(تكأكأت) على عقلي في الآونة الأخيرة مجموعة من الأفكار العجيبة التي دفعتني لارتكاب حماقات لم تراودني من قبل وأوقعتني في قرارات غير حكيمة، رغم حرصي على التمسك بذلك الدرس الأزلي الذي يذكرنا دائماً بأن نكون أصحاب (بال) واحد، لأنه هو الذي يحمينا من أن ندعي ما ليس بصحيح!! وهو الذي يؤكد لنا دائماً بأننا علي حق وأننا (عباقرة عقلاء) لا يشق لنا غبار!! إذ من منا يمتلك الشجاعة الكافية كي يعترف لنفسه بأنه لا يحسن التفكير أو اتخاذ القرارات؟ وحتى أؤكد للآخرين بأنني (مخلوق مفكر حكيم) قررت الاشتراك في دورة لتعليم التفكير الإبداعي باستعمال برنامج يسمى (Cort) وهو برنامج عالمي لتعليم التفكير من خلال اكتساب وتطبيق أدوات غير تقليدية في التفكير الإبداعي، فكيف لي بمقاومة سحر دورة متخصصة مثلها سوف تعلمني كيف أفكر رغم أنفي وكيف لي أن أرفض دعوة للمشاركة في مثل هذه الدورة وأنا الموعودة فيها بتعديل أساليب تفكيري، وإعادة النظر في كيفية اتخاذي للقرارات، واكتشاف مهاراتي المختبئة بداخلي؟ فأنا، وكما يخبرني ذلك البرنامج، أمتلك دماغاً مفكراً قابعاً وسط تلك الجمجمة المنتصبة بكبرياء فوق جسدي، إلا أنه، وكما يصر المدرب على تذكيري في كل لحظة، دماغاً كسولاً يكتفي بالمألوف والمعتاد، ويستكين للواقع والظروف، وعقل مشاغب يتقلب بين الجمود و(شطحات الخاطر)، فتجرجره العواطف والاندفاعية، ويكبله الخوف والترقب، ويتعثر بكل سهولة في أبسط التحديات!! في البداية أخذت الأمر على محمل زيادة المعرفة وإدعاء الفرصة لإعادة كتابة برنامج اللعبة الكبرى المرئي الذي قدمته أواخر القرن الماضي، إذ ربما أجد شيئاً جديداً أضيفه للحلقات، لكنني شعرت بخطورة ما أنا فيه حينما بدأت كتابة مقالي هذا، إذ ما أن هممت بكتابة أولى عباراتي حتى قفزت البطاقة الأولى أمامي صارخة (عالجي أفكارك قبل أن تبدئي، ضعي أمامك قائمة بالايجابيات والسلبيات والأفكار المثيرة) وبدأ ذلك (الدماغ اللعين) يشاكسني مستبعداً كل الايجابيات الممكنة لكتابة مقالي، ولسان حاله يخبرني (ما فائدة الذي تكتبين عنه الآن رغم قناعتك بأهميته؟ بل ماذا يفيدك أن تكتبي وقد لا يقرأ ما تكتبينه أحد؟ ثم ما الذي سيتغير لو لم تكبتي؟ وحتى لو تغير شيء فهل أنت متأكدة بأنك ستحدثين فرقاً؟ ثم أليس هذا الموضوع مكررا وكُتب فيه ما كُتب منذ زمن؟ فما الفرق الآن فيما تكتبين؟؟ وقبل أن أردع هذه الأفكار الحمقاء قفزت أمامي أفكار مثيرة لا أجرؤ على كتابتها!!! وتعقد الأمر!!! وتوقف الفكر!!! فقد بدا موضوع ما أكتبه لا معنى له، فلم أكتبه حقا..
أليس من الأجدر أن أتوقف الآن وأعتزل الآن قبل أن أبدأ في تكرار نفسي؟؟ وهنا وقبل أن أوقف يدي عن القفز بين الكلمات، شدتني البطاقة الثانية للتفكير من أذني، وقرصتني بشدة (يمكنك اعتبار جميع العوامل قبل اتخاذ هذا القرار!! إن أخذك لجميع العوامل بعين الاعتبار سوف يجعل قراراتك سليمة ولن تندمي على أي قرار تتخذينه مستقبلاً)!! وتلاحقت كل العوامل التي تدفعني للكتابة أمامي هازئة ساخرة فهل حقاً أكتب لكل هذه الاعتبارات!! نفضت نفسي من هواجسها وعدت للكتابة من جديد ، وبدأت لي الأحرف غريبة وأنا أصفها قرب بعضها، وفكرت في الاستفادة من بقية البطاقات إذ ربما أخرج من حالة التشتت التي أنا فيها، وبدأت بالبطاقة الثالثة، فأنا حقاً أحتاج إلى وضع (القوانين) التي تحكم ما أكتبه في هذا العمود الأسبوعي الذي اتركه للصدفة، وأبعث به في اللحظة الأخيرة حينما أستقر على فكرة مختلفة، ثم أعيد كتابتها بعدما أوشك على إرسالها، ولكن أليست القوانين قيدا للإبداع الذي لا يعترف بها أو يأخذها في الاعتبار؟ وكيف لي أن أصل إلى (النتائج المنطقية وما يتبعها) إذا لم أضع لأفكاري قوانين رادعة تحكمها وترسمها وتحد من اندفاعاتها؟؟ وهل ينفع أن أضع لنفسي (أهداف) واضحة ومحددة ومحسوبة، كما هو مفترض في البطاقة الخامسة للتفكير؟؟
وهل يقدر من يكتب أن يعرف إلى أين تجره الكلمات؟؟
هل يقدر أن يوقف تدفق معانيه وتزاحم كلماته؟؟ هل يقدر أن يكبل أحلامه؟؟ وقبل أن أترك كل شيء تزاحمت البطاقات الأخرى أمامي، كانت أكثرها شغباً تذكرني بضرورة التخطيط لكل ما أفعل، وتؤكد أهمية الخطوات السابقة لتكامل المهارة، وبذلك تسجنني بين (اللازمات واللابدات)، والأخرى تغريني كي أحدد أفكاري في إطار (الأولويات المهمة) وبالتالي أتعلم كيف أتسلق السلم من بداياته وأفقد لذة القفز من منتصفه، والأخرى تسحبني من يدي كي أضع في اعتباري (البدائل والاحتمالات) فأتوه معها بين انعطافات الرفض وانغلاق الموافقة!! وقبل أن أرفض الرضوخ للقيد صرخت بي البطاقة التي تليها لتذكرني (القرارات القرارات!!!)، فتتعثر بذنبي الفكري وأنحنيت لتقبل الأمر الواقع، غير أن الأخرى أشفقت علي حيرتي وأخذتني جانباً لتهمس لي (ما رأيك بوجهات نظر الآخرين؟؟؟) وهنا توقفت للحظة وأنا أنظر إلي عقارب الساعة الراكضة دون شفقة، وتراءى لي وجه مدير التحرير المعاتب لتأخر مقالي عن موعده، وتقافزت بطاقات التفكير أمامي ساخرة هازئة من تشتتي وحيرتي، وسقط السؤال المحرج أمامي متعثراً: هل كنت قبل اليوم لا أحسن التفكير؟؟
__________________
عن صحيفة الجماهيرية
12.03.2010