رمضان والبيوت…
كانت المدينه كلها تشم رائحة رمضان المبارك. من بعيد مع مطلع شهر رجب. اْجواء من السكينة والسلام والحركه تغمر الازقة والبيوت. حركة لاتهدأ وفرحة تبدأ لتستمر. (سيدى رمضان على الابواب).. هكذا كانوا يقولون عنه.. هكذا يسمونه توقيرا واحتراما. كل شىْ كان يعد فى البيوت الصغيرة البسيطة الخبز بالفرده والقنان فى الافران المجاورة. اكتفاء ذاتى يختلف عن هذه الايام المليئة بالشراهة والتكالب. تتحول البيوت المتواضعة الى حركة. الى ورش. الرحى تدور بلا انقطاع. الصبايا والعجائز ينشطن منذ مطلع النهار والاْطفال فى بهجة. ثم تفوح روائح القهوة والحبق والكسبر والدشيشه والروينه والزميته واللكلوكه والبهارات والرز المطحون وكل شىْ. كل البيوت تستقبل رمضان. تتقاسم العيش وتهدى لبعضها ماتعده فى بساطه. كانت المدينه تفرح بقدوم رمضان من بعيد. رمضان فرحه والبيوت بهجه.
ليبيا الحديثة…
د. مجيد خدورى من اْشهر الاساتذة العرب الذين اهتموا بدراسة وبحث القضايا والموضوعات العربية والاسلامية. اْصوله من العراق. كان ثانى عميد لكلية الاداب والتربية فى الجامعه الليبية ببنغازى عام 1957. منذ ستين عاما مضت. اهتم بليبيا وتاريخها الحديث وعنها وضع كتابه المهم (ليبيا الحديثة.. دراسة فى تطورها السياسى) صدر فى طبعته الاولى بالانجليزية عام 1963 ومن اْجل انجازه زار ليبيا عام 1959 ثم 1961 والتقى الكثير من رجال الدولة والسياسيين والنخب وفى مقدمتهم الملك ادريس ليخرج بهذا الكتاب الذى مايزال مرجعا موثقا للدارسين فى تاريخ ليبيا والمهتمين بشؤونها. عام 1966 تمت ترجمته فى بيروت من قبل د. احسان عباس وقام بمراجعته د. ناصر الدين الاسد فى 560 صفحه وهما اْيضا على صلة بليبيا وتراثها. الصورة تعود الى عام 1964 حين اْهدى د. خدورى ومعه السيده زوجته النسخه الاولى من الكتاب الى سفير ليبيا فى الولايات المتحده السيد فتحى العابديه رحمه الله. د. خدورى الاْستاذ المهيب والعالم الكبير رحل بعد ان ترك العديد من الاثار العلمية عام 2007.
نزار فى بنغازى…
تلك الاْمسية اْمطرت سماء بنغازى شعرا وكلمات جميلة. التقى الشعر مع الربيع. تلك العشية فى حديقة كلية الاداب. الاْشجار والطيور والاْنفاس وشاطىْ البحر القريب كانت كلها تقول شعرا وتصدح به فى بنغازى فى ابريل 1967 منذ خمسين عاما. نزار قبانى القادم من بيروت يحلق بشعره فى سماء بنغازى. اْمسية جميلة فى حديقة الكلية. الكلمات والاشعار والرسم بالكلمات فى بنغازى والحنين فى الصدور يتحرك بين الحاضرين نحو شى ما. اْحيا الشاعرقبلها اْمسية فى فندق الودان بطرابلس الذى يسمع تنهدات البحر اْيضا وظلت كلماته منقوشة فوق جدران القاعة والمدرجات وجذوع شجر الكلية وشاطىْ البحر بين بيروت وطرابلس وبنغازى. فى الصورة تكريم وعشاء من الدولة فى فندق بنغازى بلاس اْقامه الاْستاذ اْحمد يونس نجم وكيل وزارة الاعلام والثقافة رحمه الله وفيها يبدو على يمين الشاعر وعن يساره الاْستاذ بكرى قدوره معلمه فى دمشق ومدير الجامعه الليبية ثم عضو مجلس الشيوخ والشاعر راشد الزبير السنوسى وشاعر من العراق واْستاذ بالكلية هو باقر سماكه. احتفلت بنغازى مثلما اْحتفلت طرابلس وابتهج البحر بالشعر والشاعر لكن الكلمات اختفت من الجذوع والمدرجات والفنادق. هل ينهض الشعر مرة اْخرى؟
عشية الاستقلال…
فى بنغازى 24 ديسمبر 1951. وتحت الشرفه التى اْعلن منها الملك ادريس استقلال ليبيا فى ذلك اليوم فيما الحلم يمتد بلا انقطاع فى اْن تصبح بلادنا دولة واْناسها اْحرارا بعد عذابات ونضالات وتضحيات كانت هذه الصورة. من اليمين على امبارك اليمنى. محمود بوقويطين. عبدالمولى لنقى. عيسى خليل صباغ المذيع الفلسطينى بصوت اْمريكا الذى قام بنقل وتغطية المناسبة ثم عوض زاقوب. محمد على الجوهرى. وشاعر الوطن احمد رفيق المهدوى فى اقصى اليسار. وطن واْجيال وصورة تلك العشية البعيدة.
الحب والحرب…
كان يحب كل شىْ ويحكى عن كل شىْ ويتعلق بكل شىْ. المرئيات والمناظر وعالم لله الكبير. كان يحب الحياة ويعيشها من اْجل الاخرين المنتظرين على الضفاف. اْحلامه يراها تجرى اْمام قدميه وسط المدينة. يحلم باْن تكون فاضلة!!. اْحب كل شىْ: المقاهى. الاْرصفة والزهور والطيور والناس والاْطفال والاْغانى ونوارس البحر والشمس وغمر قلبه السلام على الدوام. لم يحمل حقدا لأحد ولم يكن حجر عثرة اْمام اْحد. لم يكره شيئا سوى الحقد والقتل والحرب. ضاعت اْسرته ذات يوم بعيد فى الحرب لكنه نجا وظل يكره الحرب. لقد دمرت الحرب قلبه ولم يعد ير شيئا.
اْم كلثوم فى بنغازى…
كان ذلك فى مارس 1969. وصلت اْم كلثوم الى ليبيا. اْحيت سهرتها الاولى فى طرابلس مساء الاربعاء 12 مارس وكان يوافق عيد ميلاد الملك ثم بعد اسبوع فى بنغازى.. اْحييت سهرتها الثانية الاربعاء 19 مارس وافق ذلك ايضا مطلع العام الهجرى الجديد 1389. السهرة امتدت لساعات فى ملعب 24 ديسمبر بالبركه. حشود لعشاق الموسيقى والكلمه. غنت الست بعيد عنك ثم امل حياتى. قدم الاْولى ابوالقاسم بن دادو والثانية فرج الشريف مذيعان رائدان منذ انطلاقة الاذاعة الليبية عام 1957. حاول اْحدهم الاساءة لاْم كلثوم. نهرته بغضب. كان يلاحقها من حفل الى حفل. لم يكن من ليبيا. والسهرة امتدت واللحن والكلمه و24 ديسمبر يموج بالحضور. وكان هناك الفريق الذى تولى تغطية الحفل من هندسة الاذاعة وربطه مباشرة على الهواء مع صوت العرب فى القاهرة. فى الصورة.. محمد جويلى، محمد بسيكرى، عبدالغنى الحاسى، ابوالقاسم بن دادو رحمهما الله، فوزى عاشور الورفلى، سالم عاشور… مارس والربيع واْم كلثوم فى بنغازى يامسهرنى.
القمر والظلام…
القمر يطل على الدوام متوهجا ومضيئا. تنتشر خيوطه الفضيه وتلوح المشاهد تحت القمر جميلة ومبهجة. القمر فى الليل والشمس فى النهار كلاهما ضياء ونور من نور السماوات والارض. القمر اْحيانا يطل حزينا لا اْحد ياْبه به. حتى الشعراء اْشاحوا بوجوههم عنه. لم تعد قصائدهم فيه جميلة. لا اْحد يتغزل فيه. الكل صار يعشق الظلام ويمدحه. حين اشتعلت تلك الحرب اْيامها عم الظلام كل الاْماكن رغم ظهور القمر فى بعض الليالى. لقد شعر بالخجل من الظلام فسالت منه دمعتين كبيرتين. ثم توارى فى البعيد وصار الناس يعشقون الظلام.
موسم الاغانى…
فى موسم قص الصوف ترتفع حرارة الشمس ويعلو ثغاء الشياه واْغانى العلم وتبداْ الجلامه فيما تقترب بعد حين اْيام الحصاد. تسمع احتكاك الامقاص والشياه طرحى فى البراح ويبتسم الرجال ويتعاونون وتنهمر الحكايات القديمة والجديده والمداعبات وتعلوء اصوات الاْغانى. همهمة وترنيمات ومعانى فيها اشارات واسقاطات ورموز. اْغانى الجلامه ترتفع مع الشمس وثغاء القطيع. انها لوحة متكاملة تمضى بمعانيها لتظل جزء من تراثنا وتاريخنا. ذات موسم. ذات ربيع. سرت الاْغنية وانتشرت من البولندى فى تلك السهوب من الجبل الاخضر. حملت المعانى ولامست الواقع. الذى كان يمتلى ظلما وكان الوطن حزينا الى اقصى حد. شاب من المرج اسمه محمود بوشعيب ولاْنه كان وسيما واشقر غلب عليه لقب البولندى.غنى.. (دالن اطناشر ذيب على ضان في غوط سايبة) و(حتى لو قتلت الذيب ايجي ولده ساطي ع الغلم) و(كاثر جفيل الضان تمّا كلبها كيْ ذيبها). غنى البولندى. اخترقت الاْغنية الاْسوار. وصلت الرسالة الى هناك.. الى من يهمه الاْمر. فهمها الذى فوق فى السلطه وعرف اْنها تخصه وتشير اليه بالظلم والماسى والكوارث وكثرت الشروح والتفسيرات. مضى البولندى الى السجن وبعد اْيام من العذاب دفع حياته ثمنا للوطن ولتلك الاغنية. عاش الوطن. عاش الرجال. عاشت الاغنية.
الميدان…
بنغازى والحرب واثارها فى ميدان البلديه.. والمسجد العتيق ونخلة وبقايا اليات معطوبه.. وجزء من مبنى البلديه.. ودراجة وحيدة تسير بصاحبها على غير هدى ينظر خلفه كأنه خائف يترقب الحرب لعينة ومدمرة.. والفراغ والنخلة تحاول الحياة.. والدراجة تسير بصاحبها على غير هدى.. والمسجد بلا مؤذن.. والفراغ الموحش.. والحرب اللعينه.. فى تلك الاْعوام البعيدة.. وفى كل الاْحوال لعينة ومدمرة.. لعينة مثل الشيطان.. والحرب.. هل قلت انها الحرب فقط!!
الخزان الذى اْضحى شعارا…
… وكانت بنغازى تمتلىْ بالاْضرحه فى الدروب والاْزقه وفوق تلة خريبيش المقابلة للبحر هناك حيث اْقدم مقابرها تلوح اْضرحة سيدى خريبيش وغازى وجمعه وبجوارها القبور المتناثرة منذ زمن ونخلة مائلة وتحت التله تقبع مدينة برنيق الموغلة فى القدم وعلى اليمين خارج السور المدرسة اليهودية التى اْصبحت كلية الحقوق عام 1962 وفى جانب اخر غير مرئى السجن والمنارة القديمة التى اْهدتها فرنسا لبنغازى فى العهد التركى. كل ذلك اْزيل اْو زال من الطريق وبقى التاريخ وشواهد مريرة الى اليوم. عام 1934 بنى الطليان فوق التلة خزان مياه يزود المدينة بما يكفى تعلوه منارة لاْرشاد السفن القادمة من البعيد والداخلة الى البوغاز. توقفت منارة فرنسا وصارت جزء من السجن. الخزان مايزال موجودا وكذا المنارة التى تعلوه لكن اْن يصبح ذلك شعارا للمدينة.. لبنغازى فذلك فيه نظر. ثمة اْشياء اْخرى فى تاريخ المدينة الطويل اْقدم واْعتق واْجدر باْن تكون شعارا يليق ببنغازى بدلا من خزان بناه الاحتلال!!