(1)
كنـت أعرف السيد “روبرت باتـن” معرفة جيـدة.. عاش معظم حياته في اسكوتلندا.. ولكنه كان يأتي دائما الى لنـدن لأداء بعض المهام التجارية.. كان عادة ما يقيم بشقته الخاصة أربعة أو خمسة أيام من كل شهر، ثم يتركها ويعود الى اسكوتلندا. لم يكن طاعنا في السن عندما مات، لم يتجاوز الثالثة والسبعين من عمره، وكان يتمتع بصحة جيدة وذاكرة قوية.. وعندما دعيت لأول مرة لزيارته، وجدته يعانى من بعض الاضطرابات القلبية البسيطة.. كان ذلك قبل أربع سنوات من موته.. أخبرته بأنه يتوجب عليه أن لا يرهق نفسه كثيرا.. فضحك ولم يقل شيئا.. كنت كثيرا ما أراه في الأشهر والسنوات التي تلت زيارتي الأولى له.. فقد توطدت العلاقة بيننا كثيرا ولم أكن طبيبه المفضل وحسب، بل صديقه أيضا.
ذات يوم اتصلبي هاتفيا خادمه الخاص وطلب منى المجيء حالا.. ذهبت الى شقته بالسرعة الممكنة.. فوجدته في السرير.. كان قد أنتهى للتو من كتابة رسالة.. ولم يكن – في تلك المرة – على ما يرام.. قلت له: “ماذا فعلت بنفسك..؟ ألم أقل لك بأن لا ترهق نفسك..؟”.. “إنه لم يأخذ بنصيحتك.. لم يخلد للراحة.. ياسيدى” (قال الخادم).. استمعت الى دقات قلبه وفعلت من أجله كل ما استطعت فعله.. وفى الأثناء نظر الي “باتن” وقـال: “إنني أعرف ذلك.. سأموت بعد قليل.. أليس كذلك..؟”.. لم يكن صوته قويا في تلك الليلة.. تعمدت أن لا أجيبه.. كلانا كان يعلم الحقيقة. لكنه وعندما تمكن من الكلام، نظر الي ثانية وقال: “لقد جاءت بالسرعة غير المتوقعة”.. “يجب ألا تتكلم.. أنت فقط في حاجة الى الراحة” قلت. لكنه لم يلتفت الى كلامي.. خاطبني وهو يضع رسالة في يدى: “سلم هذه للسيد ‘تروت’.
نظرت الي الظرف الذى كتب عليه الاسم والعنوان: السيد: “ويليام تروت” شارع “هولووى” مدينــة “بورتن هل”.. فقلت له: “هل بإمكاني إرسالها بالبريد..؟”… اجابني: “أنا لا أعرف رقم منزله، لا أستطيع تذكره.. يجب أن يستلم السيد “تروت” هذه الرسالة، كان يقيم في بورتن هل.. منذ خمس سنوات.. ربما يكون قد انتقل الى غيرها.. طلبـت منه مرة أخرى بأن لا يتكلم.. سكت قليلا ثم شرع يقـول: “إذا لـم يكـن ‘تروت’ هناك.. أرجو أن تبحث عنه وتسلمه هذه الرسالة.. هل بإمكانك تسليمها له شخصيا..؟ ألا فعلت ذلك مـن أجلـى يا صديقي العزيز..؟”.
– سوف أفعل كل ما طلبت منى.
– هناك شيء آخر.. طلبت من “تروت” فيالرسا…
توقف صوت “باتن”عنـد هــذا الحـد.. سقط رأسه الى الخلف، ولـم يتمكن مـن الكلام مـرة أخرى، وبقيت الى جانبه الى أن فارق الحياة.. لم يكن لـه أقارب أو أصدقاء مقربين في لندن، وكان علي القيام بكل مراسم دفنه، وقـد سبب لي ذلك متاعب كثيرة، ولكنني كنت سعيــدا بمساعدة صديقي القديــم فيانتقاله الى العالم الآخر.
(2)
صباح أحـد الأيام وقبل شروق الشمس بقليل ركبـت سيارتي القديمة.. وغادرت لندن متوجهـا الى بورتـن هـل.. لــم تكن سيارتي تصلح لمثل هـذه الرحلات الطويلة.. كنت في حاجة ماسـة الى سيارة جديــدة، ولكن لــم يكــن بوسعي تدبر ثمنها، فقد كنت مثقلا بالتزامات مالية لا تبقي من مرتبي شيئا للادخار. في حوالى الساعة الواحدة تقريبا وصلت الى بورتن هل.. دخلت أحد المطاعم لتناول وجبة الغداء.. سألت الفتاة التي أحضرت الطعام عن شارع هولووى.. فوصفتلي أقرب الطرق اليه.. خرجت من المطعم وتوجهت إليه مباشرة.. وعندما وصلت الى الشارع.. دخلت أول محل وسألت البائعة عن السيد “تروت”.
– هل تعرفين السيد “تروت” الذى يقيم في هذا الشارع..؟
– لا ياسيدى.
ذهبت بعد ذلك الى مركز الشرطة، آملا الحصول على مزيد من المعلومات، وبعد البحث في سجلاتهــم قال لي أحدهم:
– إن السيد “تروت” كان يسكن بالمنزل رقم: 45 لفترة من الزمن.
– هل لي أن أعرف أين يقيم الآن..؟
– لا علم لنا بذلـك سيدى.. لكن إذا تركت لنا اسمك وعنوانك، فإننا سوف نكتـب لك عندما تتوفر لدينا أية معلومات جديدة عنه.
أعطيتهم عنوانيفي لندن، ومن ثم ذهبت لرؤية المنزل الذى كان يقيم فيه، كان منزلا قديما متهالكا وقد استغربت بالفعل أن يقيم صديق الرجل الثرى ” باتن “في مثل هذا المنزل القديم. عدت بعد ذلك الى لندن، ووصلت الى منزليفي ساعة متأخرة من الليل.. مضت عدة أسابيع ولم يصلنيأيشيء من شرطة ” بورتن هل “.. كان كل يوم يمضى يزيد من قلقي حيال هذه الرسالة، فقد كانت بحق حملا ثقيلا شغل كل ذاكرتيوتفكيري.
(3)
كانت الرسالة ملقاة أمامي على الطاولة، ولم أكن أرغب في رؤيتها، كنت أرغب فقط في التخلص منها بأية طريقة كانت.. فكرت أن أرمى بها بعيدا وأستريح، لا أريد أن أشغل نفسى بها أكثر من ذلك، فأنا رجل ذو مهام ومسئوليات كثيرة والسيد “باتن” رحل عن دنيانا على أية حال. ولكن كيف يمكن أن تساعد هذه الرسالة رجلا ميتا.. ؟ ماالذى تحويه بالضبط..؟ هل هي مهمة الى هذا الحد..؟ إنها فقط آخر رسالة كتبها رجل ميت الى صديق قديم لم تعد تربطه به صلة ما. نعم “تروت” لم يكن من أصدقاء “باتن” المقربين.. لـم يكن يقيم في بورتن هل عندما كتب “باتن”هذه الرسالة.. لقد مات ولم يعرف أنه انتقل الى مكان آخر منذ أكثر من خمس سنوات. احتفظت بالرسالة في مكان آمن، لم أعد أشاهدها كل يوم، وكنت قد نسيتها لفترة من الوقت.. لكن ذات ليلة من ليالي الشتاء الباردة، وبعد يوم من العمل الشاق، وبينما كنت أجلس أمام المدفأة تذكرت الرسالة، فتوجهت الى المكان الذى خبأتها فيه وأخذتها وعدت الى مكاني.. قرأت العنوان مرة أخرى، ومن ثم نظرت الى المدفأة، وقد هممت بالفعل أن أرمى بها الى النار.. قلـت لنفسي: سوف أتخلص من هذا الحمل الثقيل، لقد سببت لي الكثير من المتاعب، لماذا لا أرمى بها الى النار وأستريح..؟ مددت يدى وكدت أفعل ذلك.. لولا أنني وفى تلك اللحظة بالذات.. تذكرت عيني” باتن “وهو يتوسل الي بقوله: هلا فعلت ذلك من أجلى يا صديقي العزيز..؟
(4)
في اليوم التاليوصلتني رسالة من شرطة بورتن هل..يخبرونني فيها بعدم تمكنهم من الحصول على أية معلومات أخرى عن السيد “تروت” وقد لا يتمكنون من ذلك مستقبلا. تلك الليلة قررت أيضا التخلص منها، ورغم أنىاعتقدت أنه من غير المجديالاحتفاظ بها أكثر من ذلك.. إلا أننياحتفظت بها على أية حال. كانت الحياة ولا تزال مليئة بالمفاجأة، فقد تعتقد في بعض الأحيان أنه ليس ثمة فائدة من أيشيء على الإطلاق.. حتى الحياة نفسها قد نشعر حيالها في بعض الأحيان أنها غير ذات جدوى.. وأنها لا تستحق كل هذا العـناء.. لكن وفى ذات اللحظة قد يحدث شيء ما، يغير وجهة نظرك تلك ويقلبها رأسا على عقب.. وذلك بالفعل ما حدث لي.
ذات يوم خرجت من منزلي لزيارة أحد المرضى.. لم يكن منزله يبعد كثيرا عن منزلي.. قررت الذهاب إليه راجلا.. لم تكن حالة المريض تدعو الى القلق، وقد لا حظت التحسن الذى طرأ على حالته وسررت بذلك. وفى طريق العودة الى منزلي، وبينما كنت أعبر الطريق شارد الفكر، وإذ بسيارة من الطراز القديم تصدمني بشدة، وأسقط أمامها على الطريق، وقد كان السائق – الذى أوقف السيارة في الوقت المناسب – أكثر انتباها منى.. وقفت بتثاقل شديد.. وقد اتسخت ملابسي، وكان ثمة جرح صغير بيدي. أسرع الي السائق متأسفاً، وأخذني بسيارته القديمة الى منزلي.. وعندما وصلنا الى هناك اصطحبن الى باب المنزل وقال لي: إسمي”تروت” أقيم بشارع أورويل منزل رقم: 264. لم أكن وقتها بطبيعة الحال أفكر برسالة السيد “باتن” ولكن مجرد سماع هذا الاسمأدهشني، وأعاد الى ذاكرتي تلك الرسالة فقلت له:ـ
– هل لك أن تذكر ليالاسم الأول، إذا سمحت..؟
– ولما لا.. إسمي الأول: وليام.
– هل تعرف أحدا باسم..”روبرت باتـن”..؟
تغيرت ملامح وجهه ونظر الي باستغراب ثم قال:
– نعـــم.
– ادخل.. لدى شيء يخصك.
لم يكن في بداية الأمر يرغب بالدخول، لكنه أخيرا دخل وجلسنا معا في حجرة الجلوس لبعض الوقت.. ثم تركته وذهبت لأستحم وأغيرملابسي، وعندما عدت إليه قدمت إليه الرسالة وأنا أقول:
– الآن انتهت مهمتي.. وإنني لسعيد بذلك.
– من أعطاك هذه الرسالة..؟
أخبرته بالقصة من بدايتها فقال لي: “لقد سببت لك الكثير من المتاعب”. ثم فتح الرسالة وهو يقول: “نعــم أعرف ‘باتن’ .. كنت شريكه في التجارة منذ سنوات خلت.. إنه رجل قاس صعب المراس لا يعرف المرونة أبداً”. وحينما شرع السيد “تروت” بقراءة الرسالة.. نظرت الى الجرح الصغير الذى بيدي، ومن ثم الى الرسالة التي يمسكها بكلتا يديه، وقلت لنفسي: “كم أنا مسرور لدفع هذا الثمن الزهيد، نظير أن تصل هذه الرسالة الى صاحبها”.
(5)
ــ ما هذا..؟ صاح “تروت”.. كان مندهشا.. لا حظت ذلك من ملامح وجهه.. واصل القراءة لبعض الوقت، ثم وضع الرسالة على الطاولة وخاطبني قائلا:
– هل تعرف أيشيء عن هذه الرسالة..؟
– لا.. لا شيء.
– يجب أن أخبرك بكل شيء إذن.. كما يجب أن أعتذر لك عن المشاكل التي سببتها لك.. لا يمكنني أن أوفيك حقك من الشكر أو من الاعتذار.
– لم أعمل الكثير.. إنني فقط سعيد بمساعدة صديقي القديم.
– عملت مع ” باتن “في التجارة، ولم يكن يحب أحدنا الآخر، فقد فقدت الكثير من أموالى، كنت ثريا قبل أن ألتقيه.. كان قاسيا في تعامله معي، لا يعرف المرونة أو التسامح في تعامله مع الآخرين كأن التجارة – في عرفه – نوع من أنواع الحرب.. أخذ “باتن ” معظم أموالى، وبقيت فقيرا الى يومنا هذا.. ولكنه – في هذه الرسالة – يقول إنه ترك لي سبعمائة وخمسين ألف جنيه.. ويطلب منى الذهاب الى محاميه، الذى كتب عنوانه هنا.
– ولكن.. ألم يتوجب عليه إخطار المحامي بذلك..؟
– ربما بحث عني ولم يجدني.. أنت أيضا بحثت عنى كثيراً.. أليس كذلك..؟
– لماذا إذن لم يعلن عن ذلك في الصحف..؟
ربما فعل ذلك، فأنا في الغالب لا أطالع الصحف.. سبعمائة وخمسين ألف جنيه، إنها لمفاجأة كبرى.. أليس كذلك دكتور “تايفرتون”..؟ كيف يمكن لي أن أشكرك.. لم يكن لدي علم بكل ذلك.. سوف أعود ثريا كما كنت.. بل أكثر ثراء مما كنت في السابق.
– لقد فهمت الآن.. وإنني لأذكر جيداً رغبة ” باتن “واصراره.. كان يريد أن يعيد إليك أموالك.
– نعم.. نعم.. وقد أعطاني أكثر مما أخذ منى بكثير.. لم يكن شديدا ولا قاسيا بالقدر الذى كنت أعتقد.. كان شديدا معي أثناء مزاولتنا للعمل معا.. إنه حقا بخلاف ما كنت أعتقد.. أليس كذلك..؟
نظر الى الرسالة مرة أخرى ثم تابع كلامه بقوله:
– هل فعلت الكثير من أجله..؟
– نعم.. فقد كنت طبيبه المفضل.. والطبيب بطبيعة الحال يعمل كل ما في وسعه من أجل راحة مرضاه.
– صدقت.. وقد كان ” باتن “يحبك أيضاً.. كان يريد أن يعطيك شيئا من ماله، لكن موته جاء فجأة.
– يعطيني شيئا من ماله..!!!
– نعم.. طلب منى أن أعطيك صكا بمبلغ عشرة آلاف جنيه.
عندمـا سمعـت ذلك منـه، صحت من الفرح قائـلا:
– عشرة آلاف جنيه.. ولكـن لمـاذا..؟
– لأنك ساعدته كثيرا.. ولأنه يحبك.. فأنت طبيبه المفضل وصديقه أيضا.. هذا لا يهم الآن.. المهم أن أنفذ ما طلب منى.. ولكن لا أستطيع أن أنفذ ذلك الآن.. أعني لا أملك الآن مثل هذا المبلغ الكبير.. على أية حال سوف أذهب الى اسكوتلندا لمقابلة المحامي وآمل أن يصلك الصك فيما بعد.
– نعم.. كان ” باتن “يقيم في اسكوتلندا.
ودعت السيد “تروت”عند الباب بقولي:
– كم أنا محظوظ إذ صدمتني بسيارتك.
– وأنا كذلك.. ولكنني آسف على الجرح الذى سببته لك في يدك.
– لا عليك.. فقد كان سبباً فيحصولي على عشرة آلاف جنيه.
وبعد أقل من شهر تقريبا، وصلتني رسالة من اسكوتلندا وكان الصك بداخلها.. فرحت بذلك كثيرا وشكرت السيدين باتن” و”تروت”.. وذهبت من فورى لشراء سيارة جديدة.
_______________________________________
* ترجمت هذه القصة عام 2005. وهي إحدى قصص كتابي: المرآة: قصص ومسرحيات مترجمة / تأليف الأديب الإنجليزي: جي سي ثونلي/ ترجمة: سعيد العريبي/ الطبعة الأولى/ مجلس الثقافة العام 2008. (هدفي من ترجمة هذه المجموعة.. التي كتبت منذ ما يقرب من سبعين عاما.. هو أن يتعلم محبو الأدب في بلادنا.. كيف يكون الأدب : هادفا.. وساميا.. ونبيلا).