شخصيات

رحيل الاْسد

لا لاْرثى شيئا اْتيت… ولكن لاْمشى على الطرقات القديمة مع صاحبى (محمود درويش)

الباحث سالم الكبتي والدكنور ناصر الدين الأسد عن ليبيا المستقبل
الباحث سالم الكبتي والدكنور ناصر الدين الأسد
عن ليبيا المستقبل

كان قد مضى على تاْسيس الجامعه الليبية حوالى اربع سنوات عندما وصل الاستاذ الدكتور ناصر الدين محمد الاسد الى بنغازى بعد تعيينه عميدا لكلية الاداب والتربية. كانت اول دفعاتها تخرجت صيف ذلك العام. وكان هو رابع عميد لها. وتصادف ايضا نيله لدرجة الدكتوراه بتقدير ممتاز عام 1955 باْشراف استاذه د. طه حسين فى القاهرة وهو العام الذى شهد انطلاق الجامعه الليبية.

الاسد من مواليد العقبة المطلة على البحر الاحمر عام 1922 والمنفذ البحرى الوحيد فى جنوب الاردن. كان والده من الذين شاركوا فى ثورة الشريف حسين. تلقى تعليمه الاول فى مدارس عمان عاصمة امارة شرق الاردن ثم التحق بالكلية العربية بالقدس وكان من بين اساتذته بها الاستاذان حسن الكرمى ونقولا زيادة. وضمت الكثير من الطلاب اصحاب الشهرة العلمية فيما بعد ومنهم د. احسان عباس.

فى هذه الكلية العتيده نال شهادة حكومة فلسطين ودبلوم فى التربية والتعليم عام 1942. كانت الحرب العالمية الثانية ماتزال تشتعل فى ارجاء العالم والوطن العربى. فى هذه الظروف سافر الى القاهرة لمواصلة دراسته فتحصل على ليسانس الاداب من قسم اللغة العربية من جامعتها التى كانت تعرف بجامعة فؤاد. كان تقديره جيد جدا مع مرتبة الشرف الثانية عام 1947. ونال درجة الماجستير من الجامعة نفسها عام 1951 عن رسالته (القيان والغناء فى العصر الجاهلى) وعمل مدرسا فى ثانويات عمان والقدس والقاهرة. وبعدها حاضر فى معهد الدراسات العربية العالية وعمل موظفا فى ادارة فلسطين بجامعة الدول العربية.

رسالته فى الدكتوارة كانت عن مصادر الشعر العربى وقيمتها التاريخية وظلت من المراجع المهمة حتى الان فى دراسة تلك المصادر ومرجعيتها ولم يسبقه احد اليها. حتى تقديمها. كانت رسالة علمية ممتازة وثرية بالمعلومات والتحليل والمقارنة.

عام 1948 وصل الى طرابلس وعمل معلما فى اول مدرسة ثانوية تاْسست بعد الحرب. وكان من زملائه موسى بشوتى وامين الطيبى. وفى المدرسة كان رواد التعليم من الليبيين.. الاساتذة محمد امين الحافى والهادى عرفه ومحمود البشتى وبهجت القرمانلى ومصطفى بعيو.. وغيرهم. كانت المدرسة فى الظهرة. ومن تلاميذه بها.. بشير السنى المنتصر وعبدالسلام الشكشوكى وعلى الميلودى وعزالدين المبروك وابراهيم الفقيه حسن .. وغيرهم ايضا. وغادر طرابلس بعد عام فى نهاية 1949 . لمسة تركها هناك واسهم خلالها فى خدمة جيل يتطلع الى بناء وطنه ومستقبله. الظروف كانت غير الظروف. والواقع كان غير الواقع.

وفى بنغازى منذ اواخر 1959 والى يونيو 1961 نهض باْعباء ادارة الكلية وعمادتها والتدريس بها محاضرا فى الادب العربى على طلبته فى الدفعات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة فى الكلية. قام باعدادهم وتنويرهم حتى وان لم يحضر تخريج الدفعات بعد سفره من بنغازى. تميز بحضوره وعلمه وعلاقاته الواسعة ولاقى فى ادارة الكلية الكثير من العراقيل ولم يتعثر. حاول ان يعتذر عن المنصب. فقد شعر بالحرج فى وجود اساتذه كبار من مثل محمد ابوريدة وطه الحاجرى ولكنهما اصر على ان يظل فى المنصب. اكد له وزير المعارف السيد ابوبكر بونعامه حسم الامر واختياره من قبل الملك ادريس الذى كان يعرف الجامعه ووجود الاساتذه المصريين واراد اختيار شخصية محايدة فاضطر للقبول.

كان قسم اللغة العربية يضم اضافة الى د. الحاجرى الاساتذة.. جميل سعيد ومحمود السعران ومحمد محمد حسين.. وغيرهم واستمر الاسد عميدا ومحاضرا ثم عاد الى بلاده الاردن ليشرع فى تاْسيس جامعتها عام 1962 وصار اول رئيسا لها ثم وزيرا وسفيرا وعضوا بمجلس الاعيان ورئيسا لجامعة ال البيت.. وماضيا بروح الشباب وحماس الباحث العالم فى نشاطه العلمى الكبير بالتحقيق والترجمة والتاْليف والاسهام الجاد فى اللقاءات والندوات الفكرية والمؤتمرات العلمية عربيا وعالميا.

الاسد قامة علمية عربية شامخة وحين رحل الى رحاب الله يوم الخميس 21 مايو 2015 فقد هذا الوطن العربى البائس علما من اعلامه الكبار وشيخا من شيوخه الافاضل. فقده فى وقت لعين ويسود اغلب مناطقه الظلام والتدمير والتخلف والافتقار الى رؤية ناضجة للمستقبل. الوطن كله يعانى من ازمة المستقبل. ويحتاج الى امثال الرجال والعلماء الذين منهم ناصر الدين الاسد.

وشمس الضحى فى فبراير تسقط من النافذة فى مكتبه فى عمان. ولقاء معه.. جميل ومبهج ومفيد ومؤثر للغاية. كان فى انتظارى عملاقا بقامته وابتسامته ومحياه الرائع وابنى حسين. كان معه ايضا ابنه طريف. قهوة وحكايات ونقاش. اهدانى مؤلفاته وتحدث بحب عن ليبيا وبنغازى بصورة خاصة.. ساْل عنها وعن تلاميذه وصحابه بها وحكى عن ذكرياته. تحدث بحب عن الشيخ عبدالجواد الفريطيس وبمرارة عن الاستاذ بكرى قدورة واشاد بمحمد السعداوية وابراهيم الرفاعى وحسين مازق واحمد رفيق. وطلبته.. الصادق النيهوم.. قال عنه كان قريبا منى وتلميذا ممتازا وصاحب موهبة فريدة. ارسل لى برسالة رائعة باْسلوب عميق قبل مغادرتى بنغازى. كان ينتقد فيها من اساء الى وتسبب فى تركى عمادة الكلية ومغادرتى. اتاْسف على ضياعها. وبعمرو النامى وحزنت لغيابه ومحمد الشريف الذى نصحته ان يبعد عن السياسة ما استطاع عندما استشارنى ذات مرة فى عمان ايام حكم القذافى. ومحمد دغيم. وسلمى الشيبانى وفتحية مازق وراشد الزبير السنوسى. واعتز بسالم قنيبر ورشاد الهونى الذى علمت بموته من خلال كتابك عنه (زيت القناديل). عن سكنه فى سيدى حسين وجيرانه. ورحلاته الى ضواحى المدينة.

بنغازى ظلت فى قلبه. سكنت فى دمه وشرايينه مثلما عمان والقاهرة وبيروت ومسقط راْسه العقبة. وكل المدن الاثيرة لديه التى ترك فيها ذكريات علمية وانسانية وصدى حواراته او مؤلفا من مؤلفاته او تحقيقا لاْثر علمى او ادبى.. او قصيدة من الشعر فيها حب ووطنية وحنين او تلاميذ يتواصلون معه. كانت بنغازى قصيدة وفى قاعات الكلية ومدرجها الكبير انثالت اشعاره بلا توقف.

ثم شمس الظهيرة فى فبراير.. فى يوم ثان .. تسطع على التلال.. وعمان الجميلة مع تباشير الربيع.. نسائم الارض.. ورائحة الزهور والاعشاب.. والهدوء فى ذلك الركن من احد مطاعم الدوار الرابع. كرمه الذى احاطنى به. الغذاء والقهوة وموسيقى فيروز.. ومزيدا من الحكايات. ربطتنى علاقات كثيرة بالادباء والكتاب فى مصر. كرهت فى بداية حياتى الادبية سيد قطب لتحامله على مصطفى الرافعى فى معاركهما الفكرية. ثم عرفته واحببته ناقدا جيدا وكاتبا. قبل ان يسير فى اتجاه اخر. وكذا انور المعداوى وهما فى راْيى اهم ناقدين فى مصر. عرفت ايضا محمد الفيتورى. فى بداياته كان شاعرا مع احمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور وحين دخلوا على خط (الحداثه الشعرية ونظم التفعيلة) لم اعد اقراْ لهم او اتابعهم. كانوا شعراء!!

وقال مع فنجان قهوة.. اهتممت بالتاريخ العربى المعاصر. شرعت فى ترجمة كتاب يقظة العرب لجورج انطونيوس وبذلت فى ذلك جهدا كبيرا ثم توقفت وانقطعت عن ترجمته لظروف دراستى العليا فى مصر ثم واصلت واتممته نشر وصار كتابا لا يقل شاْنا عن لغته الاصلية. واردد فى خاطرى. ذلك حق كانت ترجمته شيئ اخر! راجعت كتاب ليبيا الحديثة للدكتور مجيد خدورى ثانى عميد لكلية الاداب. الذى ترجمه الدكتوران نقولا زيادة واحسان عباس. وزيادة استاذ ممتاز ورائع بذل جهودا كبيرة واهتم كثيرا بليبيا وتاريخها وهى تستحق ذلك عن جدارة… وشمس الاصيل تقترب.

ويقول.. الملك حسين رحمه الله رجل يقدر العلم والعلماء. كان ينهض مبكرا مع صلاة الفجر ويقراْ ماتيسر من الذكر الحكيم وكان كثيرا مايتصل بى فى وقتها مستفسرا عن معانى الايات وتفاسيرها وكان يحيل لى الكثير من القصائد والكتابات المليئة بالاخطاء لكى اراجعها. كان رجلا عالما وفاضلا وملكا شق خطوات بالاردن فى ظروف قاسية وصعبة. وانا الان اعكف على كتابة مذكراتى فى الفكر والثقافة والتدريس والسياسة وساْنشرها قريبا.

والامل مايزال معلقا فى صدورها. والحكايات كثيرة. والوقت لايشعر به المرء فى حضرة الاسد العالم والباحث والانسان. وتشعر بالفقد.. بغياب الاسود والرجال فى هذه الظروف اللعينة.. تخلو الساحة منهم وتظل تمتلىْ بالجهلة والمتخلفين والحاقدين فى كل المجالات. اينما نظرت تجد فى الغالب متخلفا وحاقدا وجاهلا يقود الوطن الى متاهات الدرك الاسفل. تشعر بالفقد والوحشة. والجامعه فى بنغازى لم تعد جامعه. الجامعه التى كان الاسد من بناتها. وهى لاتعلم عنه شيئا ولم تبادر الى اطلاق اسمه وزملائه من الرواد على قاعة او مدرج فى جنباتها.. قبل ان تحترق. جامعة مايزال اغلب روادها من اساتذتها المتقاعدين ينتظرون حقوقهم المعلقة بينها وبين صندوق التقاعد. جامعة لم تعد جامعة ووطن لم يعد وطنا ايها السادة القابعون.. هنا وهناك.

معذرة… معذرة سيدى الاسد… ولتنالك رحمة الله وجزاك عن علمك وعطائك كل الجزاء الاوفى…

___________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

محمد العلاقي.. «البرختي» عاشق المسرح الليبي

أسماء بن سعيد

«عقاد ليبيا» علي مصطفى المصراتي

لينا العماري

كل يوم شخصية ليبية مشرقة (19).. الشاعر علي صدقي عبد القادر

حسين بن مادي

تعليق واحد

سالم عمر 1 يونيو, 2015 at 06:56

أستاذ سالم أحييك على هذا الجهد التوثيقي الجميل والمميز

رد

اترك تعليق