تلقيت منذ أيام دعوة للمشاركة في الندوة وورشة العمل الذي يقيمها، مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة بمدينة تونس، تحت عنوان: الليبيون والهوية، بتاريخ 14 ديسمبر 2017، يشارك فيها عدد من أهم البحاث والأكاديميين، ولأني من خارج هذه الدائرة البحثية المختصة والرصينة، رأيت أن أدخل إلى معالجة سؤال الهوية المركب من باب الأدب، والشعر خصوصا، وباعتبار أن الهوية كانت إحدى الثيمات التي عالجها الأدب والفن من مداخل وجودية وجمالية مختلفة، وفورا تذكرت قصيدة “تاريخ وجهي” للشاعر الليبي الأمريكي، أو الأمريكي الليبي: خالد مطاوع. المنشورة بديوانه المترجم “خسوف الإسماعيلية” ففتحت لي فضاء تأمليا لسؤال الهوية لا ينأى عن اعتقادي الخاص بكون الهوية وهما، لا يخلو رغم تبجحه من خيال جامح أو هوس انتقائي باختيار الجذور:
شفتاي جاءتا مع قافلة للعبيد
كان يملكها السنوسي الأكبر
في الجغبوب اعتقهم .
مازالوا يقطنون الربع الفقير ببنغازي
قرب المستشفى حيث ولدت
************
أولئك الإغريق
الذين أهدوني حاجبي
ما كان ببالهم البقاء بتوكرة .
لكنهم شموا ذات يوم
رائحة المريمية البرية
وأعلنوا بلادي مسقط رأسهم .
**************
فرسان القديس يوحنا
غزوا طرابلس.
فطلب سكان المدينة النجدة من اسطنبول.
في عام 1531
جاء الأتراك بأنفي
*************
يعود شَعري
إلى إحدى جواري
سبتيموس سفيروس.
كانت تهيئ له فطوره
وأنجبت له أربعة أبناء .
***************
فتح عقبة مدينتي باسم الله
نجلس الآن على حافة قبره
وأغني لك:
“يا ذات الأهداب الحلوة
الحادة كالسهام
أهذا وجهي الذي أراه
منعكسا في عينيك؟”
*الشاعر خالد مطاوع
لم يكن سؤال الهوية محل اهتمام العلوم الإنسانية والفكر المجرد فقط، لكنه بقدر ما هو مستنكه ومستكنه بالحواس الإنسانية مجتمعة، كان وسواسا وجوديا وجماليا للكثير من الفنون والآداب، خصوصا الشعر والرواية وعديد الفنون النصية والبصرية التي راودته باستبصاراتها الإبداعية، وذهبت به إلى آفاق عدة للرؤية والرؤيا، بما فيها اعتبار الهوية نفسها وهما، وإن كان لابد منه كأوهام كثيرة تسهم في صناعة التاريخ والمصائر.
سأنأى في هذه المداخلة النظرية التي لا يحكمها سوى حدس شاعرــ تلمسَ هو أيضا في قصائده تاريخ وجهه وروحه ــ عن جل السرديات الكبرى التي راودت مسألة الهوية، وجعلت منها مشربا لاهتمامات علماء التاريخ والاجتماع والأنثربولوجيا والسيميوطيقيا، وغيرها من العلوم والمناهج البحثية والنقدية التي كابدت في مجملها عنت هذا السؤال المراوغ؛ الذي تأثر ويتأثر بما يطرأ على هذا الكون من ابتكارات حضارية تنداح أمامها استنتاجاتنا وبراهيننا الهشة مراراً، وتجعل كل ما هو صلب يتبخر ويذوب في الأثير، آخرها ثورة المعلومات والاتصالات التي نقل أثيرها هذا السؤال إلى مستويات أخرى من المعالجات، بعضها مازال خاما . سأنأى عن كل ذلك وأشير مستعجلا إلى الهوية كشأن عاطفي حميمي متعلق بالوجدان الإنساني، وساستعيض عن تلك المصطلحات القخمة التي أصبغها العلم على مفهوم الهوية بمفردات أخرى، شعريتها أو عاطفتها الحارة، لا تستهين بهذا السؤال المعقد بقدر ما تسعف عطش سؤال الهوية للخيال. مفردات مثل: الحنين، الشغف، الألفة، الحواس، الوجد، الصدفة، الهوس، الضياع، الزوال، والهوى.. ذلك الهوى الذي يعترينا تجاه المكان الذي نخبره جيدا، وتجاه الوجوه التي نألفها، وتجاه اللغة التي نحلم بها ونتألم، وتجاه الطعام الذي نلعق خلفه أناملنا، وتجاه الموسيقى التي تستفز خاصراتنا، وتجاه المكان الذي عرفنا فيه الحب الأول.
هذا جانب مضيء شفاف حميمي لهذا الهوى، لكن ثمة جانب مظلم عدائي للهوى حين ينظم نفسه في عصبيات مغالية تنتقل بمفهوم الهوية من جوهره المتعلق بالتماهي وجماليات التجاور إلى إجاباته العنصرية والشوفينية التي تمخضت عن حالات قصوى من الإقصاء والتهجير والإبادات العرقية، وحولت الإنساني المتماهي بيولوجيا وحسيا ، ليس مع البشر فقط ولكن محيطه الحيوي بمجمله، إلى رقم مدرج في قطيع، سواء أكان عرقياً أو طائفياً أو أيديولوجياً أو جهوياً.
من هذا المنطلق، وبناء على ضرورة هذا الوهم “اللابد منه” حتى الآن، اعتبر قيما مثل: الفضاء الديمقراطي، ودستورا يضمن حق المواطنة، وتنمية بشرية ومكانية تبعد فوبيا المركزية التي تثير وسواس الهوية وما يترتب عنه من هواجس انفصالية، وتعدد الموارد الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، وإدارة الدولة والمجتمع بشكل يجعل مصالح الجهات والفئات متكاملة وليست متضاربة . كل ذلك قد يحد من شيطنة هذا الوهم المسمى هوية، أو الفئات المهمشة، أو الأقليات التي من المفترض أن لا يتعامل معها الدستور ــ الذي يسعى إلى الرفاه والسلم الاجتماعي ــ بهذا المسمى (الأقليات) حين يكون حق المواطنة داخله مضموناً، وحين تكون حرية الاعتقاد مكفولة. فكل دستور يقنن هوية الدولة من جانب قومي أو ديني يحمل بذور انتهاكه في داخله كمدونة حقوق تخص أجيالا متتابعة في عالم يتغير بسرعة وتتغير فيه الثوابت.
هذا النزوح الكبير من الجنوب إلى الشمال يشي بأن الفضاء الديمقراطي، بما يتضمنه من حقوق مواطنة وحقوق إنسان، أصبح يُكوّن هوية حديثة يلوذ بها المضطهدون في أوطانهم، الذين يمزقون جوازات سفرهم وهوياتهم بمجرد وصولهم إلى الضفاف الأخرى. يتراجع المكان الجغرافي لصالح الفضاء الإنساني، أو بمعنى آخر؛ يحل التماهي مع الزمن محل التماهي مع المكان، فيقطع المهاجرون مخاطر البحر وكأنهم يسافرون في آلة الزمن الخرافية، مهووسين بالانمحاء للحد الذي لا يعيرون فيه للموت المتربص بهم اهتماما.
قبل الولوج إلى هذه التهويمات بعثت إلى الصديق خالد مطاوع رسالة، ظاهرها استئذان بتضمين قصيدته، وباطنها استدراج لرؤيته الخاصة حول الهوية قد تضيء ما أنا ذاهب إليه، ولم يخيب ظني رده السريع كعادته الذي انتقي منه هذه السطور الهامة. يقول خالد:
“بعض المفاهيم التي قد تكون مهمة. منها مثلا أن الهوية لا تبدو إشكالية إلا في حالة الخطر. تظهر أهمية سؤال من أنا أو من نحن عندما يشعر المجتمع أو الفرد بنوع من الخطر. هذا ما تقوله الناقدة كوبينا ميرسر: (لا تصبح الهوية مسألة مثار نقاش إلا حين تواجه أزمة، حين ينزاح ما نفترض ثباته واتساقه واستقراره بسبب ما يتعرض له من شكوك وعوز لليقين).
الهوية إذن مصدرها “هوس” عدم الثبات والتحول أو الخوف من الفناء أو الضياع. ومن ثم تصبح هاجسا. الهوية أيضا نوع من التركيبة وليست بالضرورة مبنية على الحقيقة.
في قصيدتي هذه، هناك محاولة لوضع الذات في التاريخ، بالأرقام والحقب التاريخية وكذلك بفرض نوع من التراكم التاريخي في تكوين الهوية.
ولكن لا يفوتك أن هذه الهوية تنقص للعنصر الأصلي في ليبيا. فالقصيدة لا تذكر الأمازيغ أو البربر وكأنها لا تعرفهم. وهذا حقيقي فشعوري كليبي كان دائما أننا، أو أنا ومن مثلي، هم الأصليون، وهؤلاء البربر “آخرون” ربما مدخلين على الوطن. فالقصيدة ، مثل الهوية، مركبة وقد لا تعتني بالحقيقة.فجزء من الهوية هو ليس حضور الجذور بل انتقاءها، وكذلك تغييب بعضا منها.
أخيرا، ومن ناحية أخري قد تكون القصيدة أمريكية نظرا لهذه الروح الاستعمارية التي تغيب الأخر. فمثلما غيب الأمريكيون أصحاب الأرض غيبت أنا أهل أرض ليبيا الأصليين وحذفتهم من تاريخ وجهي.أتمنى أن تكون هذه الملاحظات مفيدة.”.
_____________