نمر سعدي/ شاعر من فلسطين
لا يزال صاحبُ (أغاني مهيار الدمشقي) يثير الجدل الثقافي والفكري أينما حلَّ.. سؤاء في مهرجانات وندوات فكرية أو معارض دولية للكتاب.. فمنذ مطلع ستينيات القرن الماضي وهو بصورة أو بأخرى يدير دفَّة الحداثة الشعريَّة ويتشظَّى صوته الصافي في عشراء الأصوات النادرة التي حلَّقت بالشعر العربي الحديث في فضاءات أرحب وأنقى وأجمل.
اذا استثنينا محاولات سلمى الخضراء الجيوسي الأولى في تناول موضوع الحداثة فأدونيس أحدُ أهم الشعراء العرب الذينَ رسموا خارطة الشعر العربي الحديث وحرسوا شمسهُ من الانحدار. والكثير من الدراسات فيما يتعلَّق بالتنظير للشعر وللحداثة العربية استندت بشكلٍ كُلِّي وواضح على كتاباتهِ النقدية وطروحاته الفكرية.. فهو رغم ما يؤخذ عليه من أفكار ومواقف تكاد أن تكون مغالية في بعض الأحيان بنظرتهِ للموروث الفكري العربي المعاصر أو للمنجز العربي الكلاسيكي. نرى أن أدونيس مولعٌ بالحداثة الغربية وبأفكار سوزان برنار التي تأثَّرَ كثيراً بمفاهيمها حولَ قصيدة النثر ونظريَّة الحداثة الشعرية في الغرب عموماً وفي فرنسا تحديداً. بالإضافة إلى عشقهِ اللا محدود لنثر العرب الصوفي المتمثِّل بتجربة النفرِّي والحلاج وابن عربي.
شخصياً أعتبرُ الشاعر أدونيس شخصيةً فكريةً إشكاليةً ومختلفةً فهو من الشعراء العرب الذينَ كانَ لهم فضل تغيير مجرى نهر الشعر العربي بعد ريادة بدر شاكر السياب وزملائهِ من الشعراء العرب المعاصرين مثل عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني..
حاولَ أونيس برفقة اللبناني يوسف الخال أن يسيرَ باتجاه مخالف لحداثة السياب رغمَ تأثرهِ بتجربة بدر في بداياتهِ بعض الشيء من حيث تنويع البحور الشعرية وطرق موضوعات جديدة في القصيدة ولكنه ذهب أبعدَ مما ذهبَ بدر حينَ حاولَ أن يضيءَ عوالمَ مظلمة ويكتشف مناطق جديدة تستند على حسِّ فلسفيٍ وملامسةٍ للعابر واليومي أكثر.. كل هذا الى جانب إغراقٍ في الأسطورة والموروث الثقافي العربي.. واستعمالٍ لإشارات ورموز وأقنعة دينية وتاريخية عربية وعالمية.
نستطيع أن نفهم طروحات أدونيس عندما يقول في لقائه الأخير على هامش المعرض الدولي للكتاب في القاهرة أن الحداثة العربية لا زالت غائبة وهي ليست أمامنا بل وراءنا وأن الأطروحات الفكرية في القرن الثاني الهجري مثلاً أهمُّ من أطروحاتنا في زمننا الراهن وأنضج. وقالَ ما معناه أن العرب لم يقدموا فكرا جديداً ولا أدباً يضاهي آداب الشعوب الأخرى طوالَ ما يقارب الألف عام أي بعد القرن الثالث الهجري. وأنه لم يظهر شاعرٌ عربي حاولَ أن يصف العلاقة بينه وبين المدينة بشفافية وحميميَّة وأحدث قطيعةً مع ما قبله على نحو ما فعلَ الشاعر العباسي أبو نواس.. ثمَّ يأتي على ذكر الشاعر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي فيقول أنه لم يظهر في الشعر العربي شاعرٌ غوَّاصٌ على المعاني الجديدة أعادَ العلاقة مع شعريَّة الأشياء وصاحب كشوفات وفتوحات شعرية مثلهُ وهذه في نظري من مبالغات أدونيس بالرغم من احترامي لعبقرية أبو تمام الشعرية.. ويعرِّج أخيراً على المعري ليقول أنه لم ينبغ شاعر عربي مثله حتى يومنا ليفلسف الشعر ويعالج قضايا وجودية دينية وفلسفية ومسائل غيبية كبرى ويشكِّك في مسلَّمات ثابتة.. بعد ذلك ينفي أن يكون للعرب تاريخا مدوَّناً كما للشعوب الأخرى وأن ابن خلدون كانَ خاتمةَ المؤرخين العرب الكبار.. ولكن لا نستطيع أن نتخيَّله ينزلقُ في النهاية ليصرِّح بأن ما نراه من إرهاب جديدٍ اليوم ليسَ إلا تنويعاً على إرهابٍ قديم وأن الاسلام يجبُّ ما بعدَه ضمناً كما يجبُّ ما قبلَهُ وأن المهاجرين الأوائل مارسوا سطوةً ما على الأنصار او البلاد التي فتحوها.. وقالَ أنه لا يوجد في الإسلام ما ينص على أنه دولةٌ بل رسالةٌ فقط.. ربما يوافقه البعض عندما يقول أنه خلال التاريخ الإسلامي كلِّه لم يهدأ غبارُ حروب العرب ضدّ بعضهم ولكن بالنسبة لكلِّ التأويلات التي تتطرق بجرأة واضحة للإسلام وللنص القرآني الذي يفسِّرهُ أدونيس كيفَ شاءَ هواه أريدُ هنا أن أسأل من أين يأتي بهذا الكلام وهل هناك حقائق علمية واضحة تثبت كلامه الأخير؟ ثمَّ ألا يعرف أن كلامه هذا مرجعية مقدَّسة عند البعض..؟
حاولتُ أن أنشر التساؤل الأخير في صفحتي على فيسبوك فاحتدمَ جدل ضارٍ بينَ فريقين الأول يؤيِّد أدونيس ويعتبره رمزاً عربياً فكريا كبيراً والثاني يعتبرهُ مجرَّد داعٍ إلى التخلي عن أمجاد وأحلام عربية بخطابٍ يدين بشكلٍ أو بآخر الدين.. لم أستطع في غضون دقائق معدودة أن أوفِّف بين الفريقين وعندما رأيت أن النقاش سينحدر إلى دركٍ من الشتائم والسبابِ والعبثية واللا موضوعية قمتُ بحذفِ المنشور.. لأنني أدركت هذه الحساسية في الموضوع في مجتمع يفتقر إلى قبول الرأي المعاكس برحابة صدر.
في النهاية مهما نختلف حول أدونيس وقضاياه الفكرية وآرائه فإننا لا نستطيع أن ننكرَ فضله في حمل راية التجديد بعد السياب في ظلِّ تراجع رفاقهِ أو انشغالهم بالمنافي ومسائلَ أخرى.. ولن نغفل خطى بروميثيوس الشعر الحديث التي كلما مرَّت بغابةٍ آمنةٍ تتركُ الكثير من الحرائق الفاتنة في فضائها المعرفي أو دحرجت بعض الصخور العظيمة في بحيرةِ الشعر العربي الراكدة