأستاذ لم يوافق على نشرها ولاحظ أنها قليلة النضج، ورغم ذلك أطرى بعض جوانبها وطالبه بكتابة رواية جديدة، فعكف نجيب محفوظ عدة أشهر يعالج روايته الجديدة.

والحقيقة أن تأثير سلامة موسى في توجيه الأديب كان فائق الأهمية.

وفيما بعد صور الأستاذ نجيب هذا التوجيه في رواياته.

وسنرى أن هذين العلمين «سلامة موسى» و«نجيب محفوظ» أحبا وطنهما مصر، وسعى كلاهما للارتقاء به على مدارج التقدم.

كان الشغل الشاغل لنجيب محفوظ في ذلك الحين البعيد هو وصل ما انقطع من التاريخ الوطني التليد، حيث دهور الفراعنة الطويلة تتجلى للقراء المصريين في رواياته الأولى التي شكلت مرحلة أدبية وفكرية متماسكة البنيان. ومن إبداعات تلك المرحلة رواية «كفاح طيبه».

وفي الجهة المقابلة كان الأستاذ سلامة موسى يعتني بنفس الأمور التي تخص مصر وماضيها الحافل بالزراعة ونظم الري الطليعية، وبالصناعة والتعدين والطب والفنون التشكيلية والموسيقى والتقويم الشمسي وأرصاد الفلك والفلسفة والآداب والغناء.

وأثناء تلك الآونة كان “نجيب محفوظ” يزداد يقينًا بأنه عزز إحساس المصريين بموروثهم الحضاري لكنه أدرك أيضًا أن هذا الاستقطاب الصائب قد أدى دوره ولم يعد في حاجة إلى المزيد. وكان حائرًا بصدد خزائن الذكريات والانطباعات في نفسه الجياشة، وهي خزائن زاخرة بيوميات طفولته وصباه قرب جبل «المقطم» وأحياء الجمالية وسيدنا الحسين والسيدة زينب والأزهر والموسكي والفجالة. وفي باله تزاحم الكثير من الأشخاص الواقعيين الذين عاصرهم في ماضيه وعرف خفاياهم وسجاياهم وأساليب سلوكهم، وكان يرغب رغبة عارمة في التعبير عن ذلك كله بالكتابة الأدبية التي لا تكون مجرد اجترار عادي للذكريات. فالأشخاص في الأدب الحقيقي مثل الأشخاص في الحياة ليسوا أرقامًا ذات نتائج حتمية في كافة الظروف المتشابهة، ولا مجرد طلاء من أسماء، بل هم أغوار وتكاوين تضارع البعد الثالث في اللوحات الإبداعية، حيث تغوص العين في عمق المنظر المترامي بكل تفاصيله داخل الرواية. ونحن نميز ذلك في أدب «نجيب محفوظ» فقليلاً ما كان يلجأ إلى التدخل من منظور مستقل لتصوير الأشخاص والبيئات والأمكنة باعتباره المؤلف للنص والمراقب الخفي في آن واحد، فالأشخاص ينبثقون ويتبلورون في رواياته ككائنات آدمية حقيقية، ولا نطالعهم حبرًا على ورق وأسماء كرتونية لأفكار فلسفية.

إن “نجيب محفوظ ” يفعل ذلك عندما يرخي العنان لأشخاص الرواية مطابقًا لقول الشاعر:

دع الأمور تجري في أعنتها         ولا تبيتن إلا خالي البال

ما بين غمضة عين وانتباهها         يغير الله من حال إلى حال

فهو يحرص في التأليف الأدبي لأشخاصه على تصويرهم من خلال مواقفهم تجاه الأحداث وأمارات انفعالاتهم ونبراتها. فالأحداث والانفعالات هما الركيزة المزدوجة التي تجعل أولئك الأشخاص يتكاملون ويتضحون وينبضون في بصيرة القارئ.

وقد استفاد «نجيب محفوظ» تقنيًّا – في الثلاثية بالذات – من بعض مقومات المدرسة الطبيعية لكبار الأدباء العالميين الذين توثقت أسماؤهم بتلك المدرسة التي أنشؤوها مثل «بلزاك» و«إميل زولا» وغيرهما.

بيد أن “نجيب محفوظ” في الحقيقة لم ينتهج سكك تلك المدرسة الأدبية على طول الخط، بل إنه لم يبدأ بها. والدليل على ذلك هجره لها بعدما أتم «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» وهذه الروايات الثلاث هي ثلاثيته الشهيرة. ثم اتجه بعد ذلك إلى تقنيات أخرى مبتكرة ومضامين مختلفة عما سبق تشف عن هموم الطبقة الوسطى المصرية أو مآسي البرجوازية الصغيرة التي زعزعتها ظروف الضغط الاقتصادي والديموغوجيا الفكرية. ونجد هذه التحولات متوهجة وساطعة في رواياته البديعة التي أنتجها بغزارة في الخمسينات وظل ينتجها حتى آخر رمق في حياته.

وفيما يلي مقتطفات من إحدى قصصه القصيرة عنوانها «قوس قزح» ضمن كتابه «بيت سيئ السمعة» وهو مجموعة قصص قصيرة ـ طبعة ثالثة سنة ٢٠٠٧م ـ منشورات «دار الشروق» المصرية في القاهرة: «اجتمعت الأسرة على هيئة مجلس الشورى، ذلك تقليد جميل متتبع من زمن بعيد بفضل حكمة الوالدين، حسن دهمان وهو من رجال التربية وعلم النفس، والسيدة “نظيرة ” وهي مفتشة كبيرة بوزارة الشؤون، والغرض منه تربوي لإشراك الأبناء في تحمل المسؤولية وتفهم الحياة، فضلاً عن أنه يجعل من العقل المحرك الأول لسلوكهم.».

«هذا هو عين العقل».. هذه الجملة أكلشيه يختم به الرجل مناقشاته وتقريراته الموفقة، ومنها يقف «طاهر» موقفًا غير ودي،إذ أنه طالما عانى المتاعب باسم العقل. ولكن العقل يؤدى دورًا خطيرًا في حياة الأسرة كأنه معبود.

وبفضل توجيهه ساد الأسرة نظام عجيب فهي ساعة دقيقة، البيت آية في الترتيب والأناقة كأنه وجه ذو ملامح أبدية، سقوط عود كبريت أو تزحزح مقعد عن موضعه أو ارتفاع في درجة صوت الراديو عن الحد المرسوم يعد من الحوادث المزعجة التي تتطلب علاجًا سريعًا.. وأوقات الطعام والاستيقاظ والنوم والعمل والراحة تخضع لدقة فلكية. ويقول حسن دهمان عن ذلك كله: هذا عين العقل.

«ولكل فرد في الأسرة دفتر توفير ونوع من الكتب يلائمه، وحتى الأغاني والبرامج الإذاعية والتلفزيونية تتقرَّر بعد تشاور ونقاش. ولدى مواجهة أي مسألة مهمة ينعقد مجلس الأسرة ويدلي كل برأيه، ويفحص هذا الرأي بكل عناية ودقة سواء تعلق بنوع الدراسة أو الحب أو الصداقة أو السياسة. أجل لا يفلت من هذا النظام شيء، ثم يقول حسن دهمان بكل ارتياح:

  • هذا هو عين العقل.

وطاهر دهمان هو أصغر أبناء حسن دهمان، طالب في المرحلة الثانوية وبقية أخوته وأخواته طلاب في الجامعة.

وانتهى المطاف بطاهر دهمان في أحد مستشفيات الأمراض العقلية.

وواضح أن نجيب محفوظ ينتقد بحزم النظام غير المعقول للأمور بعد ما كان نجيب محفوظ يطبق ذلك على نفسه، فقد صقلته التجارب ولم يعد في نفس موضعه السابق فلقد نضج رأيه في كثير من المسائل خاصة حين نعرف أن هذه القصة القصيرة يعود تأليفها إلى فترة حديثة داخل الألفية الثالثة وتحديدًا سنة ٢٠٠٦م وفق دار الشروق المصرية، أو ـ من جهة أخرى ـ وفق قائمة مؤلفاته التي حددت تأليف هذه القصة القصيرة في منتصف الستينات من القرن العشرين، وكلا التاريخين يعتبر حديثًا. أتيا مع نضج الكاتب في هذا الشأن.

وحين نعاود قراءة «الثلاثية»، بتؤدة فسوف نلاحظ استتباب نمطية أخاذة ربطت به أجيالاً من الناس، فأحمد عبد الجواد في الثلاثية هو شخص محوري نمطي نصادف في الحياة الواقعية مئات من أشباهه بأسماء كثيرة يخوضون غمار أحداث عامة ووقائع خاصة متنوعة.

ويبدو من المعتذر إن لم يكن من المستحيل إعادة أصول الرواية العربية إلى المقامة، فعموم المقامات نرجح إرجاعها إلى الملاحم القديمة رغم أن الملاحم القديمة هي كلمات موزونة وخالية من القوافي مثل ملحمة «غلغامش» السومرية. والمشكلة عينها تواجهنا عند محاولة تحديد زمن نشوء الرواية العالمية، لكن إجماع نقاد العالم ينعقد حول اعتبار القرن السابع عشر من الميلاد ميقاتًا لتلك النشأة ويبرهنون على ذلك برواية «دون كيخوت» أو «دون كيشوت» للكاتب الإسباني الكلاسيكي الكبير «سرفانتس».

_________________

نشر بموقع الأيام.

مقالات ذات علاقة

ليبيا واسعة – 4 (قصع)

عبدالرحمن جماعة

جذور تراثية في الأدب الساخر عند علي مصطفى المصراتي

الصيد أبوديب

عالم الدراما

المشرف العام

اترك تعليق