عامر/
لم تشغلني الوجبات الرديئة الباردة التي تُقدم لنا في هذه المصحة العقلية، يكفي أنها تبقيني حية لأكتب لك، أكثر من عامين الفطور هو الفطور ، والوجبة هي الوجبة، قوالب مربى صغيرة وجبنة مثلثات تُرمى بفضاضة للمجنونات، رائحة خبز أمي عالقة وقهوة صديقتي”صالحة” في ذاكرتي رغم سلطة الجان، عامين (وبحثي لم يكتمل)، سأكمله هنا وأرسله لك ، بكيتُ أمس كثيرا “عامر”، ضقت ذرعاً من ممرضة تستفزني تعالي يا مجنونة يا هبلة، إني حتى أراها ممرضة متخلفة لا يقنعني تفكيرها السطحي ، تُنبئ به طريقة اجترارها العلكة وتهتك أزرار قميصها الأبيض بضغط معدتها، لا تفكر إلا بماذا تسدُّ به هذا الفراغ الملتهم، تأتي بحبة الدواء المخدر تجبرني على ابتلاعها..
هذه الحبة تشعرني بالغثيان، تذهب بنصف عقلي، أرى الصورة وتضيع، أسمع الصوت ويغيب، وكيفما الحلم أحدهم يشد ثوبي، يعبث بجسدي، كابوس يجثم على صدري، يسد صوتي يمنعني من الصراخ، كم هو مُرٌ عندما يعاملك متخلف على أنك مجنون، بتُّ أفكر في الهرب، نعم، أخبرتُ “سعاد”..
ــ هيا نهرب.. لست مجنونة ولا أنت.
ــ لا “مريم” الساحة مكشوفة ومضيئة ليل نهار.. والغفير.. ولا أمل.. سينكشف أمرنا وسنعاقب.. كل النوافذ متربسة بالحديد..
ــ سأفكر “سعاد”.. سأفكر بطريقة.. اختبئ في سيارة المؤونة.. سأتنكر في زي ممرضة.. لن أرضخ لهم..
سأستخدم هذا العقل.. ما فائدته إن كان حقا معافى؟.. ما فائدة عقل لا يخرجك من محنة.. لا ينتصر على عقول المجانين؟.. أبدا لن أرضخَ يا “سعاد”.. أرغموني على زواج الغصب، وباعدوني عن “عامر”.. ليرموني مع المجانين والمخدر.. الآن الأمر يختلف..
لكن “سعاد” لم توافق..
قالت أين سنذهب لا بيت لنا ينتظرنا ولا أسرة ولا أهل؟.. أليس سرير في مصحة مع إخوة مجانين أفضل؟.. كل من خارج هذا السور سينظر إليكِ هاربة من مشفى العقلية ..تماما بل أسوأ من الهارب من السجن. .قالت سبق وأن هربت من دار الرعاية.. إنها أسوء من هنا بكثير..
فتيات يمارسن ما لا يخطر عليك مع بعضهن..
ــ هراء “سعاد”.. بماذا تهذين؟..
ــ نعم.. للأسف هذا يحدث بالفعل ..قُلنَ مع بعضنا أشرف لنا من الرجال.. أمّا مع زائر نافذ تقوده مشرفة ساقطة، فهذا أمر سهل ومستشري.. وهل علمتِ بمقر خاص بالمغتصبات ؟ أهذا علاج ؟!
لم أصدقْ يا “عامر”.. يا للهول ..وإن صدقتها ، سأعتبره تصريح مجنونة ..أخبرتني “سعاد” أنها هربتْ بعد أن حاولت أحدى النزيلات التحرش بها.. وتضيف..
عدتُ لمنزل أبي.. بالأحرى لزوجة أبي حكيتُ لهم ما عانيت، وماذا يدور داخل دار الرعاية، فما كان منهم إلا اتهامي بالجنون لتغيير المكان ..أظنّه أفضل بكثير.. قلت لها لا .. “سعاد”.. ليس أفضل سأجدُ طريقة للهرب ..لم أعدْ أحتمل “عامر”.
وبتكاسل كل صباح، أتمطى بجسدي المخدّر تحت حبة المخدِر.. انسحبُ إلى الحوض الكئيب.. اصفرار الصدى أو صدأ الملامح.. أغرق وجهي بالماء.. وأتمايل صوب مرآة الحمام الموحشة.. أنزعُ ثيابي أتفقّدُ جسدي المحروق وبصمات الكي.. تستفزني موشومة أعلى صرتي وجانبي خاصرتي.. وأسفل حضني.. دوائر النار لازالت تلهب جسدي.. عيون جمر تلسعني بنظراتها.. تذكرني به.. أتحسس البصمة الكبيرة أسفل.. أسفل.. حتى لون الجلد مغاير.. اُستبدلت ألوانه بألوان السلخ.. أرفع بصري نحو وجهي تلتقي نظراتي بنظراتها.. “مريم” العقل “بمريم” الجنون أيهما هي؟..
ابتسم تبتسم.. لوحت لها لوحت لي.. أخرجت لها لساني أخرجت لي لسانها.. ضحكت حد القهقهة.. تجري “سعاد” نحوي ما بكِ “مريم”؟..
لم أرد عليها.. كنت أريد أن أَفهم “مريم” المرآة ، مريم الجموح حتى في جنونها، لكنها لم ترد علي يا “عامر” .
(مريم )
طرابلس / مصحة المجانين
الأربعاء 15/ أكتوبر / 2008م
الثالثة بعد الظهر
____________________________
“النص الناقص”.. رواية بصدد النشر