تصر قصيدة سالم العوكلي على ان تسقط الأقنعة عن وجوهنا، وعلى أن تزيل غشاوة الشعارات السمجة والأوهام البليدة عن أبصارنا وبصائرنا، وأن تضعنا في حضرة ذاتنا الموؤدة برفوش انحيازاتنا الغبية في رمال جهلنا وغفلتنا، فها هي تخاطبنا في مغدور من بيننا وضحية من ضحايا كذبنا علينا، وهروبنا منا…
(يا حارس الخبز الليبي التفت
التفت، لا أحد الآن هناك يستعيدك من الوحوش
التفت وحدق فوقهم جميعاً، مَن تاجَرَ برأسك
النبيلة
ومن سرقوا صوتك وأنت تهتف: ارفع راسك فوق
انت ليبي حُر
التفت وحدق في الرمال خلفك
سترى عظام أجدادك تضئ…)
ولنا أن نسأل عن قصيدة تجئ مدججة بكل هذا الغضب ومفعمة بكل هذه الحيوية التي تفيض عنها لتنعش من يطاله هبوبها ولتفعم من تمطره بغيثها، وأن نخمن كيف كان استقبال شاعرها لها آن أطلت عليه، فرغم مجيئها من رحم الفجيعة لا يمكن لهذه القصيدة إلا أن تولد ولادة شرعية وأن تكون مرحباً بها، ولا يمكن تصور أن تلقى ما لقيته تلك التي باغتت الشاعرة رحاب شنيب…
(بكامل أناقتها
يفيض عطرها
في فضاءات البوح…)
حيث لم يكن من الشاعرة إلا أن ترفضها، وتخيب مراودتها، وأن تعلن بصراحة…
(لا أشتهي القصيدة
هذه الليلة.
قصيدة
لا تلثم ملامح المارة
في شوارع مدينتي المفجوعة
لا تسكن آهاتهم
ليس لها صوت القنابل
وصراخ الأطفال
وأنّة الأرامل
لا يلطخها لعاب الساسة
وهي تصرخ في وجوههم
لا يشتمها المؤدلجون
لا يحرّمها تُجّارُ الدين
ولا يدوسها تجار الأسلحة.
قصيدة
لا تتسكع
في مخيمات النازحين
وفي عقول
شبابنا المسلوبين
باسم الله…)
لا يلزم القصيدة إذا، لتكون قصيدة حقاً ولتحظى بالقبول بل الاحتفاء، أن تجئ متجاوزة حدود الانسان وهمومه ومشاغله وحاجاته، بل يلزمها فقط أن تنحاز إليه وإلى كل مل يؤكد إنسانيته وينافح عنها، ولا يجديها أن تنحط إلى درك المماحكات الأيديولوجية ولا أن تنخرط في جوقات دعاياتها السمجة وتتحول إلى منشور تبشير بما دون الانساني، مثلما لا يجديها أن تمتهن تلميع الفضائل الأفلاطونية المخبأة وراء المثل المفارقة للواقع ولا أمل في أن تتحقق فيه يوما، بل يجديها فقط أن تتشبث بفضائلها، وأن تكون مثلما تصر الشاعرة سميرة البوزيدي بمقاس قامة الإنسان، بحيث…
(ينحني أمامها
العاشق
بغزلان نبضه
ويعلق الرهبان صلبانهم
على محرابها
ويشرعون في الغناء
… يرمي الزمن وراءه
عادات التشيؤ
والإمتثال
… نحوها تسير
غابات النور
وقطعان الكلام
ويتصافح الغرباء
على طرقاتها…)
لابد للقصيدة من أن تنتشلنا من ضياعنا وتعيدنا إلى البيت حيث الحب والايمان والفرح، والى آدميتنا التي عندها تماس الزمن بالأبدية ويبرأ ويبرئنا من التشيؤ والإمتثال لما يغربنا عن ماهيتنا الانسانية ويستلبنا معاني وقيم وجودنا وحياتنا، لا تمالئ بؤسنا علينا فتكذب وتجاملنا لترضينا، بل لا تخجل منا ولا تتردد في.. إذا ما استمرأنا ما يجعلنا مستحقين.. السخرية منا كما تفعل قصيدة الشاعرة عائشة المغربي.. الحزن والحرب.. التي تقول فيها…
(انتهت الحرب
ستعود الحياة بثوب ممل
وجمعة باهتة
نعد فيها.. الكسكسو..
من خطبة الجامع
يعود الذكور
بكروش منتفخة
وثقوب في القلب والذاكرة…)
هنا تبلغ المفارقة ذروة السخرية، ونعرف مثلما تعرف الشاعرة أنه مادامت النرجسية الذكورية تسود أيامنا وتعيث بمخالب فصامها فساداً في حياتنا فلن تنتهي الحرب، وأننا جميعاً عرضة للإصابة بكل ادواءها من انتفاخ الكروش وانثقاب القلب والذاكرة وحتى تبلد الحس وموت الضمير، وما لا تخفيه الزخارف واحمرار العيون وصبغ الشوارب واللحي، فحتى إذا ما…
(الحرب انتهت
وتركت على رف المشتريات
كثيراً من الأثواب البيضاء
كي ترتديها
المدن العارية
للإحتفال والرقص…)
وقيض للأنا الذكورية أن تلم شتاتها وترتق فصامها، فسيظل سيف ديموقليس معلقاً فوق رؤوسنا… (انتهت الحرب) إذاً ولكن في مقابل ماذا؟ وتجيبنا عائشة المغربي…
(انتهت الحرب
وتركت
مشانق للفهم والحزن اللقيط
وشجر يحترق في انقسام القمر
وصحارى تنأى عن حلمي)
ولكن حاجتنا للقصيدة لمّا تنتهِ، ولا انتهى انتظارنا لها، قصيدة، تبدو الشاعرة حواء القمودي وكأنها تعدنا بها حين تخاطبها بقولها…
(يسمونك قصيدة جديدة
يترقبون هطولك في روحي
تتشكل قسماتُكِ بين يَدَيَّ …)
وبالرغم من معرفتها بالعالم الذي تعد قصيدتها له، وبما يكتنفه من أهوال وهنات تتهدد إنسانه وتهدد القصيدة نفسها ورغم اعلانها…
(أرقب هذا العالم ينهار
الدمُ يغطي البياضَ
والصلوات لم تعد تعرف… أين تذهب)
تظل الشاعرة عند وعدها، فرغماً عن كل البؤس تعلن للقصيدة أن…
(هناك الكثير من الحب
والجمال
والضؤ
لذا يمكنك الهطول
والطيران
والمشيَ حافيةً
فأنا أكتُبُكِ
أقاوم الخرابَ بك
وأرسم عالماً بهياً تضيئه قصيدةٌ
قصيدةٌ ينتظرونها)
____________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل