المقالة

الدستور من الأيديولوجي إلى الإنساني

أننا حين نطلق تسمية ( العقد الاجتماعي ) على الدستور ، إذا ماقصرنا فهمنا له على انه العقد الذي يحدد علاقة الحكام بالمحكومين ، فإننا  بذلك نناقض انفسنا ونقسم بفهمنا هذا المجتمع على نفسه ، بحيث نضع السياسي وهو جزء بمقابل الكل الذي هو المجتمع الذي يشمل السياسي وغير السياسي ، ونحكم بذلك باخفاق كل عقد مهما يكن من احكام صياغته .

ذلك ان المعنى الصائب للعقد الاجتماعي كونه العقد الذي ينظم العلاقات بين افراد مجتمع من المجتمعات الإنسانية ، وبمعزل عن وضعية الفرد الاجتماعية او انتماءه الإثني او الثقافي او وضعه الوظيفي ، ولابد لذلك العقد من ان يحظى برضا وموافقة الرجال والنساء العامل والعاطل الموظف والحرفي والوزير ، بحيث يقفون أمامه جميعا متساوين ومجردين من كل الاعتبارات التي قد تحدث فروقا بينهم ، وذلك في الواقع يتطلب وعيا لدى أفراد المجتمع بواجباتهم لا يقل عن وعيهم بحقوقهم ، ويتطلب إيمانا بالمساواة بحيث لا يفرق الواحد منهم بين ماله وما عليه .

ويتطلب إلى ذلك معرفة بالارضية التي يتأسس ( او يفترض بالاقل ) ان يتأسس عليها ذلك العقد ، والأفكار التي تنطوي عليها بنوده وفصوله ومواده ، وقد مررنا في ليبيا بتجربة قد نستفيد من عبرها إذا أحسنا قراءتها ، فقد فرض علينا ولما يقارب أربعة عقود من الزمن شعار يقول : – ( القران شريعة المجتمع ) وكنا محكومين في ظله بشريعة الشيطان تحديدا ، وبمعزل عما استهدفه ذلك الشعار ، واقله قطع الطريق على القران وشريعته حتى لا يكون لهما دور في تشريعاتنا ولا في حياتنا ، يبقى الأهم ان ننتبه الى ان ذلك بكل ما انطوى عليه وكل ما وراءه  إنما جاء في سياق ايديولوجيا ، شانها شان كل الايديولوجيات لاتحمل على محمل الجد ما ترفعه من شعارات ولا تعني ما تدعيه من مباديء وقيم ، ولاهم حقيقي لها غير الاستحواذ على كل ماقد يتاح لها في المجتمع الذي تظهر فيه بل وعلى المجتمع نفسه ، فالاستحواذ هو المبدأ غير المعلن الذي تصدر عنه كل الايديولوجيات ، وهو مبدأ يتعارض بل ويتناقض كليا مع المباديء الدينية والأخلاقية والحقوقية التي يتأسس عليها الاجتماع الإنساني السليم ، والتي هي باعتبارها هذا الأصلح والأنسب لان يتأسس عليها العقد الاجتماعي ، من اجل  ان تكون محددات لعلاقات أفراد ذلك الاجتماع البينية .

وإذا نحن انطلقنا من مبادئ ( الحرام والعيب والممنوع ) والتي طالما نوقشت من وجهات نظر وزوايا عديدة تكاد تجمع على إدانتها واعتبارها قيودا تكبل الانسان وتحد من حريته ، فلنوكد أولا ان نظرة الإدانة تلك لم تكن حرة أصلا بل مكبلة بقيود الايديولوجيا ولاتقبل بما يحد من نزوعاتها الاستحواذية  ، بغض النظر عن أية ايديولوجيا تكون ، ثم لنؤكد ان الحلال والعيب والممنوع مباديء إنسانية سامية لا تنبت في الفراغ  بل منبتها الفطرة الإنسانية السليمة وهي لا تتعارض او تتناقض مع الحلال والمباح والمشروع ، بل تتكامل معها في إطار التفاعل الجدلي الذي يمكن للإنسان في افقه ان يخلص إلى روية واضحة لمعنى الوجود والحياة ولما يتاسسان عليه من مباديء وقيم .

وبهذا المعنى يفترض ان تكون مباديء الحرام والعيب والممنوع ، نصب أنظار هيئة صياغة الدستور ، ولعل اهم الشروط التي يتحقق بها ذلك ان تكون تلك الهيئة حرة بالمعنى الفعلي .. لا الشعاراتي ولا الدعائي للحرية ، وإلا ينحاز أي من أعضاءها إلى أية روى او مواقف أيديولوجية ، وإلا ينساقوا مع من قد يحاول إقناعهم بما لا يتفق مع المعاني الحقيقية لا الظاهرية للحرام والعيب والممنوع ، او مع من يحاول تمرير ذلك باعتباره من الثوابت الدينية او الأخلاقية او الحقوقية  .

والحق انه داعٍ إلى الأسف ما ورد ويرد من ملاحظات من حقوقيين متخصصين ومن ناشطي مجتمع مدني ومن دارسين محللين ، على بعض مما ورد فيما نشرته الهيئة من بنود الدستور الذي هي بصدد إعداده ، ولعل اكثر ما يستدعي الاهتمام في ذلك هو ما تعلق بموقع المرأة في ذلك الدستور د والذي يراد ان يكون لها بالتالي في الحياة وفي المجتمع ، والحق انه لايمكن لدستور يتأسس على ماحرمه الله وما أحله وعلى ما عابته الأخلاق وما اباحته وما يمنعه الحق وما يشرعنه ، ان يفرض الدونية والانتقاص واللامساواة على المرأة ، بدعوى انها خلقت من ضلع اعوج وأنها تسببت في طردنا من الفردوس وأنها ناقصة عقل ودين ، فالمرأة ليست ناقصة عقل ولا دين ولكنها ستكون ناقصة عقل ودين فعلا إذا صدقت بتلك الأساطير التي جاءت في التوراة المزورة التي أسست لأول ايديولوجيا دينية ، وهي ايديولوجيا ذكورية عنصرية تدين المرأة ، ولا يؤيدها او يرفدها حرف واحد في القران ، ووفق هذا الفهم فان التصديق بتلك الترهات او التأسيس عليها او على ما انطوت عليه او على ما شابهها لن يكون الا حراما وعيبا ، وهذا مثل لن نعدم ، ولن تعدم هيئة صياغة الدستور أمثلة أخرى على غراره لا تبرأ من شبهة النزوع الأيديولوجي العنصري والاستحواذي .

إلى ذلك فان الثورة لتوكد ذاتها ، لابد لها من ان تكون بداية ذلك من العقد الاجتماعي الذي تعقده بين أفراد مجتمعها ، فبه وحده تؤسس للتغيير الثقافي والفكري الذي لامعنى لها بدونه .

مقالات ذات علاقة

القطار والشعر والبلد البعيد

سالم الكبتي

الفيدرالية والأمية السياسية

يونس شعبان الفنادي

في الكتابة وما نكتب

يوسف الشريف

اترك تعليق