متابعات

لطفي عبد اللطيف… شاعر الألم الكبير

من جديد يلتئم شمل اصدقاء دار حسن الفقيه حسن لإقامة نشاطهم الذي يوافق الثلاثاء الأول من كل شهر، والذي تمثل في محاضرة قيمة بعنوان “لطفي عبد اللطيف… شاعر الألم الكبير” تناول فيها الناقد مفتاح قناو بتوسع واستفاضة شعر الراحل لطفي عبد اللطيف وركَّزَ تحديداً على جزئية مهمة ولافتة في شعره الغزير ألا وهي خاصية الألم.

تصوير: سالم أبوديب
تصوير: سالم أبوديب

بكلمة الأستاذ عبدالسلام الفقهي الذي أدار الجلسة، والتي افتتحها بتوجيه التحية لمشروع المدن التاريخية الذي يحتضن نشاط المجموعة داخل أحد فضاءاته الثقافية، وبعد التنويه بالأنشطة المقبلة للمجموعة والمتمثلة في محاضرة استثنائية يلقيها الأستاذ محيي الدين الكريكشي بمناسبة ذكرى إصدار قرار استقلال ليبيا من الأمم المتحدة نهاية هذا الشهر، ونشاط الشهر المقبل وهو أيضاً عبارة عن محاضرة تلقيها الأستاذة أسماء الأسطى بعنوان “الصحافة العامية في ليبيا” وبعد قراءة سيرة المُحاضر والباحث بصورة مقتضبة واستعراض مسيرته المهنية والأدبية بإصداره لعدة كتب تنوعت ما بين القصة القصيرة والمقالة ونشره في العديد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية وتأسيسه لنادي القصة القصيرة والرواية مع بعض الأدباء وعضويته ببعض الأتحادات والروابط مثل رابطة الأدباء والكُتاب إلى جانب عمله بالمحاماة، بعد سرد كل هذه المعلومات أُحيلت الكلمة للباحث الذي استهل محاضرته بمدخل مهَّدَ فيه لموضوعه بقوله “أما الشاعر فإن حجم الألم  يفجر لديه طاقات إبداعية تميز تجربته الجديدة عن ما سبقها وتجعله يتعمق في التعبير عنهُ – أي الألم – وكان لابد للحديث عن الألم في شعر لطفي عبد اللطيف من أن يُعرف الباحث الألم، فقدم عدة تعريفات ومقاربات حاول من خلالها تأطير هذه المفردة وتوضيح مفهومها والوصول إلى صيغة تعريفية جامعة لها، ففيما يرى الصوفيين أن الألم هو نقيض اللذة وأن اللذة هي طريق الأيمان بالله وشعور بالرضا الرباني ومن حادَ عن هذه اللذة سيعيش في ألم دائم، يرى آخرون أن الألم عبارة عن  تجربة حسية أو عاطفية بغيضة وقاسية يتعرض لها الإنسان وتترك في كيانه المادي أو المعنوي جرحا غائرا”.

وللغوص في موضوع المحاضرة والتوغل أكثر قسَّمَ الناقد الألم إلى قسمين يندرج الأول منه تحت تصنيف الألم الذاتي أو الشخصي والقسم الثاني هو الألم الإنساني العام أو الجمعي، إذ كما يشعر المرء بالألم الشخصي والفردي جراء سبباً ما قد يشعر بألم الآخرين الذين يشاركونه في صفة الإنسانية ولا يقتصر تألمه لألم الآخرين على محيطه القريب بل يمتد ليشمل العالم برمته. وأدرج الناقد عدة تصنيفات أُخرى للألم مثل الألم الرومانسي والوجودي دون أن يتعمق في تناولهما لأنهما لا يتعلقان بموضوع محاضرته.

وقبل البدء في تحليل نصوص الشاعر لطفي عبد اللطيف عرَّجَ المُحاضر على نماذج لشعراء عرب عانوا الألم فاستدل بالشاعرة العربية الخنساء التي تغنت بالألم عبر مراثيها لأخيها صخر الذي فقدته في الحرب ودموعها التي لم تتوقف حزنا عليه وتأسيا لفراقه، ومن ثم تلى بيتين من شعرها يؤيدان حكمه النقدي الذي أطلقه.

أيضا أشار الباحث إلى الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي الذي انعكس الألم الشخصي الذي عاناه طيلة حياته القصيرة على شعره وطبعه بطابعه، وزاد الأمر سوءا وعي الشابي بتخلف مجتمعه وما ارتكبه الأستعمار من تجاوزات خطيرة، كل هذا أسهم في تشكيل رؤية الشابي ما دفعه وعبر شعره إلى تبني نبرة التمرد والتطلع إلى التحرر وكسر الجمود والتخلف اللذان يهيمنان على مجتمعه – بحسب الناقد.

أيضا ذكَّرَ الباحث بالشاعر العراقي بدر شاكر السياب وعدُّه شاعرا عانى الكثير من الألم في حياته وكان طبيعيا وبديهيا أن يتسرب هذا الألم إلى شعره، حتى أنهُ أطلق على ديوانه الأول اسم أو عنوان  “أزهار ذابلة” في ترجمة لما يحسه من غبن وألم.

وقبل أن يشرع في الحديث عن الألم في شعر لطفي عبداللطيف أستعرض الناقد السيرة الشخصية للشاعر الذي ولد في 20-10-1942 وتحصل من فرنسا على دبلوم صحافة عام 1970 وبدأ الكتابة منذ ستينيات القرن الماضي من خلال الصحف والمجلات المحلية مثل الرائد وبعض الصحف التونسية، وصدر له عدة دواوين شعرية حملت عناوين، أكواخ الصفيح والخريف لم يزل وحوار مع الأبدية و قليل من التعري و عيناك صورة للصدى وقراءات في كف سندبادة، إضافة إلى أنه عمل بالمكتب الثقافي الليبي بتونس.

وفيما يخص الألم الذاتي الذي كابده الشاعر والذي تمثل بحسب الباحث في إحساسه بالظلم السياسي والأجتماعي والوظيفي وإحساسه العميق بالغربة في وطنه وفقره وشعوره بالحزن على بلاده. ولتوضيح الأمر أكثر وتقريبه لجمهور الحاضرين اختار الباحث إحدى القصائد للشاعر الراحل والتي تعبر بوضوح عن الإحساس بالظلم والغبن، القصيدة المعنونة ب “دساتير السلب” تقول بعض أبياتها:

مسروق من عمرك إنسان
ممحو حلمك تفسيره
مسحور في نعليك السير إلى الإمكان
تتناءى عنك مشاويره
مأخوذ منك أكثر منك… ولا غفران
كالصبح تموت تباشيره.

وهكذا إلى آخر القصيدة التي عبَّرت عن معاناة كل إنسان سُرِقَ عمره وهي لا تخص الشاعر وحده بل تتخطاه إلى الآخرين.
“قراءة في الأنا” هو عنوان قصيدة للشاعر لطفي عبد اللطيف أعتبرها الناقد مفتاح قناو من أنضج القصائد وأكثرها حرفية باعتبار أن الشاعر استطاع من خلالها تمرير العديد من الأفكار المحظورة حينها والمعاني المناوئة للسلطة القائمة آنذاك بطريقة مضمرة أفلتت من عسس السلطان وأجهزته الأمنية التي لم يحالفها الحظ في قراءة ما بين السطور.

الكاتب والمحامي: مفتاح قناو تصوير: سالم أبوديب
الكاتب والمحامي: مفتاح قناو
تصوير: سالم أبوديب

وهنا يستحضر بعضا من أبياتها الكثيرة الغالب عليها كما في جل شعر الشاعر القافية والقافية المتعددة في القصيدة الواحدة وفق البناء التقليدي العمودي.

أقرأني في نص الآن
لغة تُكتب بالكتمان
ترصدني فيها الأقمار
وتزرع من حولي الآذان أتهجاني….
سنة أخرى
ليست في درجات العمر
وأول أشهرها عصيان
إلى أن يقول :-
أتهجاني نصاً أفلت من سلطان
نصا، معجزة، برهان.

وترك – بحسب الباحث – الإحساس بالغربة جرحا عميقا في نفس الشاعر بدليل بعض قصائده التي عكست إحساسه باللا مواطنة وباللا أنتماء لهذه البلاد نتيجة ما وقع عليه من ظيم وتهميش متعمد، ولتوضيح هذه الفرضية استعرض الباحث قصيدة “حدَّثَ الحزن قال”

وفيما يشبه الحكمة السائرة والسخرية المُرة يتلو الباحث بعض الأبيات التي رسمت حاجة الشاعر وضيق ذات اليد إذ يقول مثلا:

انا المتبقي لعودة بعضي…
أنا المرتحل في الأغتراب.
ويقول أيضا في موضع آخر من القصيدة:
وبي رغبة مٌرة لاجتنابي
مخافة ما لم أوفره من مستطاب.

في إشارة إلى فقره وقلة دخله الذي يتقاضاه مقابل عمله ببعض المهن البعيدة عن تخصصه وموهبته كشاعر ومبدع إذ ينشد قائلا:

كم جاع قبلي نبي
وكم من صحابي.
أبكتهم الأرض
تنشق
يهوى بها الكثير فوق المرابي
أعدني إلى حضرتي
أسكرتني أنا ظمآتي للصواب.

أما في شأن الألم الجمعي أو ذاك الذي يلحق بالإنسان أينما وجد وحيثما حل نتيجة الظلم والأستغلال فقد استحوذ على قدر من قصائد الشاعر – ودائما بحسب الأستاذ المحاضر – مثل تلك القصيدة التي كتبها الشاعر عام 1967 واحتواها ديوانه “أكواخ الصفيح” قصيدة “فرحة العيد” وفيها تتشح نبرة الشاعر بالخوف والحزن ليس على نفسه ولكن على الأطفال من الأحزان والتشريد والمستقبل المظلم.

وكبرهان عل اهتمام الشاعر بالقضايا العامة وآلام الإنسان في كل مكان وتضامنه مع المظلومين والمغبونين أورد المُحاضر قصيدة “محاكم جورستان” – نسبة إلى الجور والظلم – والتي تتحدث عن اعتقال المناضل الكردي عبدالله أوجلان والزج به فب السجن ومحاكمته فقط لأنه متهم بالشكوى أو بالثورة على الظلم وسلب الحقوق.

ولم يكتفي بذلك بل سرد ظروف كتابة هذه القصيدة ومناسبة كتابتها وحتى مكانها  فالباحث كان شاهدا على لحظة تخلق هذا البوح عقب مشاهدة عملية الأعتقال.

وهنا تحديدا أعلن الباحث عن انتهاء المحاضرة التي تأتي في  إطار التعريف بالشاعر بالنسبة للذين لا يعرفونه ومحاولة لنفض غبار النسيان على شاعر ملأ الدنيا وشغل الأوساط الأدبية بإصداراته لعقود، واقتراح لإعادة قراءته من جديد على ضوء المستجدات الأخيرة، ولا ننسى أن الباحث وباعتباره صديقا للشاعر الراحل يسعى للأحتفاء بصديقه وتقديم لمسة وفاء له من خلال هذه القراءة العاشقة لشعره. قرأ بعد ذلك الباحث نصا شعريا باللهجة العامية للشاعر الراحل كان قد نُشر في العام 1965 بمجلة التلفزيون والإذاعة وهو ملمح آخر من ملامح تجربة الشاعر. وتاليا وبالأستعانة بجهاز العرض المرئي المكبر شاهد جمهور الحاضرين واستمع إلى قصيدة كان قد ألقاها الشاعر في أحد المهرجانات الرمضانية في القاهرة في مدح الرسول الكريم.

وبفتح باب المداخلات والتعقيبات، أضاء الأستاذ مازن أمين بعضا مما كان خافيا في شعر لطفي عبداللطيف وقدم إضاءة قيمة، أو بالأصح قدم شهادته للتاريخ في حق الشاعر الراحل وأشار إلى ما لهُ وما عليه دون تقصد أو دون التقليل من أهميته كشاعر ليبي له مكانته في المشهد ككل. أما الأستاذ أحمد عزيز الناقد الفني فقد تناول من جانبه ونبه إلى ما كتبه الشاعر من أشعار غنائية لُحنت بعضها وغُنيت إلى جانب تطرقه للذكريات الشخصية معه. ليُختتم المنشط بعد هذه الملاحظات على أمل اللقاء في المنشط الأستثنائي القادم أواخر الشهر الجاري مع الأستاذ محيي الدبن الكريكشي وموضوع ذكرى إصدار قرار استقلال ليبيا.

_______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

إضاءات على تاريخ دور العرض في ليبيا

مهند سليمان

بشير الرابطي في ضيافة بيت العبارة

مهند سليمان

افتتاح ملتقى “مبدعات عربيات في زمن الحرية” في بنغازي

المشرف العام

اترك تعليق