تقديم ديوان (أَمْسِـي بِـهِ قَـمَــرٌ) للشاعرة: سالمة صالح
تُبْدِعُ الشَّاعِرَةُ سَالِمَةُ صَالِح نَصًّا وَاضِحًا لا يَتَوَارَى خَلْفَ أَكْدَاسٍ مِنَ البِهَارَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، يَتَجَافَى عَنْ بَهْلَوَنَةِ القَصِيدَةِ المُعَاصِرَةِ التَّائِقَةِ للتَّجْدِيدِ، فَتَقَعُ فِي مَهَاوِي التَّغْرِيبِ وَالتَّعْتِيمِ، فَهْيَ تَرْتِكُبُ قَصِيدَةً عُطُلاً دُونَ مُسُوحٍ أَوْ رُتُوشٍ، لَكِنَّهَا تُغْدِقُ عَلَى قَارِئِهَا كَثِيرًا منَ الإبْهَارَاتِ الفَنِّيَّةِ، فَنَصُّهَا يُشْبِهُهَا، لأَنَّهُ يَحْمِلُ جِينَاتِهَا الشِّعْرِيَّةَ الأَصِيلَةَ، هُوَ نَصٌّ صَادِقٌ، وَقَصِيدَتُهَا لا تَسْتَعِيرُ مِنَ الآخَرِينَ غَيْرَ رَجَاءِ الإِنْصَاتِ إِلَى وَشْوَشَاتِهَا الآسِرَةِ، لِتَعْرِضَ أَنْفَاسَهَا بِلُغَةٍ شِعْرِيَّةٍ وَاثِقَةٍ مِنَ الاسْتِفْزَازِ البَرِيءِ المُؤَدِّي إِلَى الوُقُوعِ فِي عَبْقَرِهَا، وَالانْجِرَارِ إِلَى أَوْدِيَةِ شِعْرِهَا العَمِيقَةِ، وَالوُلُوجِ إِلَى عَوَالِمِهَا العَصِيَّةِ على الإِغْضَاءِ والإِلْغَاءِ وَالتَّخَطِّي.
******
اِبْتداءً بِعَتْبَةِ دِيوَانِهَا الأُولَى (أَمْسِي بِهِ قَمَرٌ) نُحِسُّ بِأَنَّ هَذِهِ الأَنْفَاسَ المُكَدَّسَةَ أَشْذَاءً شِعْرِيَّةً، تَسْتَدْنِيهَا الشَّاعِرَةُ مِنْ غَدِهَا المُقْبِلِ، غَدِهَا الحَمِيمِ، المَحْلُومِ بِهِ، المُشْرَئِبَّةِ إِلَيْهِ عُيُونًا وَوِجْدَانًا وَأَحْلَامًا، ذَاكَ الغَدُ الَّذِي تَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ العُنْوَانُ اللَّافِتُ يَلِمْزُ أَسًى يَرْشَحُ بِهِ جُلُّ أَشْعَارِهَا، وَيَرْمِزُ إِلَى حَسْرَةٍ مُتَفَاقِمَةٍ تَفْغُرُ أَفَوَاهَ الجِرَاحِ عَلَى نَزْفٍ مُسْتَدِيمٍ، عَلَى أَمْسٍ كَانَ، أَمْسٍ بِهِ قَمَرٌ، قَدْ يَكُونُ القَمَرُ الحَبِيبَ، أَوِ الْقَمَرَ الأَمَلَ، أَوِ الحُلُمَ، أَوِ الوَطَنَ .. الْقَمَرُ الَّذِي كَانَ أَمْسًا، أَوِ الأَمْسُ الَّذِي كَانَ قَمَرًا .. ثُمَّ أَفِلَ، أَوْ أَفِلاً مَعًا..!!
*****
فِي نَصِّهَا (خَسِرْنَا كثيرًا) تُخْرِجُ الشَّاعِرَةُ حُزْنَهَا، تَنْكَأُ جِرَاحُهَا جَرَاحَنَا، جِرَاحَ السَّنَوَاتِ التَّارِكَةِ نُدُوبَهَا السَّودَاءَ الدَّامِيَةَ عَلَى قُلُوبِنَا، عَلَى وُجُوهِ أَعْمَارِنَا، فَتَعْتَاشُ عَلَى رُوَاءِ سِنِينِنَا، فَهْيَ وَنَحْن ُقَد بِعْنَا أَعْمَارَنا سَهْوًا، وَلَمْ نَحْصُدْ غَيْرَ السَّرَابِ.. تقولُ:
” لقد بعنا عمرًا من العمر سهوًا
حصدنا السراب..! ”
ذَلِكَ حِينَ نَكْتَشِفُ أَنَّ:
” لم تبنِ سنديانَةَ عمرٍ لنا في طريق الإيابْ
زيتونة في الزمان السحيق ”
وَحِينَ يَبْلُغُ بِهَا الأَسَى الفَظِيعُ ذِرْوَةَ الحُزنِ الفَاحِشِ، وَيُسْقِطُهَا، قَسْرًا، فِي غَيَابَاتِ الوَجَعِ العَمِيقِ، نَسْمَعُهَا تَقُولُ:
” ستحملُ نوتاتِ جرحِكَ حلمًا ولن تستفيق
فاغرسْ ربيعًا شهيًّا يكون احتمال ..”
لَكِنَّهَا لا تَسْتَسْلِمُ لِلْأَسَى السَّافِرِ، فَتَسْتَنْهِضُ حُلْمَهَا، حُلْمَنَا، قَائِلَةً:
” احلمْ لتحلم
فإنَّ عناقَ الأماني دثارْ
أغاريد سحرٍ على شفتيك شهيق
احلمْ لتحلمْ
فما بعد حلم يهاجرُ أي انتصارْ “
هَذَا النَّصُّ المَاتِعُ، المُرَاوِغُ، المُكْتَظُّ حُزْنًا وَأَلَمًا وَشَكْوَى، المَرْصُوصُ أَمَلاً وَحُلُمًا وَحَيَاةً، لَيْسَ نَصًّا سَهْلاً، وَلا مُمْكِنًا، أَعْنِي لا يَمْنَحُنَا أَسْرَارَهُ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ، إِنَّهُ نَصٌّ مُرَاوِغٌ، مُوَارَبٌ عَلَى أَلْفِ احْتِمَالٍ، حَمَّالُ أَوْجِهٍ، يَتَمَنْسَأُ خَيَالَاتٍ سَامِقَةً، يَتَوكَّأُ زَانَةَ المَجَازِ الطَّوِيلَةَ المَرِنَةَ، لِيَقْفِزَ إِلَى أَبْعَدِ آفَاقِ التَّأْوِيلِ، لَعَلَّهَا تُحَذِّرُ وَطَنَهَا مِنْ مَغَبَّةِ الحُلُمِ، وَتَدْعُوهُ لِلْهُدُوءِ إِزَاءَ تَرَبُّصِ أَغْوَالٍ شَرِسَةٍ بِهَدْأَةِ المَوَاتِ، الهُدُوءِ الخَاسِرِ وَالمُخْسِرِ:
” خسرنا كثيرًا وعدنا لذات الحصارْ
هرقلُ يعود وكسرى وكل جيوش التَّتَارْ
فلن تكفي جرعةُ ماءٍ لهذا الطريقْ
ستروي الينابيعُ قلبَكَ عطرًا… متى تستفيق؟
لتغسلَ أرضَكَ من عَارِهَا مِمَّا بها قد يحيق…!! “
الشَّاعِرَةُ المُتَمَاهِيَةُ مَعَ الحُبِّ وَاللَّحْنِ وَالقَصِيدِ، تُمُوسِقُ غِنَاءَهَا، تَضْفُرُ تِحْنَانَهَا، جُنُونَهَا، جِسْرَ اشتياقٍ إليهِ .. تَقُولُ من قصيدَةِ ( أُغَنِّي لوحدي..) :
” أنا لحنُ هذي القوافي
أنا كلُّ هذي المتون
فكلُّ الأغاني حنيني إليك
وكلِّي أنا من جنون
لشيءٍ سيأتي سأمضي…أُغَنِّي
وإن طال هذا السُّكون”
ذَلِكَ يَحْدِثُ وَهْيَ تَنْسُجُ وَجْهَ الحُلُمِ المُخْمَلِيِّ بِقُدُومِهِ الآسِرِ، حِينَ يَكُونُ بَعِيدًا، لَكِنَّهُ وَاقِعٌ مُؤسِفٌ، مُنْتَهِبٌ قَلْبَهَا مِنْ نَشْوَتِهِ، مُخْتَطِفُهُ مِنْ سَكْرَتِهِ الحُلُمِ، مِنْ حُلُمِهَا الانْتِشَاءِ، تَقُولُ:
” تباطأْ؛ فلا تنتشلْنِي منَ الحلم..
مهما ترامى المدى..
فهذا المدى لي عيون “
******
اِنْتِظَارًا لَهُ تَبْرُدُ يَدُهَا، يَدُ قَلْبِهَا المُمْتَدَّةُ نَحْوَهُ تَسَوُّلاً لِلحَنَانِ، تَوَسُّلاً لِلدِّفْءِ، تَلَهُّفًا لِلْوِدَادِ، تَقُولُ فِي قَصِيدَةِ ( بَرَدَتْ يَدِي ):
” بَرَدَتْ يدي
ما عُدْتُ أقوى
كيفَ أصعدُ نحوَ شمسِكَ بالدُّعَاءْ ”
لَكِنَّهُ يَبْدُو وَهْمًا، يَغْدُو وَهْمًا:
” كُلُّ شيءٍ في دمي للرُّوحِ يبقى
وهمَ أغنيَةِ المساءْ..
القلبُ في سفرٍ سيبقى
دفء المكان ووشوشاتي والقمر ”
وَتَتَحَجَّرُ يَدُهَا بَرْدًا، اِمْتِدَادًا عَبَثِيًّا يَمْلَأُهَا الخَوَاءُ، تَنْكَفِئُ عَلَى قَنَاعَاتِهَا المَهْزُومَةِ، مُكْتَفِيَةً بِفِتَاتِ الذِّكْرِيَاتِ:
” بردت يدي عندَ الوداعْ
أنا الحجر
رِدُّوا إلي صَبَابَتِي، ردُّوا إلي الذكريات
فالذكريات هي المطرْ
رُدُّوا هواي أنا الغريقْ
أنا المسافر والسَّفين بلا شراعٍ والبحر”
******
حِينَ يَسْتَبِدُّ بِهَا الغَضَبُ، تَلْطُمُ الشَّاعِرَةُ عَنْجَهيَّةَ الحَجَّاجِ، زَيْفَ الحَاكِمِ فِيهِ، الصَّنَمَ المُغْتَرَّ بِسَيْفِهِ وَحُكْمِهِ وَسَطْوَتِهِ، تُعَنِّفُ فيهِ السَّفَّاحَ الأَخْرَقَ، تُوَاجِهُهُ بِمَوْتِ البِلادِ بِهِ، مِنْهُ، بِطَوَابِيرِ الجَنَائِزِ المُتِّصِلَةِ، لَكَأَنَّهُ يَحْكُمُ وَطَنًا من مَقَابِرَ، تَقُولُ مِن قَصِيدَةِ ( الحجاج) :
” ليس في السهل زهرة حب ولا من بريق
أشجار كل المدينة صارت حريق..
البحر يجثو على نفسه خائرًا كالجنون
يعبرُ النَّاسُ مثلَ الجنائز
تمرُّ الجنائزُ تبهت كلُّ العيونْ “
*****
وَفِي قَصِيدَتِهَا (تَمَرَّدْ) تَسْتَنْهِضُ الإِنْسَانَ المُكَبَّلَ بِالقَهْرِ، المُسْتَسْلِمَ لِوَاقِعِهِ المُكْفَهِرِّ، الرَّاضِخِ لِرَاهِنٍ كَئِيبٍ مَعِيبٍ:
” تَمَرَّدْ
فللريح وقتٌ يجيء
تمرُّ على كل دارٍ ولا تستدير وراء
تَمَرَّدْ
وجفِّفْ يقينَكَ عندَ المطر
وطل مثل غصن عصي على الموت والانحناء ..”
وَالشَّاعِرَةُ عَلَى يَقِينٍ بِانْفِتَاحِ أَبْوَابِ الأَمَلِ أَمَامَهُ لِيُغَادِرَ الصَّقِيعَ المَرِيرَ:
” تَمَرَّدْ ولا تبتئسْ
سيأتيك وقتُكَ طوعًا بكلِّ الوعود
ستدخلُ بابَ الفناء
على الشُّرُفَاتِ تعلَّق
لأفراح قلبك هذا الجدار تسلَّق
واكتب:
عبير النهايات يأتي إليَّ بهذا المساء
سيأتي إلي أغادر هذا الصقيع المرير
أغادر هذا الشتاء
اكتب على الأرض صمت التراب بموج البحار “
لِيَفْتَحَ هَذَا المُتَمَرِّدُ، المُغَرِّدُ عَيْنَيْهِ عَلَى النَّهَارِ، نَهَارِ الحُرِّيَّةِ الوَضِيءِ الدَّفِيءِ:
” تَمَرَّدْ
بقدر براءة غيم يسيل عليك انحدار
بقدر الهوى في عيون الصبايا انتشاء
بقدر السنابل حين تحيل السهول ضياء
وكن يافعًا كالحقيقة في عمقها كن شرار
وكن ناضجًا كن عميقًا كهذي البحار “
فِي نَصِّهَا (عَامٌ جَدِيدٌ) تَقِفُ عَلَى نَاصِيَتِهِ تُحْصِي خَسَائِرَهَا، خَسَائِرَنَا المُشْتَرَكَةَ، تُعَدِّدُ خَيْبَاتِنَا المُتَخَاصِرَةَ:
نهرٌ من الخيبات والعثرات في قلبي مقيم
أُحصي من العثرات ما يبكي الغيوم
أُحصي كما تحصي الطيور رمال شاطئها الحميم
*****
وَهْيَ تَئِنُّ بِأَوْجَاعِ الوَطَنِ، تَقِفُ لِتَنْزِعَ السِّهَامَ مِنْ خَاصِرَتِهِ، مِنْ خَوَاصِرِنَا جَمِيعًا:
” عامٌ جديدْ
ينعي بكلِّ تَوَجُّعٍ هذا الوطن
عفوًا فقد وَدَّعَتُ روحَكَ والمكان
عفوًا؛ فقد وَدَّعْتُ نفسي والزمانْ..! “
*****
لِلذِّكْرَى أَلْوَانٌ بَاهِتَةٌ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَتِ الكَلِمَاتُ أَكْثَرَ أَنَاقَةً، وَأَبْلَغَ عِطْرًا، ثَمَّةَ انْكِسَارَاتٌ جَسِيمَةٌ تُرَتِّلُ نَشِيدَهَا المُحْزِنَ عَلَى مَسْمَعِ رُوحِ الشَّاعِرَةِ، تَقُولُ قَصِيدَتُهَا (ذكرى..!!):
مَا عادَ هذا البحرُ يَنْبُشُ ذِكْرَيَاتْ
لَمْ يَعُدْ يلهو بِخَاصِرَتِي فَتَنْهَضُ أمنياتْ
ما عُدْتُ أَلْمَسُ في مَسَاءَاتِي النُّجُومَ السَّاطعاتْ
لم يُسَلِّينِي نَشِيدِي، لم يُحَرِّكْنِي هَسِيسُ الأغنياتْ
والوَرْدُ يذبلُ في حُقُولِي
والحَمَامَةُ لم تَعُدْ في الصَّحْوِ تُرْسِلُ بُشْرِيَاتْ
لم يَعُدْ شُبَّاكُ بيتي مُشْرَعًا على أُغْنِيَةِ الحَيَاةْ……!!
*****
وَلَعَلَّ مِنْ أَجْمَلِ نُصُوصِهَا وَأَحْلَاهَا وَأَغْنَاهَا بِالعَاطِفَةِ وَالمَجَازِ الثَّرِيِّ، هَذَا النَّصُّ البَاذِخُ (أَنَا الشَّرِيدُ):
أَنَا الشَّرِيد
……………
دربٌ طويلْ
تعلمُ أَنَّ الدَّرْبَ طويلْ
وأنَّا أكبرْ
وحروفي قافيةٌ عرجاءْ
حينَ تمرُّ بأرضِكَ ينشجُ بوحي… كلُّ جنوني
عاصفتي الهوجاءْ
أرأيت بنفسِكَ كيفَ يكونُ الحرفُ هجاء
تطلُّ أصابِعُكَ بوجهي غصنًا ليسَ عليه رواء
وتطلُّ منِ الشُّبَاكِ الأعرج روحك باهتة
قنديلك لا يحضنُ زيتًا…
ليسَ بكفِّكَ جرعَةُ ماء
وأنا الظَّمَأَى
زهرة صيف تحمل سيل النهر دثار
وردٌ ميتٌ تحمله رَاحَاتُ جدار
كَمَا اسْتَفَزَّنِي كَثِيرًا هَذَا النَّصُّ الفَخِيمُ:
وأنت تغادر ..
وكل قوافل صيف المنتظرين تعود
وأنت تهاجر
ينبت في قدميك رحيلٌ كاللبلاب
ما أصعب عصف جنوني حين يصير العمر غبار
خيام العمر تهادت وأنا أتهادى شعلَةَ نار..
******
خِتَامًا.. مِنْ خِلالِ دِيوَانِ (أَمْسِي بِهِ قَمَرٌ) لِلشَّاعِرَةِ اللِّيبِيَّةِ سَالِمَةَ صَالِح القَادِمَةِ بِثِقَةٍ، رَصَدْتُ بَعْضَ المَلْحَوظَاتِ الفَنِّيَّةِ:
– الشَّاعِرَةُ لا تُشَعِّبُ مَسَارَاتِ القَصِيدَةِ، لا تُرْهِقُهَا بِتَصَعُّدَاتٍ مُضْنِيَةٍ، وَلا بِتَصَدُّعَاتِ الصُّوَرِ الفَنِّيَّةِ المُتَنَافِرَةِ المُثْقَلَةِ بِأَلْفِ هاجِسٍ، وَلا تُهْرِقُهَا لَغْوًا رَخِيصًا فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي شِعْرٍ، وَلا تُرِيقُ حُسْنَهَا عَلَى مُفْتَرَقِ المَعَانِي الغَائِمَةِ، فَقَصِيدَتُهَا تَلْتَزِمُ مَوْضُوعًا وَاحِدًا تَرْكُضُ فِي بَرَاحِهِ حَتَّى المُنْتَهَى دُونَ انْعِطَافٍ أَوِ انْجِرَافٍ أَوِ اخْتِطَافٍ..
– قَصَائِدُهَا لا تَتَعَالَى عَلَى قَارِئِهَا؛ إِنَّمَا تَتَجَافَى عَنِ الإِسْفَافِ، تَتَبَاهَى بِالمُحَافَظَةِ عَلَى أَنَاقَتِهَا، وَلَيَاقَتِهَا، وَعَبَقِهَا وَأَلَقِهَا وَغَدَقِهَا.
– تَعْمَدُ الشَّاعِرَةُ إِلَى تَسْكِينِ قَوَافِيهَا عَلَى الدَّوَامِ، مُفَضِّلَةً القَوَافِيَ المُقَيِّدَةَ، رُبَّمَا اِتِّقَاءً لِمَطبَّاتِ اللُّغَةِ غَيْرِ المَأْمُونَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ التَّقِييدَ الْمُحْتَرِسَ، الْمُبَالَغَ فِيهِ، يُبْطِئُ إِيقَاعَ مَوْسِيقَاهَا الشِّعْرِيَّةِ، فَيُنَوِّمُ أَوَاخِرَ الكَلِمَاتِ، فَالقَوَافِي ذَاوَتُ الرَّوِيِّ المُتَحِرَّكِ تَمْنَحُ القَصِيدَةَ نَبْضًا وَنَضَارَةً وَرُوَاءً، وَتَهِبُهَا صَخَبًا إِيْقَاعِيًا مُشْتَهًى، فَجَرَسُهَا المُوسِيقِيُّ أَكْثَرُ إِدْهَاشًا لِلْمُتَلَقِّي، وَأَكْثَرُ إِنْعَاشًا لِلنُّفُوسِ. لا سِيِّمَا وَأَنَّ انْسِيَابَ مُوسِيقَاهَا الشِّعْرِيَّةِ عَفْوِيٌّ عَذْبٌ، لا يَطَالُهُ تَصَنُّعٌ ولَا تَكَلُّفٌ..
– المَجَازَاتُ الشِّعْرِيَّةُ عِنْدَهَا مَجَازَاتٌ حَمِيمَةٌ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ الدَّانِي، الذَّلُولِ المُمْكِنِ لَمْسُهُ بِقُلُوبِنَا، بِإِحْسَاسِنَا، وَبَيْنَ المُمْكِنِ عِنَاقُهُ بِخَيَالاتِنَا، المَجَازِ المُجَنَّحِ القَافِزِ إِلَى فَضَاءَاتِ خَيَالٍ بَعِيدَةٍ.
– عِبَارَاتُهَا الشِّعْرِيَّةُ وَاضِحَةٌ، سَلِسَلَةٌ، وَجُمُلُهَا بَعِيدَةٌ عَنِ التَّعْقِيدِ اللُّغَوِيِّ، وَمَوْضُوعَاتُهَا جَدِيدَةٌ غَيْرُ مُكَرَّرَةٍ عَلَى الأَغْلَبِ.
– فِي جُلِّ قَصَائِدِهَا تَأْتِي عَاطِفَتُهَا مُتْرَعَةً بِالأَسَى، يَمْلأُهَا الحُزْنُ، وَيَجْثُمُ عَلَيْهَا الانْكِسَارُ، وَيَطِلُّ مِنْهَا قَلَقٌ نَفْسِيٌّ وَبِيلٌ، وعَذَابَاتٌ إِنْسَانِيَّةٌ جَسِيمَةٌ. لَعَلَّ مَرَدَّ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى خَيْبَاتٍ ذَاتِيَّةٍ مَرَّتْ بِهَا الشَّاعِرَةُ، وَخَيْبَاتٍ عَامَّةٍ يَمُرُّ بِهَا الوَطَنُ وَلايَزَالُ .. فَالْوَطَنُ يَرْسُمُ لَهَا وَلَنَا بَعْضَ الفَرَحِ، وَكُلَّ الحُزْنِ، فَهْوَ فَضَاءُ قَصَائِدِهَا تَحْيَا فِيهِ وَتَتَنَفَّسُ، تَرْكُضُ فِيهِ، وَتَحْلُمُ فِيهِ الشَّاعِرَةُ وَتَشْعُرُ.. لا شَيْءَ يَمُرُّ جُزَافًا؛ فَحَتَّى لَفْحَةُ الحَرِّ تَزْرَعُ فِي نُفُوسِنَا بؤسًا، وَتَنْتَهِبُ مِنَ أَرْوَاحِنَا فَرَحًا، وَتَنْزَعُ مِنْ أَيْدِينَا حُلُمًا ..!!
– أَحْيَانًا لَا تُلْقِي بَالاً لِلْمِيزَانِ العَرُوضِيِّ فَتَضْطَرِبُ تَفَاعِيلُهَا، القَلَقُ العَرُوضِيُّ الَّذِي يَشُوبُ بَعْضَ أَبْيَاتِهَا، يُوقِفُ التَّدَفُّقَ العَفْوِيَّ لِمُوسِيقَا القَصِيدَةِ. غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُهَا التَّخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الاضْطَرَابَاتِ العَرُوضِيَّةِ بِقَلِيلٍ مِنَ التَّرِيُّثِ وَالانْتِبَاهِ وَالمُرَاجَعَةِ.