(1)
لم أعرف الانترنت إلا وكان الساطور في الموعد، كان باب القرن الحادي والعشرين قد فُتح على مصراعيه فكان الزمان زمان النت، كنا نلتقي ثُلة أصدقاء في الهواري عند الصديق فوزي بن كاطو في مزرعتهم، حين كل مساء يزودنا الصديق حسن بوليفة – من خلال عمله بشركة الخليج – برزمة ورق هي حصيلة اليوم من نتاج المُعارضة الليبية. كأنما الانترنت كوةٌ للتنفس جاءت في حينها، وكأن الكوة / المُعارضة: ليبيا وطننا هذا الصرح ما لم يقم مثله ما بناهُ ابراهيم اغنيوه وحده، ومن سيبقى وحده من لا مثيل له.
ابراهيم اغنيوه ليس كمثله شيء سوى الساطور، الساطور ما نزل على قتامة حالنا بردا وسلاما، ونزل على مُقتمّ حالنا نارا… كنتُ أُهرب الاوراق التي يجلبها حسن بوليفة – فك الله أسر ه- الى بيتي، ومنهُ الى بيوت، وكان الساطور من يُبهج البيوت التي تصلها غنيمتنا تلك، لم نعرف من الرسام الساطور هذا لكن كنا نراهُ فينا ونرى فعلهُ فيهم… أن يكون هذا الفنان / الفعل هذا من مباهج مُعاناتنا، هذا الفنان هو حسن دهيميش من كان في الموعد وما زال، وبه كانت فرادتنا في أننا كنا ساطورا في حلق الديكتاتور، وما زلنا في حلق ما شابه.
الساطور كانسان في نعومةِ الطفولة، ولهذا كان حاداً قاطعاً ضد كل ما يمس هذا الانسان، وكطفلٍ مُشاكس خرج من البلاد، وعاش في المنفى كي يبقى بريئاً وشفافاً وحقيقيا، وما ارتد عن براءته ولا حاد، ولم يعرف إلى غير ذلك سبيلا.
هو الحسن الدمث منذ نعومة أظافره حتى مشيبه، في رسومه وما يشكل وضوح الجمال وقوة الحرية، وروح التهكم والسخرية من العابثين بالحياة، القُساة مع البشر والمُتسلطين على أوطانهم.
كيف تعلم أن يكون على الهامش وفي قلب البلاد التي نفى نفسه منها ساعة طغى الطغاة عليها، وكيف تسنى لهُ أن ينأى مُفردا، وأن يعيش وحيدا في بلاد الإنجليز هو من لا يملك من الدنيا إلا حطامها، هناك تعلم أن يتعلم، هناك عاش كليبي زاده من بلاده زاد كل صحراوي: اجادة البحث عن الحياة، حيث الحياة على الحافة.
لم يُغادر بنغازي مدينته التي أبت مغادرته، لم يُغادر السقيفة سقيفة بيتهم التي تعلم على أرضيتها المُسفلتة بالإسمنت الرسم بالطباشير، في حي سيدي خربيش أخذت الطفل فيه البواخر المغادرة للميناء ما يقع قدام بيته وقد شده ما يرسم دخان مداخنها في الأفق، في الأزرق غطست روحه وفي البياض تشكل: مُسافرٌ زادهُ الخيال كان…
لماذا الساطور وهو من حدتهُ كما براءة الطفولة، لما هذا التهكم الزاخر والسخرية المُزدهرة، وهو الخجل في ذاته، وهو حياء المترفعين عن الصغائر، وهو الصموت وهو السكينة وهو البساطة، وهو قليل الحيلة والحال المرهف، والشفاف حد البلور، لما الساطور وهو الحسن في رقته من يهاب ظل العصافير الطليقة، ما الساطور وحسن دهيميش عاش في كنف أب باعث للسكينة بالتراتيل القرآنية كقارئ معروف في البلاد، كيف له أن يكون ما ليس في حسبانه كمُحارب لا يكلَ ولا يملَ للديكتاتور وعسفه، هذا الفنان التلقائي عاش تلقائيته ولم يستسلم أبدا…
ما العلاقة بين حسن دهيميش ومحمد الزواوي غير الرسم الساخر، وأنهما أصيلا مدينة بنغازي، ثمة علاقة أن الزواوي هذا الكاريكاتوري الكبير سمى رسومه بالناقوس، وأن دهيميش سمى نفسه بالساطور، فما الذي يعنيه ذلك غير أن دهيميش ظل المعارض وأن الزواوي هادن النظام السياسي، ويبدو أن الموقف قد فصل بينهما، ولهذا لم يكن دهيميش تلميذا لهذا الصرح الكبير في فن الكاريكاتير الزواوي من خرج الكثير من الفنانين من عباءته.
لقد انفرد هذا الساطور وتفرد، وإن لم يعش في البلاد منذ خروجه منها في مُقتبل العمر ولم يعد مرة فإن البلاد عاشت فيه حتى النفس الأخير.
(2)
وثيقة: قصةُ الساطور الذي أقلق القذاف (حوار)
الفيتوري: أين ولدت؟ وأين عشت؟ وأين درست؟ هل تسرد لنا بعض تفاصيل ذلك؟
انا الحسن محمود دهيميش من مواليد مدينة بنغازي وبالتحديد حي الشابي مقابل مقبرة سي اخريبيش، ثم انتقلنا إلى مدينة طبرق، حيث اشتغل الوالد مستشار ديني وامام الملك ادريس السنوسي رحمه الله، مكثنا حوالي سنتين ثم رجعنا إلى بنغازي. أمضينا سنوات في الشابي، ثم انتقلنا للسبالة ودرست بمدرسة صلاح الدين الايوبي حتى السنة ثالثة ثانوي، ثم تركت البلاد في سنة 1975م.
الفيتوري: متى هاجرت او خرجت من البلاد ؟ ولماذا ؟ هل تسرد لنا حكاية ذلك، تفصيلة ما، حدث ما ذا صلة؟
في طفولتي كنت اقضي اوقات اللعب على رمال شط بحر الشابي، ومن هوايتي مشاهدة البواخر تختفي خلف البحار، كنت اريد ان اعرف: اين تختفي السفن؟، شغف شدني لمعرفة ما وراء الخط المستقيم في اخر البحر، كنت اتخيل المدن وأهلها، فكرة السفر كانت تراودني منذ الصغر، كان حلمي أن أبني قاربا وأن أبحر، من البحر ولدت فيَ روح المغامرة والمجازفة الى حد ما.
ترعرعت في بنغازي كأي شاب، كنت رياضيا مارست كرة السلة واحببت المدينة واهلها، احببت سوق الجريد وسوق الظلام وكل شارع وزقاق فيها، كنت صغير جدا حين كنت استمتع بالمشي شبه اليومي من سينما هايتي الي ما بعد سوق الظلام، أستمتع بشم بالروائح المنبعثة من الدكاكين والمتاجر وبألوان الاقمشة التي كانت تعطي السوق طابعا حيويا، سعيدا جدا كنت أشعر بأني في زمن ذهبي.
بدأت انتبه سياسيا في سن مبكرة ،كان ذلك من فضل والدي الذي لعب دورا كبيرا في تكوين افكاري، منه ورثت روح التمرد وعدم الخوف لقول الحق والوقوف مع المستضعفين، حين قام الانقلاب العسكري انقلب عالمي رأسا على عقب، بالرغم من صغر سني في عام 1969 لم ار أي جدوى من الانقلاب، كنت احب الملك إدريس والبلد كان آمن بالرغم من الفقر المنتشر ذلك الوقت مع ذلك كان ثمة امل في تحسن الأوضاع المعيشية، فهناك تطور في جميع المجالات. رد فعلي ضد الانقلاب كان طبيعيا و ازداد تعنتي عندما سمعت صوت شاذ ذو لهجة غريبة يعلن البيان الأول. حي السبالة حينها كان سكانه خليطا من جميع مناطق ليبيا، وفيه تعودت على اللهجات المختلفة ولكن صوت ولهجة القذافي كانا غريبين، مما ولد لدي احساسي بالشك نحوه في حينها، وعند رؤية صورته وهو يبتسم تزداد شكوكي نحوه، عيونه الخبيثة كان يشع منها الحقد والتخلف، كطفل لم اشعر بأي مودة نحوه، بدأت في متابعة خطاباته، كانت امي-الله يرحمها-لما تراني استمع لخطاب له تقول لي ” شن تبي تسمع فيه “…، كان ردي أنى بانتظار الوقت الذي سيفصح فيه عن شخصيته التي طالما شعرت انه يخفيها عنا ولم يلبث طويلا حتى انقشع القناع.
استمرت فكرة السفر تسيطر عليّ لكن ليس الهجرة، حينها تطورت الامور الى الأسوأ، بدأت أرى البلاد تتغير والفوضى اصبحت هي الحاكم، من هذا بدأت فكرة الهجرة تزداد الحاحا عليّ وفي ابريل 1975 وبكل أسي غادرت ليبيا لم تكن اخر مرة ارى فيها بنغازي فقد رجعت في عام 1976 لمدة أسبوع، اتذكر الآن اخر مرة رأيت فيها والدي كنت اودعه في الصباح، اخر كلمة قالها لي: لا ترجع الي ان تنتهي هذه الحالة، لم أرجع الي يومنا هذا.
الفيتوري: ما الذي شد وثاقك إلى الرسم، ما قصة ولعك به، لماذا الكاريكاتير بالذات؟
كنت احب الرسم كطفل شغوف ،لم اكن افكر يوما ما سيكون الأساس في حياتي، اتابع و اطالع في المكتبات مجلدات ميكي ماوس، و اعجبت بشخصية مصرية في مجلة أطفال اسمها زوزو، كنت اذهب لمكتبة البركة اطالع اخر مقالبه وكنت اختفي من شدة الضحك خلف الكتاب حتى لا يشاهدني احد، دموعي تنهمر من الضحك، احببت زوزو من كان شقيا، لا أتذكر اسم الرسام لكن كان له تأثيرا في تطوير شخصيتي ونظرتي للرسم الكاريكاتيري، في احذى عطلات الصيف، بوصاية من والدي، بدأت العمل في مكتبة الاندلس ودار النشر بالبركة و استمر عملي في المكتبة او المنارة فقد كانت فرصة ذهبية في حياتي، بالرغم من صغر السن ألا اني تعلمت الكثير من خلال الصحف والمجلات هذه المرحلة أهم من مراحل الدراسة، بجانب كونها مكتبة بكل ما تحمل الكلمة من معاني كانت كذلك دار نشر، ففيها قابلت شعراء وكُتاب، هذا لابد وان كان له التأثير الكبير على طفل لم يبلغ سن الرشد وخلال عملي هذا بدأت معرفتي تزداد بالصحافة والسياسة والتوجهات السياسية.
اول من احببني في الرسم كان الوالد- الله يرحمه -، كنا نسكن في الشابي والوالد كان يحظر طباشير معه وهو يحب رسم طيور الحمام علي البلاط كل بلاط بحمامة، و يشرح لي كيفية رسمها، والي الان لا أستطيع ان ارسم مثله، ووالدي كذلك عرفني بأعمال الفنان محمد الزواوي الفنان الليبي المعروف تحديدا في العهد الملكي،كنا نطالع رسوم محمد الزواوي وندرس تفاصيلها ونناقش التعبير والمغزى هذا كله ونحن في حالة هستيرية من الضحك، والوالد كان حريصا على ان اشاركه اي شي متعلق بالرسم والسياسة، احببت الزواوي لأنه ليبي وأنه فخر لنا لم ار فنانا اخر يملك قدراته ونظرته الفنية ما كانت في محلها، بعد الانقلاب اتجه ذوقي لفنانين اخرين عرب و اجانب ،كل هذا ولم اكن انوي الخوض في هذا الفن، لكن لم ادر وقتها ان الرسم يختارك ولا تختاره، أعبر عن غضبي بالرسم، اتذكر في السبعينات قبل مغادرتي الوطن قمت برسم معادي للقذافي تركت الرسوم في بيتنا لأدري اذا كانت لازالت هناك.
حبي للكاريكاتير في سن مبكرة ربما كان هو الفن الوحيد الذي توفر لي بكثرة من خلال المجلات وافلام الرسوم المتحركة، اتذكر أني كنت اذهب إلى سينما(برنيتشي) وانا صغير واجلس هناك بانتظار الرسوم المتحركة التي تسبق الفيلم وهذا اهم شيء عندي، كنت اتابع حتى في الدعايات الكارتونية التي كانت تعرض في السينمات. واول محاولتي الرسم كانت في الفصل الأول الابتدائي، في حصة الرسم حاولت رسم جندي روماني لتأثري بالأفلام الإيطالية مثل هرقل وماشيسته، الغريب رسمتهم ورسمت زيهم من الذاكره ما اعتمد عليها الى الان، واول شخص شجعني بعد والدي هو مدرس في مدرسة صلاح الدين الايوبي، كنا الطلبة نخربش على السبورة وكنت ارسمه، فكان يمسح كل شيء إلا رسوماتي له، فأحببته واحترمته لهذه اللفتة.
في سنة 1979 كنت اقطن في شمال انجلترا بمقاطعة لانكشاير لمدة حوالي اربع سنوات وقتها كنت في مفترق الطرق من حياتي، لان السنوات الاولي كنت اعتقد ان الوضع سيتغير وحتما ارجع إلى الوطن، لم يكن لي اي نشاط سياسي والمعارضة لم تولد بعض، وبالرغم من الصعوبة كنا نتابع في احداث الوطن درست بكلية لا علاقة لها بالفن لذلك فشلت، ليس لدي اي رغبة في الدراسة لكن كان علينا الدراسة للحصول على الإقامة.
الفيتوري: أنت الساطور ما قصة الساطور؟
ذات مرة في زيارة للندن كنت امام محطة قطارات أيرلز كورت Earls Court عندما شد انتباهي محل مجلات عربية، من بين الصحف كانت واحدة بلون برتقالي شدت انتباهي اكثر، المجلة كان اسمها الجهاد وتصدر من التجمع الوطني الليبي ،لم اصدق حظي اشتريتها ولكن لم يوجد لديها عنوان، وجدت مقالة لكاتب ليبي معارض على مجلة اخري اسمها الشرق الجديد عند رجوعي لمدينتي قمت بالاتصال بمجلة الشرق الجديد وراسلتهم اسأل عن عنوان لمجلة الجهاد و ارسلت تلفوني لهم، بعد ايام اتصل بي شخص يدعى ‘حامد’ اتضح لي بعدها انه المرحوم المعارض الدكتور محمود المغربي اول رئيس وزراء بعد الانقلاب، انضممت بدون تردد للتنظيم المعارض وعرضت عليهم خدماتي منها الرسم، وبالمناسبة لي حتى ذلك الوقت لم يكن لدي اي رغبة في الرسم او التفكير بمزاولته كمحترف او كهاوي، الدكتور محمود المغربي كان بمثابة مدرس بالنسبة لي، علمني العمل السياسي وسياسة النفس الطويل التي لازلت اسير بها الى الان ،حينها بدأت الرسم وكنت أنشر رسوم كاريكاتورية تحت اسم ‘عمران’، وقدمت اعمال كثيرة وصدر لي كتاب، يحمل رسوم معادية للقذافي، كذلك شاركت في المظاهرات المعادية للقذافي امام السفارة الليبية. مرحلة معارضة القذافي ما بين عامي 1979 و1985م كانت تجربة مفيدة بالنسبة لي وصقلتني سياسيا، عرفتني بشخصيات ليبية مناضلة وشريفة منهم كما اسلفت الدكتور المرحوم محمود المغربي الذي شجعني وباستمرار كان يرسل لي الكتب والمجلات، ثم فاضل المسعودي الذي تعلمت منه الكثير عن الصحافة ورسم الكاريكاتير وكلماته حية في نفسي الآن وهناك شخصيات آخرة لكن هاتين الشخصيتين تركتا اثرا في تكويني، وفي منتصف الثمانيات دخلت المعارضة الليبية في مرحلة ركود كانت شبه ميتة باستثناء صدور بعض الاعداد من مجلات او مناشير من حين لأخر، ذلك حدث نتيجة لخصومات بين المعارضين ووجدت نفسي خارج الصراع انتهى بي الأمر إلى ترك الساحة، بالرغم من ابتعادي إلا ان كنت اتابع في الأحداث، قمت حينها بأعمال فنية لمجلات ليبية معارضة وعربية لكنها ليست جديرة بالذكر.
فكرة الساطور ولدت من باب المزحة ولتسلية بعض الأصدقاء، قمت بإصدار العدد الأول من صفحتين وصورت اربع نسخ وبعثتها لثلاثة اصدقاء فنالت إعجابهم، وأصدرت اعدادا اخرى كانت معادية للقذافي وناقدة للمعارضة الليبية، وصل صداها الي اقطاب المعارضة حتى أن فصيلا من المعارضة حاول استقطابي من اجل اسكات الساطور، عرفت عندها ان الرسم اداة قوية ولها تأثير اقوى مما كنت اتصور، في ذلك الوقت بدأت في العمل بمطعم ايطالي و المعارضه اصبحت عندي من الماضي، لكن لم اقف عن المتابعة و ايجاد حلول لتوصيل اعمالي إلى الناس في الداخل والخارج، بالمناسبة لم اكن يوما على قناعة بان التغيير يأتي من الداخل، اما المعارضة فكانت لا تملك القدرة.
كانت حياتي مقسمة بين الرسم وبين العمل في المطعم الإيطالي حينها قررت الرجوع إلى الدراسة الليلية بكلية Nelson & Colne Community College كانت قريبة من البيت، سجلت في كورس لتعليم الكمبيوتر السنة كانت 1991،وعندها اشتغلتُ بمطعم وصار لدي اسرة صغيرة، ووقتها نجاحي في قيادة السيارة كان انجازا كبيرا اعطاني الامل والجرأة في الرجوع إلى الدراسة، جلست في الفصل امامي جهاز كمبيوتر يدعى اوميغا Omiga، الفصل كان مكتظا برجال ونساء الكل يطبع وانا حينها انظر للشاشة أمامي غير مستوعب المطلوب مني فعله وجدت برنامجا فيه فرشات و الوان فبدأت ارسم مدركا أن ما أفعله مضيعة وقت، وأنه الاجدر بي ان افعل مثل باقي الطلبة لكن الرسم غلب وأخذت ارسم، حصة تلو حصة والمدرس لم يقل لي شيء اطلاقا، في احدى الحصص جاءني شخص واسمه ‘ويل’ ‘Will’, ،الغرض من ذكر اسمه والكلية الاثنان سيكون لهم تأثير على حياتي، “المفروض ان تلتحق بالكلية كطالب في الفنون” هكذا قالها المدرس، انا لم افهم، كنت اظن انه سيطردني لأني لم أنفذ المهمة، عرض ان يعطيني رسالة قبول كطالب بكلية الفنون ومنها اتحصل على منحة من بلدية محافظة لانكشاير لتساعدني خلال الدراسة، العرض ارعبني نوعا ما لأني لم اكن اعرف ما هو المطلوب في كلية الفنون، أنا ممكن نخربش في كاريكاتير لكن دراسة الفنون الجميلة شيء اخر ويبدو صعبا، فلم اعطه جواب، الكورس انتهى ولم اتعلم شيئا سوى القدرة على الرسم على بالكومبيوتر، وهذا لم ارى له فائدة، كم كانت تقديراتي غلط.
رجعت إلى العمل في المطعم بالنهار والليل، ذات يوم كنت واقفا امام المطعم وسيجارة في يدي و اذا بالمدرس ويل يمر علي ويحييني ثم قال لي “هذا المكان الذي تشتغل فيه عبارة عن زقاق !!طريق مسدود، ليس لديك مستقبل في المطعم، انك تخدم وصاحبه يستغني، هذه المرة كلماته نزلت علي كالصاعقة، ثم شكرته على اتاحت الفرصة وثاني يوم ذهبت إلى الكلية ووجدت الرسالة جاهزة، ثلاثة أشهر والتحقت بالكلية ودرست ست سنوات، تحصلت على اثنين ماجستير في الغرافيكس والإعلام والفنون، كان من المفروض ان ادرسهن في ست سنوات ولكن ظروفي لم تسمح لذلك جازفت واكملت في وقت اقصر، وخلال هذه السنوات بدأت اكتشاف الرسم التجريدي وكيفية استعمال الالوان فابتعدت عن الكاريكاتير واتجهت الى الرسم بالفرشة والألوان مستعملا موسيقى السود في امريكا وحياتهم الاجتماعية كإلهام للوحاتي، في اخر عام بالكلية وشهور من تكميل دراستي كان همي هو كيفية الاستفادة من كل هذه السنين، من الدراسة والسفر، سنوات الماجستير كانت في مدينة اخري فكان يتحتم علي السفر شبه اليومي لم يكن لي خيار لكن من الضروري ان اجد عملا بعد التخرج، مرة ثانية ذات يوم راجعا من الكلية اخبرتني زوجتي ان ويل مدرسي السابق في الكمبيوتر قد اتصل وعرض عليك وظيفة تدريس بالكلية. واكملت دراستي واتجهت إلى التدريس ودام الحال كذلك لأربعة عشر سنة، بعد تخرجي حصل لي تغيير كبير، تعلمت الكثير واكتسبت قدرات لم أكن امتلكها، دخلت عالم الالوان.
الفيتوري: ما صلتك بالمعارضة الليبية؟
خلال عملي كمدرس في الغرافيكس والتصوير تعرفت على شباب لديهم شركة للبرامج الالكترونية وتصميم مواقع لشركات، وهي تعتبر من اول الشركات التى تتعامل في مجال النت، كنت انجز رسوم لهم، مرة ثالثة ذات يوم اقترحوا ان تكون لي صفحة بها رسوم لي و ايميل ساعتها لم اكن امتلك الانترنت في بيتي والتاريخ كان في مطلع القرن الحالي2000/ 2001، اتصل بي احدهم واخبرني ان لدي ايميل وصلني من شخص، ذهبت الي الشركة لأرى اول ايميل يصلني من شخص، قرأته و اذا به من شخص يدعي الدكتور ابراهيم اغنيوة ،كان يطلب مني السماح له بإضافة صفحتى على موقعه ليبيا وطننا فبعثت له رداً بالموافقة، ولحظتها صممت على احضار النت إلى بيتي وتم ذلك في وقت قصير، وبعثت بإيميل إلى الدكتور الفاضل ابراهيم اغنيوة، ارسلت له رسم بتوقيع الساطور، بصراحة لم اكن ادري مدى تأثير العمل البسيط هذا على القذافي لاني كنت استهدفه شخصيا. كنت اطلعت على رسامين في التاريخ السياسي منهن هوغارث William Hogarth، والفرنسي دوميرHonoré Daumier من جعل امبراطور فرنسا يرفع عليه قضية في محاكم فرنسا شاكيا.
اثنا فترة النضال ضد القذافي على الانترنت وجدت نفسي امكث أوقات طويلة اعمل بمفردي ، كنت استمع إلى موسيقى الجاز والكلاسيك، الاثنان كانا رفيقا في ليالي الشتاء الطويلة امام شاشة و احببت الموسيقى الجاز بجميع اطيافها، واثر ذلك على مشواري الفني والسبب في حبي لهذه الموسيقى هي نغماتها وحيويتها وكذلك الظروف التي ظهرت فيها، معاناة السود في امريكا في بداية القرن التاسع عشر من عبودية وعنصرية كانت حافز في تكوين الموسيقى، شعرت بالتشابه في المعاناة والاضطهاد وهذا جعلني احبها اكثر وعبرت عنها في مجموعة من اللوحات والرسوم، أقمت معارض صغيرة وبعت لوحات ورسوم، مما ادهشني وشجعني على الاكتشاف والتعلم من خلال درس رسامين عالميين مثل بيكاسو والعبقري الفرنسي تولوس لوتريك ‘Toulouse-Lautrec’ واحببت كذلك فن الشوارع والرسوم على الجدران، وهذا الإطلاع والمثابرة على متابعة اخر الأعمال الفنية ساعدني في اصراري على تطوير افكاري وشغلي الفني.
أهم حدث في حربي على القذافي على الإنترنت هو الحصول علي كرت الكتروني سمح لي بمشاهدة التلفزيون على الكمبيوتر،اصبح بمقدوري جلب اي شي وانسخه على الكمبيوتر، كنت اشاهد محطة الجماهيرية المشهورة بالقنفود اصبح بمقدوري نسخ اي شي خاصة خطابات القذافي كانت وسيلة جيدة وفعالة استغليتها في محاربته وقد اقفل حسابي على اليوتيوب بعد احتجاجات من السلطات في ليبيا لكن هذا لم يوقفني عن اصدار فيديوهات والتلاعب بالأصوات وتركيبات مصورة، كنت ارمي عليه بكل شي ولم احدد لنفسي أي حدود او خطوط حمراء، ونشرت شكاوى عن تعدي الساطور حدود الأخلاق والمطالبة بحذف الرسوم المهينة للقذافي وأسرته من المواقع بدون جدوى، كذلك كانت هناك تهديدات عن طريق موقع اغنيوة وتم التحرش باسرتي من خلال خرق حساباتهم وتهديدهم وتهديد اصدقاء اولادي، كل هذا لم يثنيني ولم يرعبني بل زادني تصميما على الاستمرار، كنت اقول لأسرتي هذا وقتهم ووقتنا ات لم يكن في حساباتي ان ثورة فبراير كان ستندلع بعد ستة شهور فقط.
الفيتوري: علاقتك بالفن التشكيلي الليبي كيف هي، متى ,أين، وما الاسماء التي تريد ذكرها بالمناسبة؟
بصراحة لست على دراية كاملة بالمجال الفني في ليبيا، نظرا لبعدي السنين الطويلة لكن هناك بدون شك فنانون يملكون مواهب وإمكانيات لا تختلف عن اي فنان في باقي المجتمعات. وفي نظري أنه على الدولة تشجع الفنانين وإقامة المعارض والترويج لها اعلاميا وحث المواطن على زيارتها. اتذكر لقاء مع الفنان الراحل عوض اعبيدة في لندن ومكثت معه ساعات، تحدث فيها عن اعماله وتاريخه الفني، ومنه عرفت كيف يعمل الفنان المحترف وكيفية انتاج لوحاته والأوقات المناسبة لإنجازها، كانت تجربة مفيدة. وفي الدول المتقدمة الفن وخاصة الرسم يلعب دور اساسي في مجتمعاتهم، ابداع الرسامين ولوحاتهم لها تأثير في نفسية وذوق المجتمع والمتاحف والمعارض متوفرة للجميع، الاطفال يقتادون إلى المعارض الفنية، ويشرح لهم معاني وتاريخ اللوحات الخ، لهذا ترقى الشعوب لاعتمادها على الفن.
الفيتوري: أين أنت الآن وكيف الحال، حالك وحال البلاد بعد فبراير كفنان وكانسان؟
انا الان في انجلترا مقيم منذ قرابة 40 سنة، اعيش مع اسرتي، أقدم حاليا أعمال لقناة ليبيا الأحرار في إطار رسوم بعنوان “مخطوطات من ذاكرة المدينة”، ورسوم لجريدة الأحوال الليبية وهذا كله من فضل ثورة فبراير. استغل وقتي في تطوير قدراتي في الرسم والقراءة والاستماع للموسيقى. أمل في زيارة الوطن قريبا، اما بخصوص الوضع الحالي والمشهد السياسي في الوطن فأنا متفائل جدا بخصوص المستقبل، احمد الله على ثورة فبراير فقد فتحت امامي ابوابا وفرصا لم تسنح لي من قبل، ثورة فبراير عرفتني بشباب وشابات غيورين على الوطن ويحملون افكارا وعلى درجة عالية من الذكاء، كل هذا اعطاني امل كبير في المستقبل.
هذا إحساسي وكما كنت أحس بسقوط ونهاية القذافي أحس الآن بأن المستقبل سيكون أحسن وأفضل لأن أهل ليبيا يستحقوا أفضل بكثير مما هو حاصل بعد كل هذه المعاناة تحت حكم القذافي وتقديم التضحيات والشهداء في سبيل ثورة فبراير.
_________________________________
* قد يكون هذا الحوار، الوثيقة الوحيدة شبه المتكاملة، الذي اجري مع الفنان حسن دهيميش، وقد نشر حينها بجريدة ميادين العدد 147 بتاريخ 4 مارس 2014م.
نشر بموقع ليبيا المستقبل