د. عادل بشير الصاري
ليبيا … هذا البلد الأفريقي حكمه قبل الفتح العربي الرومان والاغريق والفنيقيون ، وتركوا فيه آثارا تدل على عظمتهم وعبقرياتهم ، فلما حكمه العرب والأتراك والبربر والطليان أضاعوه .
ليبيا … بلد ينام أهله على بحيرات من النفط ، دونت كتب التاريخ أن ماضيه منذ الفتح العربي إلى اليوم كان بائسا تعيسا ، ويعيش هذه الأيام حاضرا قلقا ، لربما يوحي بأن القادم من الأيام قد يكون أقسى وأصعب مما مرَّ منها إلا إذا أدرك عقلاء البلد خطورة ما هم فيه .
لا شك أن ليبيا تمر هذه الأيام بأوقات عصيبة ، تعد اختبارا وطنيا عسيرا لكل مواطن ولد على هذه الأرض ويستمتع بخيراتها، فالبلاد في مسيس الحاجة إلى جهود المخلصين من شرفائها وعقَّالها ومحبيها ، ليوقفوا صراع الاخوة الأعداء، وليؤسسوا دولتهم الحديثة بمعايير الدول المتقدمة .
ينبغي أن نعترف ـ نحن الليبيين ـ بحقيقة مرة لا سبيل إلى إنكارها ، وهي أننا فشلنا على مدى تاريخنا القديم والمعاصر في إقامة دولة مدنية مستقلة ، ولم نستطع حتى الآن أن نؤسس لنهضة فكرية وثقافية وتعليمية وعلمية كالتي شهدتها في الماضي البعيد أو القريب دول عربية شقيقة منها تونس والمغرب ومصر والشام والعراق .
لقد أرجع الشيخ الطاهر أحمد الزاوي سبب تأخر ليبيا في القرون الأولى التي أعقبت الفتح العربي عن محيطها العربي إلى عدم الاستقرار والأمان ، فقال :
(( والمتتبع لتاريخ الفتح العربي في ليبيا لا يقع نظره إلا على غزاة تتابعت غزواتهم عليها ، لنشر تعاليم الإسلام تارة ، والحكم والسيطرة تارة أخرى ، يتخلل هذا وذاك حروب طاحنة ، وثورات متتالية ، صرفت الليبيين عما يجب عليهم لوطنهم من توفير وسائل العمران ونشر المعارف والأخذ بنصيب من المدنية )) .1
كذلك فإن الدكتور إحسان عباس قد خلُص في كتابه ( تاريخ ليبيا منذ الفتح العربي حتى مطلع القرن التاسع الهجري ) إلى أن فساد الأوضاع واضطراب الأحوال في ليبيا القديمة حال دون القيام بنهضة عامة ، تُعنى بشؤون العلم والفكر والأدب.2
لقد توالى على حكم ليبيا منذ الفتح العربي العرب والبربر والأتراك والأسبان والمالطيين والطليان :
1 ـ الحكم العربي : (643 م ـ 1510م ) .
2 ـ حكم الأسبان وفرسان القديس يوحنا ( 1510م ـ1551م ) .
3 ـ الحكم العثماني الأول (1551م ـ 1711 م ) .
4 ـ حكم الأسرة القرمانلية (1711 م ـ 1835 م ) .
5 ـ الحكم العثماني الثاني ( 1835م ـ 1911م ) .
6 ـ الحكم الإيطالي (1911م ـ 1943م ) .
7 ـ حكم الإدارتين البريطانية والفرنسية ( 1943م ـ 1951م ) .
8 ـ الحكم الملكي (1951م ـ 1969م ) .
9 ـ الحكم الجمهوري (1969م ـ 2011 م ) .
منذ الفتح العربي وما بعده أفنى أجدادنا الأوائل ـ سامحهم الله ـ أعمارهم في الفتن والصراعات الجهوية والحروب القبلية، وقد توالى على الحكم نحو أربعة وسبعين واليا عُيِّن عدد منهم من قبل الخلفاء الراشدين ومن قبل الأمويين والعباسيين، ثم لما زالت دولة بني العباس حكم طرابلس الأغالبة والفاطميون والصنهاجيون وبنو خزرون والموحدون والحفصيون والوشاحيون .
لم يستطع العرب في بداية فتحهم لليبيا إخضاع سكانها البربر والروم لحكمهم، فقد ظل هؤلاء أكثر من سبعين سنة يقاومونهم مقاومة شرسة ، لكن بعد مقتل كاهنتهم دهيا بنت ينفاق على يد الوالي حسان بن النعمان دخل كثير من البربر في الإسلام ودانوا بالطاعة لحكم العرب .
ويمكن القول إن الإسلام كان في هذه الفترة أسرع من اللغة العربية في الانتشار بين السكان الليبيين ، غير أن اللغات واللهجات غير العربية كالأمازيغية والقبطية ظلت هي لسان كثير من سكان المدن والبوادي ، ولم تنتشر العربية إلا بعد منتصف القرن الخامس الهجري .
يقول الدكتور نقولا زيادة في هذا الشأن : ((عدد العرب الذين استوطنوا ليبيا منذ أيام الفتح إلى أوائل القرن الخامس الهجري ” الحادي عشر الميلادي” لم يكن كافياً لصبغها كلها بالصبغة العربية نهائياً ، فظل الغالب على سكانها ـ خاصة في الداخل ـ العنصر البربري ، وإن كانت آثار الروم قد زالت منها تماماً تقريبا ، لكن الذي أتم لليبيا عروبتها هو مجيء قبائل بني سليم وبني هلال في أواسط القرن الخامس الهجري )) . 3
انتهى حكم العرب باحتلال الأسبان وفرسان القديس يوحنا لطرابلس سنة 1510م ، لكن هذا الاحتلال لم يدم طويلا ، فقد طلب عدد من وجهاء طرابلس من السلطان العثماني إنقاذهم من هؤلاء الأغراب ، فأرسل إليهم سنان باشا على رأس أسطول بحري تمكن من هزيمة الغزاة ، بعدها عيَّن السلطان العثماني سليم الأول مراد آغا أول والٍ له على طرابلس .
حكم العثمانيون الأتراك ليبيا أكثر من ثلاثة قرون (1551م ـ 1911م) ، أصيبت البلاد خلال هذه الفترة الطويلة ، وبخاصة في العهد العثماني الأول (1551 ـ1711 م) والعهد القره مانللي (1711 ـ1835 م) ، بما أصيبت به بلدان عربية أخرى حكمها العثمانيون الأتراك من ركود وتخلف شمل مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، وذلك بسبب السياسة الخرقاء التي ساسها معظم الولاة العثمانيين ، مما أدى إلى انتشار الجهل والأمية بين السكان .
وتذكر كتب التاريخ أن سوء الأحوال بلغ بالليبيين إبان الحكم العثماني مبلغا وخيما حتى إنهم بايعوا في يوم من الأيام رجلا يدعى ( عثمان ) يبيع القهوة في سوق الترك حاكما عليهم .
وعلق الشيخ الطاهر أحمد الزاوي على هذه الحادثة قائلا بمرارة :
(( وماذا يرجى من بائع قهوة ، رفعته ظروف الفوضى إلى منصب والٍ ؟ أكبر وظيفة فيما بين حدود مصر وتونس ، وقبله كان الترزي وهو خياط ، وغيرهما كثير من محترفي المهن التي لا تتفق مع عظمة المناصب الكبيرة .
وهذا العهد المظلم الذي يتولى فيه الخياط وبائع القهوة منصب الولاية والذي عاشت فيه طرابلس نحو 360 سنة ، هو الذي أثر على طرابلس ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وهو الذي قعد بها عن اللحاق بجارتيها مصر وتونس)) .4
غير أن الكاتب تيسير بن موسى يرى أن (( من الإنصاف أن نقول إن خفوت جذوة النشاط الفكري في ليبيا في القرون الماضية لم يبدأ مع وصول العثمانيين إلى الأرض الليبية ، فالعثمانيون ورثوا الوضع الثقافي المتخلف من العهود التي سبقت حكمهم، ولعل مسؤوليتهم تنحصر في أنهم تركوا هذا الوضع على حاله ، ولم يعملوا على تحريكه أو تبديله نحو الأحسن )) . 5
وخلال النصف الأول من القرن الماضي مرت بلادنا بسلسلة من الأحداث الجسيمة المتعاقبة ، فقد اجتاحت القوات الإيطالية أراضينا سنة 1911م ، منهية بذلك سلطة الخلافة العثمانية ، ولم تخرج منها إلا في سنة 1943م ، حيث قُسِّمت البلاد بعدها إلى ثلاث ولايات ( طرابلس ـ برقة ـ فزان ) ، تولت بريطانيا إدارة شؤون ولايتي طرابلس وبرقة ، وتولت فرنسا إدارة شؤون ولاية فزان ، وانتهى حكم الإدارتين معا في سنة 1951م ، حيث تم الإعلان عن استقلال ليبيا ، وإنشاء أول دولة ملكية دستورية على أرض ليبيا .
وللأسف لم تعمر هذه الدولة الناشئة طويلا ، فبعد ثمانية عشر عاما وفي صباح اليوم الأول من سبتمبر عام 1969م أعلن من إذاعة بنغازي ملازم ثان في الجيش الليبي لم يذكر اسمه ـ عرفنا فيما بعد أنه معمر القذافي ـ سقوط الملكية الليبية وقيام الجمهورية العربية الليبية ، وبشَّر الليبيين في بيانه الأول بنهاية ـ ما أسماه ـ عهد التخلف والفساد والرجعية ، وبداية عهد الحرية والعدالة والمساواة .
لكن ذاك العسكري نكص على عقبيه وأخلف وعوده ، فمرت بلادنا ليبيا خلال سنيِّ حكمه بعهود عجاف ذاق فيها شعبنا الأمرين من طغيانه ونزواته ، فقد اتخذ من التهريج والفوضى أسلوبا لإدارة البلاد ، وللأسف الشديد فإن كثيرا من الليبيين أعانوه على تنفيذ سياساته الرعناء ، وهو ما أدى إلى خراب البلاد والعباد معا، فقد سادت الفوضى جميع الإدارات والمؤسسات والمرافق الحيوية ، وفشت في سلوكيات المسئولين والمواطنين رذائل الوساطة والمحسوبية والرشوة والتسيب ، كما برزت النعرات القبلية والعصبيات الجاهلية لتزيد من سوء الأحوال .
وبعد … أما آن لنا ـ نحن الليبيين ـ أن نتعظ مما حدث لنا ومما فعلناه ببلادنا ؟ .
ألا تكفينا ألف وخمسمائة عام أضعنا معظمها في الفوضى والحروب القبلية والجهوية والصراعات الغبية ؟ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ تاريخ الفتح العربي في ليبيا ، الطاهر أحمد الزاوي ، عيسى البابي الحلبي، القاهرة ، الطبعة 1، 1961م ، صفحة غير مرقمة .
2 ـ تاريخ ليبيا، منذ الفتح العربي حتى مطلع القرن التاسع الهجري ، إحسان عباس ، دار ليبيا للنشر والتوزيع ، بنغازي، الطبعة 1 ، 1967م ، ص 224 .
3 ـ محاضرات في تاريخ ليبيا ، نقولا زيادة، معهد الدراسات العربية العالمية، 1958م، ص31 .
4 ـ ولاة طرابلس ، من بداية الفتح العربي إلى نهاية العهد التركي ، الطاهر أحمد الزاوي ، دار الفتح للطباعة والنشر ، بيروت ، الطبعة 1 ، 1970م، ص 209 .
5 ـ المجتمع العربي الليبي في العهد العثماني ، تيسير بن موسى ، الدار العربية للكتاب ، تونس ـ ليبيا ، 1988م، ص 287 .