لن أنسى دخول جارتنا “ماريا كارماريوس” إلى بيتنا متهلّلة الأسارير، تتأبط جريدة إيطالية ،تفتحها بأفتخار في وجه أمي المندهش على صورة وخبر . الصورة لـ “سليمان علي نشنوش”أطول رجل في العالم والخبر نجاح العملية الجراحية التي أجريت له عام 1960 في إيطاليا لمعالجة تزايد طول قامته الذي بلغ في سنّه الـ 16 (245)سنتيمتراً ،ليصبح من اشهر 12 حالة طبية مسجلة حول العالم الذين تجاوز طولهم 8 اقدام … وقتها لم اكن أعلم أن جيراناً لنا يبعدون زقاقين عن بيتنا لهم قرابة بنشنوش “اللونقو “كما وصفته السنيورة ماريا ،بل يحملون اللقب نفسه ،عائلة متواضعة رّبها بقال له دكان في شارع “ابوهريدة”الذي سيكون فيما بعد طريقي شبه اليومي بالدرّاجة إلى زيارة بيت عمي صالح الذي أكترى داراً في حوش الأسطى “الماقوري” الذي بلّط بيتنا بالجلّيز . بعدها بعيد فطر أفاجأ بنشنوش عيانا بيانا يقود درّاجته “البيانكي” المصنوعة لتلائم حجمه الضخم المخيف لي طفلاً، والذي لم أتبينه تماماً من صورة الجريدة . أمسكتني يدُّ أمّي من وراء الباب حتى لاأسقط من الرعب ،مشفقاً عليه يبذل مجهوداً مُرهقاً له وعلى الدراجة التي تئزّ تحت ثقل وضخامة هيكله العملاق متتبعاً له بنظراتي حتى إختفائه في الزقاق المتفرع من شارعنا التريب .ومنها صارت معايدة نشنوش لآقاربه تسلية أرتقبها بخوف مستثار.
وفي عيد ما يفاجئني نشنوش هذه المرّة يقود دراجة نارية “فـيـسبا” مميّزة يجلس عليها مرتاحاً وإن كانت تحته تسير مندفعة كلعبة أطفال … في ذروة حملة منتخبنا للبرلمان عام 1967 عن شارعنا سيدي خليفة ـ شارع الزاوية (إبراهيم بيرمة) . حُشرنا مايقارب الـ 40 ولداً على ظهر شاحنه قديمة متداعية يحمل بعضنا بالونات حمراء بلون الصندوق وبعضنا يحمل صور منتخبنا صارخين “بيرمة والشعب يحبه .. حتى م الصندوق تعبأ ” ونحن نشُد في بعضنا خوفاً من السقوط يفاجئنا العملاق نشنوش بين شارع السيّدي في إتجاه سيدي المصري ممتطياً فيسباه ،ملتقطاً بأبتهاج طفولي البالونات بكل سهولة من أيدي الأطفال حاشرها في سلّة أمامه . أخر رؤيتي له ولم اعد أخافه كان في غبش الغروب وأنا أشاهد عميد بلدية طرابلس عام 1968 المهندس “علي جمعة” يقود الجرّرات المدعومة برجال البوليس وهي تمسح الأكواخ وأخصاص البيع في السوق العشوائي على ركام باب زناتة القديم بالباب الجديد دفع فيسباه محاذياً لي وشّاباً ضئيلاً بملابسه القروية يعطيه بقفاه منشغلا بالجرارات وهي تزأر محطمة الأكواخ ويجأر الباعة إزاءها غضباً وقد ضاعت أرزاقهم يلتفت القروي منتبها لصوت ضخم وراءه فيفاجأ بالرجل العملاق نشنوش فينسحب ورعبُ يشتعل في حدقيته يضئ له طريق الهروب في الظلام ..
رحم الله سليمان نشونش المولود من عائلة مُلاّك في أحواز شارع بن عاشور بطرابلس عام 1942، الذي أشهر ليبيا عشرية الستينيات من القرن الـ 20 بطول قامته القياسي في العالم ،واطول لاعب عالمي في تاريخ كُرة السلة بنادي الوحدة بميزران ، الممثل الذي خاض تجربة تمثيل واحدة مع المخرج الإيطالي العالمي “فيليني” في فيلم Satyricon ،مكتفياً به عازفاً عن إغراء الشهرة والمال بالتمثيل في “هوليود” بأميركا ،قانعاً بحياته في مدينته وقد أسبغ الله عليه ثراءً بوكالة عائلته لأستيراد الدراجات الهوائية في محلهم المشهور في شارع 24 ديسمبر ،وحياة عائلية ـ حتى وفاته عام 1991 ـ هانئة وزوجة صالحة كنت ألمحها غالباُ معه في سيارته البيجو الرصاصية موديل 504 المصنوعة له خصيصاً ملتحفة فراشية تجالسه مجاورة مقعده الوحيد الذي لاخلف له الممتد بطوله الذي إمتدّ به في التاريخ شهرة،ودماثة وتواضعاً وخلقاً وأريحية بأن شرّفنا أن نعيش زمنه زمن طرابلس وليبيا العذب الجميل .
________________________