علي بورحيل
رفرفت بأجنحتها البيضاء جـوار النافذة، لونها الأبيـض المشعّ البديع، وحـفـيف أجنحتها داعب خيوط الشمس فامتزجا في سيمفونية شفافة , في الحقيقة , كانت سيمفونية انتظار، ثم خيم الصمت….
تتوقف الخطوات المتوترة القلقة أمام واجهة ذلك الباب، ويحملق د. محمود في تلك اللافـتة التي كتب عليها: (ممنوع الدخول حجرة العمليات). وكـأنّ كلّ شيء في هـذا المكان ينـظر إلـيه بقلق, حتى الجدران شعر بأنها تنوء بنفسها عنه بعيدا … فتملكه الذعر، ولم يشعـر إلا برجـليـه تتابعان سيرهما إلي الداخـل، لكن قلبه ظل يلاحقه إلي الوراء, والهـلع يسمّره إلي الأرض.. لم يكن يدري من أين جاء, وهو ليس متأكدًا من وجهته !
سارع بالدخول في خطوات أقرب ما تكون إلي الجري، وصوت أنفـاسه يتصاعد، ضمّـها إلي صدره وقبـّل جبينها..أخبره بعض زملائه الأطباء بأنها الآن في مرحلة ما قبل التخدير وبأنهم يحاولون إرجـاع ضغطها لمستواه الطبيعي لتفـادي حدوث المشاكل أثناء العملية …
تكلمت صاحبة ذلك الثغر الحبيب:
– بني.. أنا بخير … لا تشغل بالك بي.. فقط اذهب الآن.
يهمس في أذنها بحنان والأسى ينهش قلبه :
– لابد أن أكون بجانبك هنا… ثم هل نسيت بأني طبيب يا أمي…
تأثرت الأم من حزنه الظاهر وخيـّل إليها أن عينيه رقتا بحزن طفولي وأردفت :
– بني لربما كان ذلك صعبا عليك فأنت لن تطيـق ذ…
قاطعها أحد الأطباء بصوت حازم :
– لا تقلق على والدتـك فسوف تكـون بخير، ونحن نرجو منك مغادرة الغرفة لأننا سنبدأ الآن.
يرفع رأسه, يحاول انتزاع عينيه المتسمرتين على وجه أمه الحنون ثم يرد بلهجة مهذبة:
– أرجوك.. فهذه أمّي.. ولابد أن أكون بجانبها.. على الأقل كي أزيدها ثقة بنفسـها فأنت تعلم بأن حالتها حرجة…
– ولكـن من المـؤكد بـأن ذلك سيكون صعبا عليك، كما أنك تعرف بـأن في كل عمـلية احتمالية حدوث مشاكلٍ ونزيف…و باعتبار أنك ابن المريضة بالأضافة الى كونـك طبيب فإن وجـودك سيبـث نوعا مـن التـوتر داخل الغـرفة.. لـذا لنا رجاء خاص بـأن تغادر الغـرفة , على الأقل من أجل مصلحة والدتك..
ثم أردفت طبيبة أخرى قائلة في نوع من الثقة :
– اذهب وأسترح في حجرة الأطباء، وسـوف نطمئنك على حالتها أولاً بأول.. لا تقلق فهـي في أيد أمينة…
د. محمود في حجـرة الأطباء.. أغـلق البـاب على نفسه، يجـلس وينهض، يروح ويغدوا، يتكتـك أصابعه والعـرق يتقاطر مـن جبينه، والوقت لا يكاد يمـر.. هو يجب أن لا يـرى ذلك، لكنه ليس يـدري لـم يشعر بأنـه لابـد أن يـكون موجودا…! فهـو ليـس مرتاحًا لمـا يحدث.. لأول مـرةََََََََََََ هـو والخـوف وجهًـا لوجه… والزمـن قد توقف، فـكل الألـم هـو أنها أمه… والألـم الأكثر إيـلامًا هو انتظاره هنا…
هناك على أحد الجدران ساعة قديمة… تكتكاتها تقع على أعصابه كمطارق مـن حديد.. لم يعد باستطاعته أن يصبر.. فهذا الجو الثقيل يرهقه , بل يكاد يخنقـه.. لم يكن مر من الوقت سـوى عشر دقائق.. لم يعد باستطاعته الانتظار أكثر.. فهو يشعر الآن بوجيب قلبه الخائف يتعالى كلما سمع صوت صفارة الإنذار بغرفة العمليات يتزايد..
فجأة يهب واقفا وينطلق نحو مصدر الصوت، نحو أمّه الحنون.. يجب أن يهرب من جو هذه الغرفة الخانق.. يجب أن يحسم الصراع الدامي بين قلبه وعقله، بل بين نفسه ونفسه..
صوت صفارة الإنذار بجهاز القلب يتعالى..
يدخل حجرة العمليات , تحاول منعه إحدى الطبيبات دون جدوى , والصوت يتزايد، وبينما هـو على هذه الحالة , خرجت طبيبة أخرى من غرفة العمليات مسرعة نحو الهاتف، داسـت بأصابع مرتجفة بعض الأزرار ورفعت السماعة وقالت بلهجة متوترة :
– بروفسور عادل لدينا حالة طارئة بحجرة العمليات , نرجو منكم سرعة الحضور..
ويزداد الهرج داخل الغـرفة أكثر فأكثر.. ويزداد صـوت الجهاز عـلوًّا.. وبخطوات سريعة دخل الغرفة.. وبنظـرة آمـلة خائفـة نحـو الطبيب المسـؤل عـن العمـلية… نظـرةً كانت تحـمل بيـن طياتها كل تساؤلات الحيارى وأحزان المساكين..
صوت جهاز الإنذار لا يزال على حاله صعودًا… أقبل نحو الطبيب.. وقلبه مشدود بيديه ومشرطه وجثا على ركبتيه متوسلا :
– أرجوك أفعل كل ما هو بوسعك.. فإن كل ما في ّ يستنجد بك.
الآن صار صوت الجهاز يعلوا ويعلوا وكلما يعلوا تزداد حبيبات العرق على جبيـن ذلك الطبيب ويزداد وجهه احمرارًا…
شعـر بـدوار شديـد.. وامتلأ رأسـه بالهدير.. واختفـت كـل الألـوان والكتـل والأحجام وكـل الأشيـاء.. صار كل شيء هلاميا رماديا ضبابيا متغامقا مؤديا حتما إلي السواد الكامل..
لقد فقد الوعي.. نعم فرغم إرادته فقد الوعي.. بكل قوته اعتصر نفسه.. وأنطلق بصحوه يقاتـل.. مستغيثا صرخ ومن أعماقه تخرج.. إلى السماء تصعد.. أطلقها قـوية لتحمل كـلّ ضعف البشر كل عجزهم ومحدوديتهم.. تستغيث بالقادر اللامحدود.. أطلقها مكبلة بالعجز.. لجت بها الملائكـة وبكت من حزنها الشمس متوسلة مستنجدة…
– يـا رب…
فجأة أطلقها.. لا نهاية لهـا، مدببة حادة تقطع فـي غمضة عين كل مـا بين السماء والأرض لتصل إلي الملأ الأعلى.. من أعماقه خرجت.. وإلى السماء صعـدت..
– يـارب…
راجيـة ملتمسـة دامعة.. بدمـها أطلقـها…
ولم يشعر بنفسه إلا وهو خارج الغرفة، وبينما هو في قعـر أحزانه، لم يشعـر إلا بحفيـف أجنحتها الناعمة وهي تداعب خيوط الشمس.. نعم إنها تلك الفراشة البيضاء خفّـاقـة كأنها رايـة الحب أو رمز السلام.. ظل يتبعها بعينيه وهي تخرج من فتحة النافذة.. وتـرفـرف وترتـفع.. وترتفع وترفرف… حتى اختفت في قرص الشمـس الحزين.. فصارت الشمـس ترنوا بأساهـا وظل أساها ينهل أسلاكا على أهل الأرض…
ويبقى الأمل…
بنغـازي: 18/3/2008