من أعمال التشكيلي الليبي.. عبدالرزاق الرياني
سرد

الخرماد ورائحة المردومة وأشياء أخرى

من أعمال التشكيلي الليبي.. عبدالرزاق الرياني

 

رائحة الفحم ودخان المردومة تعطر المكان الذي ولدت فيه لم يستغرق ذلك طويلاً قالت أمي عندما سألتها عن ولادتي، عند الفجر وقبل أن تستيقظ الخليقة لتدب على الارض جئت أنا ـ كانت القابلة “مبروكة بنت مسعود” قالت “شقي” هذه الكلمة تقال لمن يتوقعون أن حياته ستكون قاسية.

مبروكة بنت مسعود هذا الاسم الذي ارتبطت به كثيراً، أحببتها مثل أمي تماماً كنت أعتقد أن هذه المرأة التي منحتني شهادة “الشقاء” في هذه الدنيا، لأنها أول من أستقبلني، فهي التي رأتني قبل أن تراني أمي، وبالرغم من أسمها المميز “مبروكة.. مسعود” وأنها استقبلتني بالبركة والسعادة، هذا ما جعل والديا يتفاءلان بمولدي.

في حياتي مبروكة أخرى كانت جارتنا رائحتها تشبه رائحة أمي، وقت العتمة أختبئ في حضنها يتسلل إلى أذني صوت نبضات قلبها أحساس يجذبني نحوها على إنها أمي وأم أمي في آن واحد ولا أدري كيف ساورني ذلك.

أسمتني الخرماد عندما تقولها تعقبها ضحكة بصوت عال يسمعها كل من حولها في صوتها نبرة الحنان الدافئ… مبروكة بنت عمر.. ابتسامتها مميزة  ونظراتها، تحضنني وتمد يدها في رونية قريبة من وسادتها وتعيدها مملؤة بالتمر، أفرح بالتمر فهو حلوتي وأبتسم لها وأعود مسرعاً إلى عشتنا أحمل بين يدي التمرات الوكها بكل ما علق بها وأعود أتخرمد من تحت الستار الفاصل بين خلوتها والمضافة أبحث عنها فلا أجدها.

ولكن سرعان ما أكتشف إنها تجلس في ظل البيت تمخض شكوتها وتصدر مبروكة صوتها الجهوري وهي تضحك تعالى يا خرماد أشرب اللبن وتمد لي شقفة صغيرة مملؤة باللبن وعندما أحاول أن أعود بها إلى عشتنا تمنعني لا… قرطعها هنا.

كنت الابن البكر فكانت فرحتهم كبيرة أختار لي جدي أسم عثمان تيمناً باسم خاله الذي يحمل نفس الاسم والذي توفي قبل مولدي بشهور، ليجعلني أكون ذكراه ولكن قبل أن يذهب والدي لتسجيلي في البلدية تدخل عمي وغير أسمي وتحجج بأن أسم عثمان لا يليق لان من أسموني عليه كان صعب المراس..

كان والدي ” رحمه الله ” فحام يعمل في جمع الحطب وتسويته على شكل هرمي ويردمه بالتراب ثم يشعل فيه النار حتى يستوى ويصبح فحما قابلاً للاشتعال مرة أخرى بمجرد أن تقترب منه النار، ليستخدم في التدفئة والطهو، كانت مهنة متعبة، فوالدي كان يقوم بكل تلك المراحل، وعندما حبوت بالقرب منه، أعتقد أنني كنت أقلده عندما وضعت يدي في النار ففقدت أجزاء من أصابعي، ولم أكمل عامي الاول.

نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن العشرين عشتها طفلاً لا أذكر منها شيئاً إلا من خلال حكايات والدتي ووالدي عندما يتحدثون عن الماضي، قصعة البقرة، ومرطة السبول، وموسم الحصاد، والجبادة، المعاناة، وقسوة الفقر، الجوع، عيش البشنة، والفكريس، ودق النوى، مصطلحات لو أردنا تعريفها لما وجدناها في قواميس اللغة.

أعود إلى رائحة المردومة، الدخان، الفحم، رائحة مميزة مصحوبة ببلل الماء، ولون وجه والدي ووالدتي ولون أيديهم، المزينة بلون الفحم، عشت مع تلك الوجوه التي أحببتها وأحببت معاناتها وتعبها وفرحها الذي كنت أراه في عيونهم خاصة عندما يعود والدي من السوق الاسبوعي بعد أن يقوم ببيع جهده ليحضر الحلوى وخبزة السوق، كان يقضي كل الاسبوع من أجل أن يرى تلك الفرحة في عيوني.

قسوة الحياة ومرارة العيش وقلة ذات اليد جعل من أسرتي الصغيرة “والدي ووالدتي” الولوج إلى تحدي الحياة الصعبة بالطريقة التي كانوا يتقنونها، حصاد الزرع وجمع الحطب وإنتاج الفحم، مجهود عضلي طوال اليوم ويحتاج إلى صبر ومثابرة فكانوا صابرين ومثابرين.

مقالات ذات علاقة

ماذا لو كانت معي

محمد الزوي

رواية ديجالون – الحلقة 12

المختار الجدال

مدارس…

جميلة الميهوب

اترك تعليق