محمد زغبية
ينبغي أن نميز بين المفهوم الفني وبين العنصر الأخلاقي، هذا العنصر الذي تحاول المدرسة الأخلاقية أن تجعل منه وحده مضمون الفن؛ فأعلام هذه المدرسة من الأخلاقيين أمثال: دانتي – ماتسوني – ماتزيني – يفسرون الفن بأنه تصوير للفضائل، والتعبير عن الخير والحق.
وهم لذلك يحتمون على الفن أن يتخذ مضمونه من الأخلاق وحدها؛ إذ لا مسوغ في نظرهم أن يتخذ الفن مضامينه من غير ما هو أخلاقي. غير أنه – في رأينا – أن الفن من حيث هو تعبير ليس أخلاقيا محضا؛ ذلك لأن الحياة الإنسانية ككل ديناميكي ليست مجرد خير مطلق أو أخلاق مطلقة، ففي الحياة الخير والشر كما فيها الأخلاق واللاخلاق.
ثم أن الأخلاق مفهوم نسبي يتغير مدلولها بتغير الزمان والظرف، كما يختلف هذا المدلول باختلاف البيئات. فما كان يعتبر لا أخلاقيا من السلوك الإنساني في الزمن الماضي، أصبح من صميم الأخلاق في العصر الحاضر. فسفور المرأة العربية مثلا واختلاطها بالرجل كان في الماضي القريب يعد عملا منافيا للادآب – أي سلوكا لا أخلاقيا – لكن سفورها في العصر الحاضر أصبحا لا يتنافيا وقداسة الأخلاق. وذلك لأن مفهوم الأخلاق تغير تبعا لتغير الظروف، وتطور مدلولها تبعا لتطور المفهوم الحضاري؛ ومن ثم فليس من المنطق في شئ أن يلتزم الفن التعبير عن الأخلاق وحدها.
فالصورة العارية والأدب المكشوف الذي يعالج مشاكل جنسية – مثلا – ليس من الفن في شئ في نظر المدرسة الأخلاقية؛ لأنها لا تعبر عن الفضيلة !، إذ هي – بالنسبة إلى المفهوم الأخلاقي – في الفن تدعو إلى الإباحية، ولأنها بهذا الوضع تثير الشهوات، وتخاطب الغرائز في من يشاهد الصورة العارية أو يقرا الأدب المكشوف، ولذلك هما ليستا من الأخلاق، ومن ثم يتحتم على الفن ألا يتخذهما موضوعا للتعبير.
لكن الحقيقة هي عكس ما يعتقد هؤلاء الأخلاقيون في أرائهم وأحكامهم بصدد تلك الصورة، وذلك الأدب المكشوف كما يحلوا لهم أن يعبروا عنه أحيانا، فالصورة أو الأدب المكشوف في رأينا عمل فني أخلاقي في آن واحد؛ فني من حيث هو تعبير عن تجربة شعورية عاشها الفنان المبدع، إذ المفروض في الفن أن يكون صادقا في التعبير عن التجربة الشعورية.
وأخلاقي من حيث الأثر الايجابي الذي يحدثه كل من الصورة العارية أو الأدب الذي يعالج المشاكل الجنسية في شعور المتذوق، الذي يتمثل التجربة معبرا عنها في تلك الصورة أو ذلك الأدب الجنسي. إذ أنهما بدلا من أن يستثيران شهواته، ويدفعان غرائزه إلى الانحراف – كما يخيل للأخلاقيين – فهما في رأينا يعملان على تخفيف حدة التوتر الناجم عن الكبت الغريزي الذي يعانيه متذوقو الفن، فالصورة العارية في هاته الحالة تكون كأنها حققت الرغبات المكبوته التي يعانيها هذا المشاهد؛ وذلك بالتعبير عنها، ثم هي – أي تلك الصورة – إلى جانب تخفيفها للكبت الغريزي تكون قد أدت إلى تعديل الغرائز وإعلائها وتوجيهها نحو تذوق الجمال في الأثر الفني، ومن ثم فهي – كما سبق وأن قلنا- فنية أخلاقية في آن واحد.
فنية فهي تعبير صادق عن التجربة الشعورية، وأخلاقية لأنها ذات اثر ايجابي في ترقية الوجدان وتهذيب السلوك خلافا لما يدعيه المذهبيون من أعلام المدرسة الأخلاقية في الفن.
وان ذكر الجمال في الأثر الفني جر الحديث حتما إلى نظرية الجمال في الفن؛ تلك النظرية التي تفسر الفن بأنه مجرد التناسق الشكلي، وهي هنا تعنى جمال النموذج أي جمال الصورة التعبيرية في العمل الفني.
ونظرية الجمال في الفن هذه تشبه إلى حد ما النظرية المادية التي تفسر الفن بأنه التعبير الشكلي الجميل كالبلاغة والمجازات وما إليها، وكالأصوات وتساوق النغمات في الموسيقي، وكالحجوم والأبعاد في النحت، وكالألوان والأضواء والظلال في الرسم.
ولما كنا قد عرفنا الفن بأنه التعبير بالصورة عن المضمون أي تجاوز الصورة المعبرة والشعور المحس، فليس من المعقول أن يكون الفن هو مجرد الجمال الشكلي؛ كما تفسره نظرية الجمال هذه. هذا لأن تفسير الجمال بهذا المعنى لا يطابق الواقع العيانى في شيء، أي إذا اعتبرنا الجمال في حد ذاته هو التناسق الشكلي سواء كان ذلك في الفن أو الإنسان أو في مشاهد الطبيعة.
ذلك لأن الجمال مفهوم نسبي يختلف مدلوله باختلاف مفهوماتنا عنه؛ وذلك يرجع إلى خبراتنا الجمالية التي نكونها عن الشيء موضوع الحكم، ومن هنا تختلف نظرة كل منا إلى الشيء الجميل.
ويظهر هذا الاختلاف في أحكامنا الإستاتيكية ( الجمالية ) التي نصدرها على الشيء الجميل؛ إذ يفسره كل منا بالصورة التي رسمها لمعنى الجمال في ذهنه، وهذا يدلنا على أن الأشياء ليست جميلة بطبيعتها، أي جمال ليس ذاتيا تلقائيا وإنما هي جميلة بمقدار ما تثيره فينا من المشاعر والأحاسيس على نحو من الأنحاء.
ولذا نجد أن الصفة المشتركة للأشياء الجميلة – أي الصفة التي تجعل هذه الأشياء تبدو جميلة في نظرنا – هي إثارتها لمشاعرنا.
وهذا ما تفسره نظرية التمثل الذاتي التي تقول بأن تأثرنا بالأشياء الجميلة، ناشئ عن تعبير هذه الأشياء عما نحسه من مشاعر معينة.
وهكذا إنما نعجب بمشاعرنا عنها فإن إثارة الأشياء الجميلة لمشاعرنا ليس مرده إلى طبيعتها، وإنما مرجعه في الواقع إلى هذه الرمزية التي أضفيناها عليها، وعلى هذا فنخن حيثما نحكم على مشهد ما أو على شيء ما بأنه جميل إنما نكون قد خلعنا مشاعرنا على الشيء الجميل، ثم نأخذ بد ذلك نتمثل جمال مشاعرنا في ذلك الشيء الجميل، وتتمثل هذه الرمزية في أحكامنا الجمالية على ما في الطبيعة من زهور وأنهار وجبال وغيرها.
وهكذا فنحن حينما نقول: هذه الزهرة المبتسمة.. والوردة خجولة.. والنخيل الحالم.. والقمر الشاحب مثلا، لسنا نعنى أن الابتسام صفة للزهر أو أن الخجل خصيصة في الورد، وكذلك الحلم ليس صفة للنخيل، وأيضا فليس الشحوب صفة القمر، وإنما الواقع أن هذه الصفات: الابتسام، الخجل، الحلم، الشحوب هي صفات تحاكي حالات نفسية، أي أنها معان استعملت للدلالة على مشاعر تمر بنا في ظروف متباينة.
وهذا ما يعبر عنه المدرسيون بالتشبيهات المجازية؛ وهي استعمال الكلمات في غير ما وضعت له، وعلى هذا فإن الصفات المذكورة ليست من طبيعة الأشياء التي وضعت بها، وإنما هي صفات كانت تدل في الحقيقة على حالات شعورية فاستعملت في غير مواضعها الأصلية من الاستعمالات.
__________________________________
* ناقد وكاتب من رواد النقد، نشر بعض المقالات في الصحف، وقدم العديد من المحاضرات في فترة الأربعينات والخمسينات. وقد نشر مقاله هذا غير كامل في مجلة ” الضياء ” بتاريخ 5 1 يونيو 7 5 9 1 م.