سرد

فـرحة

فصل من رواية جديدة

 

لم يمت سي جاب الله من الفرحة كما تم الاعتقاد. أيضا لم يمت قضاء  وقدرا بصورة طبيعية.. هو لم يمت أصلا. الصراخ سبب له حالة نشوة كبيرة رمت به في برزخ الأحلام. طبيب الشرطة الذي جس صدغه ومعصمه أعلن وفاته. الماء البارد الذي غـُـسّل  به لم ينعش يقظته. الثوب الأبيض الذي كُـفًّن به لم يجعله ينهض. رائحة التراب. رائحة الإسمنت. قبلات المحبين. دموعهم. حتى القطنة الصغيرة التي تم زقـّـها في مخرجه لم يشعر بها.

 وغادر المشيعون المقبرة وغربت الشمس باحثة عن فجر جديد تنبلج فيه. وخيم الظلام الناعم الهادئ. ومع ظهور القمر في روح السماء. ومع نفخه لكتل السحاب الحاجبة من أمام طلته. بدأت الحياة تدب في أوصال الموت. نور القمر جعل القبور تستأنس. لتعم الطمأنينة وينبثق الدفء في روح سي جاب الله الذي أقبرته الفرحة. فتح عينيه أولا لتزيح رؤيته القماشة البيضاء التي تغطيها. تمطى مغيّرا ضجعته على جنبه ورأسه إلى الجنوب الشرقي إلى ضجعة تامة على ظهره. تفرقعت فقراته بفعل التمطي الكسول. وبدأت قرارة نفسه تستعد للجلوس ثم الوقوف والتمشي للحمام أو المطبخ. شعر بقيد أبيض في قدميه فحركهما بعنف فاتسع القيد قليلا ثم بطريقة كمن يخلع جوربه بواسطة إبهام قدمه عندما يحشره معوجا إلى تحت عنق جوربه القابض على سمانة ساقه ويجره إلى أسفل. تحرر من قيد القدمين  شاعرا أنه في حلم. حلم أنه صرخ والناس صرخت وراءه. فمات من الفرحة. أو مات في الفرحة التي حلم بها طيلة عمره بتعبير أدق. رفع غطاء القبر. الطوبة  المغطية لرأسه رفعها بيمناه وركنها يمينه والمغطية لصدره رفعها بيسراه وركنها يساره. الطوبتان المغطيتان منتصفه وساقيه تركهما على حالهما.

سحب جسده وراء رأسه المطل إلى النور إطلالة كتكوت من بيضة. القمر في الأفق مبتسم متألق.  لم يرعبه الكفن ولا القبر ولا سكون مدينة الموت. ألف وجود العفاريت والخرافات في الحياة. شهد عمليات موت مؤلمة. عمليات تعذيب بشعة. عايش مذابح جماعية كثيرة. موت بلا استثناء. لا جرحى. لا أسرى. لا رحمة. قرب القبر كانت هناك فسقية ماء. نظر في مرآتها ليرى هيأته الجديدة. لباس أموات على جسد حي. رأى في الماء ما ألبسوه. ملابس بيضاء ملطخة بالإسمنت والطين. تفوح منها رائحة عطر لا يستسيغه. شعر بشيء صلب يقف حجر عثرة أمام ضرطته. أدخل إصبعيه وجذبه. فانطلقت من مؤخرته ضرطة الحرية الكبرى. بكل يسر. بكل  راحة. لم يرم القطنة التي حشرت في مخرجه وشق طريقه حثيثا نحو بوابة المقبرة.

 شكله غريب. الدنيا ليل. لن تقف له سيارة أجرة ولا حافلة ولا سيارة إسعاف أو شرطة. كل من يراه سيظنه عفريتة تلبس كفنا فيطلق ساقيه أو مركبته أو كاليسه ( حنطور ) للريح. عندما وصل إلى بوابة المقبرة رأى أمام غرفة الخفير سروالا وسورية وشنة منشورات على الحبل. أخذها سريعا وانزوى وراء شجرة نم ِّ وارفة. خلع لباس الكفن ولبس السروال والسورية وعنقر الشنة جيدا على رأسه. ليشق طريقه مباشرة صوب بوابة المقبرة. لم يكن الخفير في غرفته الملاصقة للبوابة. كان يقضي حاجته في المرحاض. أحس بخطوات تحوم في المكان. فتنحنح وكح معلنا عن وجوده. وعندما لم يسمع كلمة سلام أو خير أو مرحبا أو أي رد صوتي من صاحب الخطوات على كحته ونحنحته أطل من نافذة المرحاض الصغيرة ليرى رجلا يلبس مثل ملابسه الشعبية يقترب من صندوق التبرعات الرابض عند مدخل المقبرة ويزق في شقه شيئا صغيرا أبيض كان يمسكه بسبابته وإبهامه ثم يبتعد عابرا البوابة إلى الخارج مترنما بأغنية شعبية التقطت أذنه منها نصف مقطع هو  :

” يا عين ما تبكيش على اللي ماتوا ” , وأكمل هو بقية لامتها :

” وابكي عاللي في السجون يباتوا “.

لم يكترث الخفير أو يرتاب في الرجل. أحيانا تتبرع الناس بأشياء غير النقود. وربما هذه القطنة البيضاء تكون عملة جديدة ضُربت حديثا ولم تمر عليه.   فوقته كله  يقضيه في المقبرة. حفر قبور. خفارة. دفن. مواساة أرامل زائرات لأزواجهن الراحلين بطريقة  ” الحي في اللي يالاه “. ” و ليش البكاء يالعين وليش الحيرة… واللي رحل انسيه ديري غيره “. ” وعيشي حياتك بكاك عليه ما يردش “. يقضي طرفا من وقته أيضا في التهام صدقات قصاعي الأرز والمكرونة والبازين.

واصل اتمام قضاء حاجته بكل راحة. زحر جيدا حتى أخرج كل ما تبقى في أحشائه من فضلات كونتها وجبة بازين الشعير ولحم القعود التي أحضرها أوان الظهر أحد المترحمين على أرواح أمهاتهم بمناسبة أربعين يوما على الرحيل.

استنجى بيسراه جيدا. ثم غسل يديه بعناية بصابون الفانيك الأحمر. شمهما فوجد رائحة الصابون قد طغت على كل الروائح الخبيثة. فابتسم وطبطب على بطنه حامدا شاكرا نعمة المولى ومتمتما في سره بالطبع بدعاء يقال بعد قضاء الحاجة.

عندما خرج من المرحاض ممسكا بوزرة ينشف بها يديه لم ير بدلته العربية وشنته منشورات على الحبل ورأى بدلا منهما كفنا أبيض ملطخا بالطين والإسمنت يرفرف بمرح بفعل نسيم المساء. شهق وصرخ وجرى ناحية صف القبور المدفونة حديثا فوجد آخرها منبوشا. كان قد فُتح منه قدر طوبتين. أطل برأسه في جوف القبر مستعينا بنور هاتفه الخليوي ماركة البيلة 2100 فتأكد أن القبر خالٍ تماما.

هذه المرة لم يتم النبش لسرقة جزء من الجثة ككف اليد أو مشط القدم أو الرأس إنما لسرقة الجثة بكاملها. هذا ما اعتقده الخفير فورا. لكن لماذا يسرقون معها لصوص الموتى بدلته العربية وشنته الحمراء العزيزة عليه والمهداة إليه من هجالة (مطلقة) بدوية التقاها في مرابط سيدي مرعي بقرية جردينة ؟. الأمر فيه إنَّ. فيه سر. شعر بالقلق الشديد واتصل بالشرطة مباشرة مبلغا عن فقدان بدلته العربية وشنته الحميراء وجثة كاملة من قبر عُمّر عصر هذا اليوم.

جاءت الشرطة سريعا. كون هذا القبر لشخص مهم مات نتيجة انفعال عاطفي حاد حسب تقرير طبيب الشرطة الشرعي وكونه أيضا العضو الوطني الوحيد في أوبرا الصراخ التي قبض على أعضائها اليوم في حديقة الملح بطريقة رشهم بالغاز العطري وأنزلوا جميعا في المركز الطبي الكبير وبعض المستشفيات الأخرى منتظرين زوال أثر المخدر بعد يوم ليتم التحقيق معهم بالدور لاتخاذ إجراء عاجل بشأنهم .

حققوا مع الخفير سريعا للحصول على بعض المعلومات فسرد عليهم أحداث يومه منذ استيقاظه وتناوله غذائه من وجبة البازين وحتى دخوله المرحاض عند المساء. حكى لهم ماذا رأى عندما تناهى إلى سمعه صوت أقدام. لقد سعل وتنحنح و لكن لم يتجاوب معه أحد فأضطر لقطع خريته الممتعة  وأطل من نافذة المرحاض ليرى الرجل يلبس مثل ملابسه لكن لا يحمل على ظهره أي جثة. كل ما في الأمر أنه كان ممسكا  بشيء صغير أبيض زقه بصعوبة في شق صندوق التبرعات. أطلق الضابط رصاصة على قفل صندوق التبرعات فانفتح بابه. ليرى داخل الصندوق بعض النقود الورقية والمعدنية وفي منتصفها قطنة صغيرة بيضاء ملوثة قليلا بلون بني كالحناء. التقط القطنة الصغيرة برأس حربة البندقية.  حشاها في كيس بلاستيكي وأرسلها فورا للمعمل الجنائي الذي أفاد لاحقا أن القطنة تخص شخصا ميتا كانت رابضة في مبعره لساعات قليلة.

تم التحفظ على القبر وأرسلت الشرطة فرق بحث عن جثة هذا الرجل جاب الله الهاربة من قبرها. عمموا صورته عبر النت و الهواتف النقالة على كل مخبري المدينة. عمموا وصفا لهيأته بالكامل. طوله. بشرته. شكل وجهه.  ملابسه. ذهبوا إلى بيته فوجدوا به مأتما قائما. مازالت أسرته تتلقى التعازي. الشاي في براريد كبيرة يفور رافعا إلى السماء أبخرة مرّة. المعزون من حي المحيشي ومن المناطق المجاورة جالسون في السرادق. يغادر فوج ويأتي فوج جديد. شيخ مصري يقرأ القرآن مجوّدا بجعل و بطريقة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد. قصع أرز بلحم العجل تقدم للذين وصلوا توا من أقارب المرحوم من المدن والنجوع القريبة. دخلت شرطية متخفية في ملابس دلالة ( بائعة متجولة على البيوت )  تندب وتبكي إلى بيت جاب الله. عانقت زوجته وشاركتها بكائها الحزين. ضمت طفله بلال و طفلته خديجة بحنان وربتت على رأسيهما مواسية. دخلت كل غرف البيت لتعزي الجميع. حتى غرفة النوم دخلتها بعذر تعديل تكامية ردائها. لم تلاحظ أي عملية اختباء.  لم تشم أي رائحة رجل في الغرف. تأكدت أنه لا أثر لجاب الله في البيت. الحقيقة أن جاب الله لم يعد إلى البيت. هو لا يدري هل هو ميت أم حي. يعلم فقط أنه يعيش حلما جميلا لا يحب انقطاعه. تحسس جيب السورية التي لبسها فوجد به عشرة دنانير لم يفسدها غسل السورية بالصابون والبوتاس. أوقف سيارة أجرة وقال للسائق إلى وسط المدينة الله يرحم والديك. قدام الفندق البلدي بالضبط. انطلق به السائق بعد أن اتفق معه  على 5 دنانير لأن الدنيا ليل ولا توجد مواصلات عامة الآن. انطلق عبر طريق الطويل العام. هذا الطريق مكتظ بالمستشفيات النفسية والكلوية والقلبية والعامة ومستشفيات الأطفال وأيضا تربض في منتصفه مصلحة مديرية الأمن.  شارع يبدأ من ضاحية الفويهات حيث مستشفى الأطفال و حديقة الحيوانات وينتهي بمصنع الإسمنت والمقبرة العامة.

وضع في مسجلة السيارة شريط كاسيت مرسكاوي فانتشي سي جاب الله وصار يغني مع مطرب الشريط حتى أن السائق قال له أحسنت. سأقفل المسجلة لأستمع لغنائك العذب وأبطأ من سرعة السيارة وأشعل سيجارتي نوع رياضي له ولسي جاب الله. أخذ سي جاب الله يغني :

 ” يا عين ماتبكيش عللى ماتو. وابكي عللي في القبور يباتو”.

يغني ويبتسم ويقفل عينيه كمن يحلم. بل هو يحلم بالفعل. منذ صرخته في حديقة الملح البنغازية وصراخ الفرقة الفنية  وعامة الناس وراءه وهو لا يعلم أين هو. تحركه الحياة آليا حسب رغبتها. تجعله يغمى عليه. تجعله يستيقظ. تجعله يفعل أفعالا لا إرادية لكن بها شيء من عقل وحكمة ومنطق. الحياة كأنها خمر لم يفقده وعيه تماما ولم يخف حتى يتلاشى سكره. واصل عدة أغنيات أطربت السائق وعندما انتهت السيجارة توقف عن الغناء تدريجيا وقال له السائق صحيت منور أنت فنان كبير. وتواصلت الدردشة بين السائق وجاب الله وعند مفترق الطرق بالفويهات كان المركز الطبي محروسا من قبل الشرطة. قال له السائق عارف اليوم شن صار في النهار في حديقة الملح. هناك شخص صرخ فصرخت وراءه الناس وهذا الشخص معه فرقة أوبرا أجنبية صرخت وراءه أيضا و وخدر الأمن الجميع بواسطة الغاز ثم قبض عليهم بسهولة وزج بالفنانين الأجانب جميعهم في المستشفيات بعد أن أغلقت منافذها جميعها  لتكون سجنا مؤقتا .

كان جاب الله يحلم فلم يعر كلام السائق أي اهتمام وواصل ترنمه بدرجة أخفت. في ميدان الفندق كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء. شعر بالجوع فاشترى سندوتشين فاصوليا بالكرشة من كشك مطعم قريب من سينما هايتي. تناولهما على عجل وجلس في مقهى العاشق تحت أقواس الفندق البلدي يرشف شايا بالنعناع ويستمع إلى المذياع الصادح بأغنية للفنان المرحوم علي الشعالية مهزهزا رأسه بسعادة لتبرويلة الشعالية :

هابا يا لنظار عليكن. واحل فيكن. نضتن مش مني بيديكن.

هابا يالنظار ودادي

منا أنا انهترس في ارقادي

لو ربي يعمي حسادي

ايسخرلي زوله ويجيكن.

هابا يالنظار عليكن. واحل فيكن. نضتن مش مني بيديكن. الخ.

 أقفل المقهى عند منتصف الليل فوقف متكاسلا لا يعرف أين يذهب. قادته قدماه إلى أمام الفندق البلدي حيث المزارعين قادمين بمنتجاتهم لبيعها بالجملة. زحمة سيارات نصف نقل وشاحنات. أصوات سماسرة تتعالى بالاسعار. أيمان غليظة ورقيقة ترمى من أفواه السماسرة مؤيدة لجودة السلع وأثمانها الرخيصة غير المتوفرة حتى في المزرعة المنتجة نفسها. باعة شاي جوالة يحملون براريدهم الألمنيوم الكبيرة مثبتين تحتها بواسطة أسلاك معدنية كانون جمر صغير. كانون الشاي في يد وفي اليد الأخرة سفرة مليئة بأكواب الشاي القصيرة. بعضها مملوء حتى المنتصف بالكاكاوية. يتذوق جاب الله الخيار والطماطم والتمر والرمان والبطيخ وكل منتجات الخريف ويساوم المزارعين والسماسرة داخلا معهم في مفاوضات من أجل تخفيض السعر تنتهي دائما بالفشل لأن جاب الله ببدلته العربية وشنته الحمراء وبشرته السمراء يوحى بأنه صاحب محل خضار أو سمسار في هذا الصنف من النشاط. فكان يخفض لهم الأسعار إلى الزب أي الصفر. واصل التجول بين السيارات والشاحنات ودخل زحام شديد من البراويط التي يجرها أطفال يافعين من قبائل أولاد علي أو رجال سمر أفارقة. تحيط هذه العربات بكل شاحنة يتم الاتفاق على بيعها حيث يتم نقل حمولتها إلى سيارة أخرى أو إلى محل المشتري داخل الفندق البلدي. أجواء طازجة تفوح بنكهة البصل والثوم ويتبادل التجار جلوف البطيخ أو الدلاع أو أذرع الفقوص المعوج كعربون كرم. تسمع كلمات كثيرة تعبر على المفاصلة في السعر وإتمام البيع أو رفضه بجملة ” يفتح الله ” أحيانا تحدث مزايدات فيصعد المنادي أو الدلال إلى فوق السيارة ويستمع إلى التجار المزايدين يفتتح السعر بمائة دينار ويبدأ التجار في زيادته بالعشر دنانير أو بالعشرين ولا يزيد التاجر على آخر إلا بعد أن يطبطب على الدلاع أو يشم ما تبقى من حبل سرّة البطيخ ( الشمام ) أو يقلب حبات الطماطم بيديه ليعرف حجم فسادها ونضجها وجودتها وقبل أن يرفع السعر ينظر في عيني التاجر المنافس على الشراء بسخرية وأحيانا بازدراء كجزء من الحرب النفسية التي يستخدمها التجار لحظة الشراء لجعل المنافس ينسحب من المزايدة و لا يصمد فيواصل رفعه للسعر. عندما يرتفع السعر إلى حد معين ولا تاجر أو سمار يزيد السعر أكثر. يقوم الدلال  بمنح  مهلة لعل أحد الواقفين حول السيارة أو أحد القادمين من بعيد ينطق بكلمة زيادة فينادى رافعا صوته بكلمة شعبية تعني هل من مزيد ؟ وحينما لا يرد أحد ويمضي وقت المهلة  يرسى الدلال البيع والعطاء على آخر رافع للسعر وتتم مصافحته وقول عبارة  ” مبروك عليك ” ليشرع البائع والمشتري في إتمام الصفقة واستلام النقود نقدا أو عبر إيصال أو عبر كلمة إن كان الشاري من التجار المعروفين في السوق .

وقد تحمس جاب الله لهذا النشاط التجاري وأنعشه هواء الليل وأكواب الشاي وأشبعته الخضروات والفواكه التي أصاب منها وهو يتجول في السوق فرأي سيارة قلع ( نصف نقل ) واصلة بحمولة من الفلفل الأخضر الحار. فجانبها حتى توقفت تماما ثم صعد فوقها  وصار ينادي فلفل حار. فلفل حار. هيا قربوا. هيا يا سي قريتشا إن كان تريد ادير مسير مع انصاص الفول المدشش هيا يا جماعة الهريسة. وأخذ عدة قرون فلفل طويلة وأخذ يكسرها لنصفين لتحدث طرشقة حارة دلالة على الطراوة والنضج وعندما شم رأس فلفل كسره للتو عطس بقوة بسبب رائحة الفلفل التي استنشقها فالتف حول السيارة سماسرة الخضروات وبدأ المزاد بخمسين دينار ليرسي على 750 دينار أعطي منها لسي جاب الله عشرة دنانير بالحلال أجرة مناداته. ليست كالعشرة المغسولة التي عثر عليها في سورية الخفير. هذه العشرة تظهر فيها معرقة سيدي عمر المختار بيضاء ناصعة لم يبهتها أي نوع من بوتاس الغسيل.

 بدأ الفجر يلوح. والخيط الأبيض يتبين من الخيط الأسود. والحافلات تصل بالناس إلى الفندق البلدي والكاروات التي تجرها الخيول والبغال والحمير تصل أول بأول وتأخذ مكانها المعتاد أمام الفندق عند سينما الاستقلال. ومازال سي جاب الله يعيش الحلم. لا يدري أين يذهب. أخذته أقدامه إلى ناحية مستشفى الجمهورية للولادة شرق الفندق البلدي. شعر بالتعب وببعض النعاس فطرح قطعة مكاوة ( ورق مقوى ) وتربع عليها دافنا رأسه بين يديه. جاء بائع الزمامير وصانعها الشهير فجلس إلى جانبه. الزمار عرف سي جاب الله لكن سي جاب الله لم يهتم به أو يعرفه. لم يزعل منه الزمار بل عذره بسبب الارهاق والنعاس والظروف العطيبة الشطيبة البادية عليه. وجاءت بائعة تشادية أيضا تلبس الزي التقليدي المورد ويفوح منها عطر الخمرة النفاذ  فطرحت بسطة خردواتها إلى جانبهما ووصلت سريعا أيضا سيارة شرطة هبط من مؤخرتها أربع أفراد شرطة مسلحين ببنادق الكلاشنكوف ذات الأخمس الخشبي و هبط معهم مدني يلبس جلابية مصرية طويلة يبدوا أنه أعلاهم رتبة. قبضوا على سي جاب الله بعنف وحزم وأركبوه في مؤخرة السيارة بركلة على مؤخرته العجفاء من المدني لابس الجلابية وبلكزة على ظهره  بأخمس الكلاشنكوف من شرطي سمين طاقته بارزة أكثر من بطنه وجبهته بارزة أكثر من شدقيه ورباعيته العلوية اليسرى ملبسة بالذهب. ما إن لكز سي جاب الله حتى ابتسم منتصرا لتومض رباعيته المتذهبة  وسط اللعاب كفريتشة سيارة. لم يعيروا احتجاج الزمار أي اهتمام الذي حاول أن يدافع على سي جاب الله أو يفهم الأمر على الأقل. دفروه على زماميره حتى تحطمت مقرونة مزدوجة بقرنين كان قد انتهى من صنعها وتجريبها البارحة تلبية لرغبة زمار شهير من مدينة المرج.

مازال سي جاب الله يعيش في الحلم. لم يهتم بعملية القبض عليه. لم يفكر إلى أين سيأخذوه. لم يسأل نفسه لماذا قبض عليه ؟. في الأحلام دائما تتلاشى الأسئلة ولا نحتج على أي شيء يحدث لنا. حتى الركلة العنيفة ببوز حذاء العارضات الذي ينتعله المدني بوجلابية و التي تلقاها على مؤخرته لم يشعر بها. وحتى لكزة الشرطي بالكلاشنكوف لم يحسها. فلم يتأوه أو يحتج أو يصدر أي رد فعل إرادي أو لا إرادي. قال له المدني بوجلابية الذي يعمل سمسار خضروات وبوليس خفية : ” فلفل حار آه يا نمس “. ثم فتشه واسترد منه العشر دنانير التي أعطاها له أجرة مناداته على سيارة الفلفل. هذا السمسار مختص في تجارة الفلفل ولديه مصنع هريسة حارة بالثوم في بوعطني و هو من اشترى سيارة الفلفل التي دلل عليها سي جاب الله فجرا. لكن أثناء تسليم أجرة الدلال لاحظ أن هذا الدلال تنطبق عليه أوصاف المطلوب الخطر التي عممتها الشرطة على جميع المخبرين بصورة عاجلة. نفس الوجه. نفس البدلة العربية. نفس الشنة. فتظاهر أنه لا يعرفه وراقبه عن بعد كي يعرف إلى أين سيذهب. وعندما لم يذهب إلى أي مكان. خاصة المستشفيات التي يرقد فيها الفنانون الأجانب أعضاء فرقة الأوبرا الذين خرقوا تعليمات شرطة السياحة بإقامة حفلة من دون تصريح مسبق. اتصل بمركز شرطة الصابري فجاءت قوة مسلحة على عجل ركب معهم فور وصولهم لمفرق طرق مستشفى الجمهورية وأوصلهم إلى الهدف الذي لم يغب عن عينيه بتاتا.. وجدوا  سي جاب الله  متربعا في هدوء مسندا ظهره إلى سور المستشفى  دافنا  رأسه بين مرفقيه طالبا للدفء والهدوء منظرا بلهفة أن يبدأ الزمار الذي يعرفه جيدا تجريب مزاميره ليجرب هو الآخر على سحر موسيقاها كلماته وألحانه الجديدة.

سي جاب الله يعيش في الحلم. صرخته أدخلته إلى ذلك العالم. لم يستطع أن يخرج من حلمه. حاولت الشرطة أن تستجوبه. جربت معه كل الأساليب. بدء من ” التي هي أحسن ” إلى آخر ما توصلت إليه تكنولوجيا التعذيب. ليس لديهم جهاز حتى الآن يجلب الناس من أحلامهم. كان لا يرد على أسئلتهم ولا يحس بصفعاتهم. كان يغني المرسكاوي أحيانا. وأحيانا يفتح فمه إلى آخره كي يصرخ. لكن المخبر بوجلابية  يكممه سريعا بكمامة  غليظة. فهذه الصرخة قد تجعل  الجميع يصرخون وراءه. والأخطر من ذلك أن يستيقظ بسببها الفنانون الأجانب المخدرين والمتحفظين عليهم في المستشفيات حتى يُتخذْ قرار بشأنهم ربما يكون ترحيلهم إلى خارج البلاد مخدرين أيضا.

استقر الأمر بأن يعيدوا سي جاب الله إلى قبره. يدفنوه مجددا. ويقفلون عليه بخرسانة مسلحة. هذا القبر يحتاج لتجهيزات خاصة. يحتاج إلى حفر من جديد ووضع الألواح الخرسانية في قاعه وإلى جوانبه الأربعة وسقفه وهذا لا يمكن عمله أثناء النهار حيث المقبرة تعج بالزوار والمشيعين. وضع سي جاب الله في زنزانة مكممين فمه ومقيدين يديه ورجليه وجاذبين رقبته بواسطة طوق معدني إلى مخطاف معلق بالحائط. وعندما صار القبر جاهزا أخذوه في الليل. غسله فقيه الشرطة معيدا القطنة التي وضعها في صندوق التبرعات إلى ثقبه وألبسه الكفن نفسه الذي نشره على الحبل وتم إعادة البدلة العربية والشنة للخفير. بعدها فتشوا المقبرة للكشف عن أي متسللين زوارا  أو صحفيين. وعندما وجدوا المقبرة لا أحد فيها إلا هم شرعوا في دفنه مجددا. لم يقاومهم سي جاب الله عندما غسلوه وكفنوه وصلوا عليه وأقبروه لأنه يعيش في حياة الحلم ولا يحس بالواقع على الرغم من أنه يتحرك فيه. ساعة الدفن كانت في  منتصف الليل… صلى عليه شيخ الشرطة صلاة سريعة ودعا له أن ينام في قبره بسلام إلى الأبد حتى يوم الحساب. أقفلوا عليه بالخرسانة المسلحة. لم يحس سي جاب الله بشيء. هو داخل القبر الآن. لا هواء. لا نور. لكن أحلامه بدأت تكبر. وحياته في هذا الحلم مضى عليها زمن. زمن قصير لكنه متمدد. زمن الأحلام قصير لكنه طويل وخالد. لم تستطع الخرسانة المسلحة أن تمنعه من الخروج. الأحلام أقوى من الإسمنت والحديد والنور. خرج من القبر بشكله الشفاف. خرج على هيأة حلم يحلم به المكان الذي فوق القبور. مر من أمام غرفة الخفير. وجد البدلة العربية والشنة منشورتين على الحبل و هواء الليل يلعب بهما. يمرجحهما كأبنائه. يجففهما من ماء الغسل. الخفير في الغرفة يتابع مسلسلا مرئيا مدبلجا. رابضا قرب النافذة يراقب البوابة بين الحين والآخر أو كأنه ينتظر أحدا. لأن مشاهدته للبوابة أكثر من مشاهدته للتلفاز. مرت روح سي جاب الله على صندوق التبرعات. لم تضع فيه هذه المرة شيئا. روحه لا تمسك قطن المؤخرات. روحه لا تحتاج إلى ملابس. طار من المقبرة حتى قرب الميناء. جلس على مقعد في حديقة الملح. أمضى مع حشرات الليل وطيور السنونو و النيسي والبوعبعاب و  الخليش وغيرها المعششة نوما  في شجر النم ليلة ممتعة. وعند الفجر تناول حفنة ملح كركورة من الحديقة. رشها فوق قبره الفولاذي ودخله. لم تستمر الخرسانة قوية. كل ليلة كان يرشها بحفنة ملح. حديد الصوليتا ( التسليح ) بدأ يصدأ. الإسمنت بدأ يتحول إلى طين هش. الطين المفضل لقطرات المطر. ومع خروجه كل ليلة وعودته بحفنة الملح ورشها على القبر  لم يعد هذا القبر قويا كما أريد له. رفع سي جاب الله روحا وجسدا خرسانته الهشة بسهولة. اتجه نحو البوابة. لبس البدلة العربية والشنة تاركا في الوقت نفسه كفنه على الحبل تؤرجحه الرياح.

لم ينس بالطبع أن يزق في صندوق التبرعات القطنة التي أقفلوا بها مخرجه مرتين. أوقف سيارة وقال للسائق إلى الفندق البلدي. بعد أمتار سارتها السيارة سأله السائق:

 أين تعمل يا سي الحاج ؟

أجاب جاب الله :

  خوك على باب الله ” أي لا عمل له”.

 كان الشهر شهر رمضان الكريم وكان السائق يحب عمل الخير فقال لسي جاب الله ربي يساعدك وإنشاء الله تجد عملا  وسأوصلك مجانا. هذه المرة لم يجد في جيب البدلة العربية الخاصة بالخفير أي دنانير. وصل إلى الفندق ووجد الكثير من المطاعم المجانية المسماة بموائد الرحمن. دخل أحدها فوجد صديقه القديم حرفي المزامير. جلس إلى جانبه وأخذ يرشف من كوب لبن شاطئ العريبات ويأكل من التمر الصعيدي وقال لهم صاحب المائدة :

” أيها الصائمون مضمضوا أفواهكم سريعا وأنووا الصيام. ما زال على الإمساك عشر دقائق “. مضمض سي جاب الله فمه وشرب جرعة ماء وغادر المطعم صحبة صديقه  ليدخلا إلى الفندق البلدي متجولين بين سيارات الخضرة التي تبيع بالجملة ووصلت أخيرا سيارة نصف نقل محملة بشحنة من الفلفل الأخضر الحار فصعدها سي جاب الله  لا شعوريا وأخذ ينادي فلفل حار فلفل حار ويكسر عددا من قرون الفلفل محدثا الطرشقة اللطيفة أو الفرقعة أو صرخة الفلفل المكسور الدالة على الجودة والطراوة والنضج وعندما قرب قرن فلفل من أنفه. شعر بشيء يجعله يعطس لكنه لم يعطس.  اجّل أو أرجأ عطسته إلى حين. فتلك الأثناء  لمح التاجر المخبر أبوجلابية الذي رسى عليه عطاء الفلفل في المرة السابقة والذي ركله على مؤخرته وسجنه في زنزانة فقفز من السيارة وغرز قرن الفلفل في أنف هذا المخبر الذي صار يصرخ ويعطس ويقاوم هجوم سي جاب الله دافعا بيده إلى جيبه الجواني ليخرجها وبها مسدس بلجيكي أطلق منه في الهواء رصاصات تحذيرية ودفاعا عن النفس أمام السلاح الفتاك قرن الفلفل الحار الذي هاجمه غيلة وغدرا  فانفض جمع الخضارين وسط صياح وهلع وياساتر ويا سي عبدالسلام وياسي مرعي  دونكم  لنا وصار هو وسي جاب الله واقفين وجها لوجه. المخبر بوجلابية بيده مسدس وسي جاب الله بيده قرن فلفل مكسور زريعته البيضاء تتناثر كلما هزه متوعدا. طلب المخبر بوجلابية  من سي جاب الله باسم القانون الانبطاح أرضا ووضع يديه على رأسه. لكن سي جاب الله لم يمتثل للأمر وظل ممسكا بسلاحه قرن الفلفل وتجار وسماسرة الفندق يصرخ بعضهم من خلال كوّات مخابئهم خلف أكداس البطيخ والبكيوة وصناديق الطماطم وحظيرة البراويط وشوالات البصل والثوم ” العنوا الشيطان يا عرب صلوا على النبي ” وسرعان ما أتت الرصاصات المنطلقة منذ قليل بكل الأجهزة الأمنية وتم القفز على سي جاب الله من قبل مظلي دلّته مروحية مكافحة الإرهاب رفقة كلب سلوقي شرس  نهش من يد سي جاب الله قرن الفلفل سلاح الجريمة وانقض المظلي الضخم بدوره على رقبة سي جاب الله النحيلة خنقها وجذب يديه إلى وراءه ليأتي شرطي آخر سريعا ويضع فيهما الكليبشة ( القيد ) ويعطي مفتاحها للمخبر بوجلابية. تمت السيطرة على سي جاب الله بسهولة. تمت مصادرة قرن فلفله سلاح جريمة مقاومة السلطات  والتحفظ عليه في كيس بلاستيك داخل براد مجمد من مصنع مصراته. تم ترحيل سي جاب الله مجددا إلى الزنزانة. وذهب فريق من الأمن لمعاينة القبر فوجدوا أن الإسمنت تطيّن ونبتت فوقه بعض الأزهار وحديد الخرسانة فتته الصدأ والجثة التي دفنوها ليست بالقبر والبدلة العربية والشنة الخاصة بالخفير سرقت مرة أخرى والقطنة التي كانت تقفل دبر سي جاب الله مزقوقة في صندوق التبرعات. إنها قضية محيرة وما العمل ؟.. لابد من التفكير في حل. لابد من حسم أمر هذا الميت. الذي مات من الفرحة. وأجتمع رجال الأمن جميعهم في جلسة طارئة. وقرروا أن المشكلة ليست في سي جاب الله. لابد من فهم الفرحة التي قتلته. لابد من السيطرة على هذه الفرحة. بواسطتها نستطيع السيطرة على سي جاب الله وغيره من عبيد الله. كيف فرح الناس ؟. كيف مات سي جاب الله من جرعة الفرحة الزائدة ؟. وإن قبضنا على الفرحة ففي أي سجن نضعها ؟. سجن بوسليم ؟. لا. لا. سجن غوانتانامو ؟. لا. لا. سجون الدول الصديقة. لا..لا.   قال لهم بوجلابية والذي رقي إلى رتبة نقيب ركن  لدوره الكبير في قبضه على سي جاب الله في المرة الأولى. ولحله سريعا لغز بدلة الخفير العربية والشنة المنشورات كل ليلة على الحبل وفي جيب السورية دائما عشرة دنانير حيث استدرج الخفير للتعاون والاعتراف عن السبب الذي اتضح أنه عبارة عن مواعدة غرامية ليلية مع امرأة أرملة تسكن في الجوار. إن وجدت البدلة على الحبل وبها العشرة دنانير فمعناها الجو تمام ورفيق الخفير ليس معه في الغرفة فالتدخل وإن لم تجد البدلة منشورة فمعنى ذلك أن المكان غير مهيأ. وإن وجدت البدلة وليس بها عشرة دنانير فمعناها الخفير مفلس. إن أرادت النيك مجانا فيا مرحبتين بها.

قال لهم بوجلابية  لا تستبقوا الأحداث. دعونا نقطع الرأس حتى تتيبس العروق. أولا اقبضوا لنا على الفرحة. ضعوها لي في أنبوبة اختبار. وإن كانت كبيرة ففي حاوية بضائع. أو في أي مستوعب أو حيز يناسبها. وبعد ذلك سنجد لها قبرا لائقا بها. وستحل مشكلة سي جاب الله التي تؤرقنا. لأن جاب الله بدون فرحة هواء ميت  .

لا أحد يمكنه القبض على الفرحة. يمكن فقط أن ينقص منها أو يتركها تزداد. لو تم القبض على الفرحة لتحوّل الزمن إلى دفقات بكاء. ولرأيت الشمس تبكي والقمر يبكي والليل والنهار والفصول الأربعة والجغرافيا كلها بواكٍ. عوامل كثيرة تجعلني افرح. ظروف كثيرة تجعلني أفرح. الفرحة كامنة  في هذه العوامل وهذه الظروف. أعيش ظرفا ما فأفرح. أعيش ظرفا ماء فأحزن. الفرحة التي في قلب جاب الله جاءته من الناس ومن الفرقة الأوبرالية. صراخ الناس وصراخ الفرقة فيهما جزيئات الفرحة المتجمعة في قلب جاب الله. الموضوع متشعب. لا يمكننا القبض على كل الشعب وانتزاع الفرحة منه. وبالمناسبة كيف يمكننا أن ننزعها منه ؟. هل بعملية جراحية ننزع فيها كل ألسنة الشعب ؟.. وكيف ستكون الدولة آنذاك ؟.. دولة بكاكيش  ؟!.. أم بتفقيره وتجهيله وتمريضه والعودة به إلى العصور البدائية ؟. المشكلة أننا حتى إن عدنا به إلى العصور البدائية فالقارئ يشك أن يكون شعب هذا الزمان بدائيا مبدعا يبدع لنا نقوشا كالتي في جبال تاسيلي وأكاكوس. الفرقة قبضنا عليها وسنبعدها عن التراب الوطني بفرحها وبكل مستلزماتها المتدخلة في شؤوننا الداخلية. أما الشعب الذي صرخ في كل البلاد وراء صرخة سي جاب الله  فكيف يمكننا التعامل معه ؟.. ممكن في المرة القادمة بعد الصرخة يحرضهم. يقول لهم اهجموا على هذا المكان الحيوي أو غيره. جيد أن سي جاب الله صرخ صرخة واحدة وانتهى في حياة الأحلام. لو يكون واعيا أو حيا أو يقظا أو في صورته الطبيعية فسيسبب ما لا يحمد عقباه. كل يوم سيصرخ وكل يوم سنستنفر القوات في كل المدن لنسيطر على الجموع الصارخة. لن يكون لدينا خدمة أو قدمة إلا إسكات الناس. لا تدري هذه الناس أن لدينا هموم أهم ومشاكل أمنية خطيرة ونعمل كثيران السواقي طيلة الأربعة وعشرين ساعة كي نجعل هذه الناس العياطة تعيش آمنة وفي رغد.

ليس لدينا حل مع هذا الجاب الله الذي كلما ندفنه يخرج من جديد إلا أن نسفره كما سفرنا الفرقة الأجنبية. نتدبر له جواز سفر مزور. سنعتبره ليس وطنيا.. ليحل عنا. لا تنقصنا مشاكل. في أوروبا سيحلون له مشكلته. لن يعجزهم علاج صراخه. في أوروبا يصرخ فلن يرد عليه أحد. وإن رد عليه أحد فليست مشكلتنا. المشكلة والكرة في ملعبهم آنذاك. ونحن بدورنا لن نسمح له بدخول البلاد مجددا. سنضع اسمه في قائمة الممنوعين من دخول البلاد ونعلق صورته في كل المنافذ الحدودية ونبرمج سيرته وكل شيء عنه في حواسيب المطارات والموانئ والحدود البرية.

هذا إجراء احترازي مؤقت. لكن لتحل المشكلة بصورة نهائية. لابد من القبض على الفرحة. نواة الفرحة. سر الفرحة. شرارة الفرحة. نحب أن نعالج المشكلة من الجذور. فربما يظهر لنا غدا ستين ألف مليون جاب الله. لابد من التحكم في الفرحة. عن بعد عن قرب ليس مهما. ماديا أو معنويا ليس مهما. نريد أصل الفرحة. كيف تولد ؟.. كيف تموت ؟.. من يركب على من حتى يتخلق جنين الفرحة. ويولد صارخا مبتسما  ؟.. بصراحة في هذا العصر الحديث لابد أن يتطور الأمن. يبنى على أسس علمية. الحصول على سلاح الفرحة عمل استراتيجي. أهم من الحصول على القنبلة الذرية. يجب أن نسخر كل الإمكانيات لهذا الغرض. نؤجل كل شيء.  مشاريع التعليم الصحة الإعلام البنية التحتية كلها ونضع برنامج القبض على الفرحة في أول أولوياتنا.  نريد أن نذهب إلى أكثر مكان به زحمة فرح. نريد أن ندرسه عن كثب. ربما نعثر على أصل أو روح الفرحة هناك فنختطفها أو نستدرجها لنسيطر عليها. ومن ثم سنعتبر أننا تحكمنا في ثروة عالمية أثمن من البترول. سنتحكم في ضحك العالم وسعادته. من نريد أن نفرحه نفرحه. نسكب له في فمه نقطة فرح فيطير من الفرحة ومن نريد أن نجعله حزينا نكدا نحرمه من قطرات الفرح ليموت هما وغما. وممكن أن نستغل هذا الأمر حتى داخليا. نلقح الشعب كله ضد الحزن. كله يصير فرحا مبتهجا. لا شكاوي. لا مظاهرات. شعب يستيقظ ضاحكا وينام ضاحكا. نزيده الجرعة نجعله يقهقه. ننقص له الجرعة نجعله يبتسم. نضع الفرحة تحت مفتاح تحكم مثل مفتاح المصباح الكهربائي الذي يرفع الضوء بقدر ويخفضه بقدر حسب الرغبة. ومن خلال الحصول على سلاح الفرحة يمكننا أن نفكر في الحصول على أسلحة أخرى. الآن وفي العصور القادمة العلم يقول لنا أن سلاح النار لن يعود مجديا. لأن هناك أناس مثل سي جاب الله تقتله بالرصاص لا يموت. تقفل عليه في قبر يخرج. أي أنَّ الحرب القادمة ستكون حرب مشاعر وأحاسيس. من يتحكم فيها ينتصر. ومن ينفلت منه زمامها يهزم لا محالة. انظروا صرخة فرح واحدة فقط في بلادنا ماذا فعلت فينا. وهذا رأيي ولكم الأمر فيما ترونه مناسبا سيدي.

قال مدير الأمن سنعرض الاقتراح على السلطات العليا وإن وافقت لن نجد غيرك يا نقيب فلفول  مسؤولا عاما عن ملف الفرحة. فأنت عارف أن الدولة عبارة عن مجموعة ملفات وهذه الملفات تنبثق عنها ملفات أصغر. ملف قضية كذا. ملف النفط. ملف الإعلام. ملف السياسة الخارجية. ملف التخطيط للأمام وللخلف وللتفحيج  قـُدما على الجانبين. وهذا الملف المفرح بصراحة لا أحد سيتعامل معه جيدا غيرك. ابتسم المخبر بوجلابية فلفول وهزهز رأسه موافقا. لكن مدير الأمن لمح في عينيه نظرة طلب وطمع فقال له وعند تسليمك الملف معتمدا بالميزانية والموافقة سنرشحك سريعا لرتبة رائد ركن فاتسعت ابتسامته حتى تحولت إلى ضحكة إلى قهقهة استشرت حماها في المكان الأمني ليشترك فيها جميع من في الاجتماع وتنساب الضحكات خارجة من المكتب ثم من المبنى الذي به المكتب تحت الأرض ثم إلى فوق الأرض ثم إلى البوابة لكن حراس البوابة وقفوا أمام صدى الضحكات حجر عثرة وطلبوا منها ورقة إفراج وسماح بالخروج. دفعوا بها إلى الوراء بحراب بنادقهم فعادت الضحكات إلى حيث مكان الاجتماع مثقوبة نازفة مليئة بالدم الضاحك. قال لها بوجلابية فلفول أنا ضحكت هنا ولم أعطي أمرا بخروج ضحكاتي إلى الملأ وأعادها جميعها إلى حنجرته وإلى حناجر من شاركوه الضحك من ضباط وعساكر داخل المكتب. ذهب إلى صنبور المياه. مضمض فمه من الضحك. ولبس عبسته الأبدية. وارتدى نظرته القاسية اللئيمة. وعند خروجه من بوابة مقر الأمن ربت على حراس البوابة وأمر بمكافأتهم ومنحهم أسبوع إجازة مدفوعة الأجر لتفانيهم وإخلاصهم في القيام بعملهم في منع الضحك من الخروج بدون إذن.. وسجل أسماءهم لكي يكونوا من مساعديه إن احتاج إلى أعوان. فهؤلاء الضحك الخفيف الظريف عجز عن أن يضحك عليهم ويخرج إلى الحرية فما بالك بالمعتقلين العتاة وغيرهم من أعداء الوطن .

جاءت الميزانية وبحبح الرائد ركن فلفول بوجلابية. أشار عليه رئيسه المباشر وخبير العلم النفسي و الاجتماعي على السفر إلى بلاد الكرنفال. فهناك أكبر مصنع بشري لإنتاج الفرح. فلربما استطاع هناك أن يعثر على سر الفرحة فيقبض عليها ويسوقها أمامه إلى البلاد. وسيكون هذا الأمر إن حدث انتصارا تاريخيا باهرا أهم من الحصول حتى على كأس العالم في كرة القدم. وسيحوله إلى بطل وطني كبير ينال التقدير و الاحترام وجوائز التكريم. ستدخل يا فلفول العزيز بالفرحة الأسيرة البلاد فيفرح كل أبناء الشعب. لأن الفرحة صارت بحوزتهم. لا يستطيع أي إنسان أن يضحك أو يقول نكتة إلا بإذننا. من نلمسه بالفرحة أو نوجه سرّها إليه يفرح. وإلا فليمت بحزنه. ستتحسن العلاقات جميعها مع الدول. حتى الدول التي تكرهنا من تحت إلى تحت  لا تستطيع أن تعيش دون تفريح شعوبها. ستحتاجنا رغما عن أنفها المخنن. سيأتي ممثلو الكوميديا من كل صقائع الأرض والسماء لاستجداء قطرة أو قطرتين من أجل نجاح مسرحياتهم وأفلامهم.. عادل إمام سيأتي. غوار الطوشي سيأتي. شارلي شابلن سيأتي. قزقيزة سيأتي. كلهم كلهم وحتى الممثلات الكوميديات سيصلن إلى هنا حابيات على ركبهن. لكن يا بوجلابية لابد أن تكون مخلصا لبلادك. إياك أن تفكر ببيع الفرحة بعد القبض عليها. إياك أن تظنها شحنة فلفل حار أو طماطم تسمسر بها في الفندق البلدي و تبيعها بأي سعر مهما كان مغريا. نحن لا نريد المال. لدينا منه اشوالات لا حد لها. نريد الفرحة. ولا نريد بيعها أبدا. إن بعتها أو تصرفت فيها. فهذه خيانة عظمى. لا نسمح حتى بقطع  ذرة صغيرة منها تدسها تحت شدقك لتتكيف. لا تعتقد أننا لا نعلم. الفرحة إن أحضرتها ناقصة سنعلم ذلك. سيتضح كل شيء. سيكتشف ذلك فيزيائي التدغديغ. وهناك لا حياء في الأمن. طاقتك والجرة. إياك ثم إياك أن تلعب بذيلك يا عزيزنا فلفول. فأنت مرسول من بلدك. ومسؤول عن أهم جهاز فيه. ولا تنس أننا لا نطلق الطير ونجري تحته. فأنت تقوم بعملك هناك  تحت مراقبتنا وسيطرتنا وبالطب إمرتنا نحن نتابعك هنا و هناك أيضا لحظة بلحظة. تذكر دائما أنك تجدب في حضرتنا ولا يمكنك غرز السكين في بطنك إلا بعد أن نبصق عليه نحن مباركين.  هل لديك ما تقول  ؟.

 لم يقل فلفول شيئا..

 ركع بالسمع والطاعة..

أعطى تحية الواجب العسكري  وانتلف لا أدري برجعة أم إلى غير رجعة .

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (ما بعد النهاية) الأخيرة

أبو إسحاق الغدامسي

سيدي عبد الجليل*

مفتاح العماري

سيدة الإيشارب المجهولة

كريمة حسين

اترك تعليق