كتاب سجنيات.
طيوب المراجعات

يوميات مثقف في زنزانة ليبية

في كتابه «سِجْنيّات» (دار الفرجاني)، لا يرهق القاص والمترجم الليبي عمر أبو القاسم الككلي القارئ بتاريخه الشخصي داخل زنزانة قضى بين جدرانها ما يقارب عشر سنوات، لكنه يثير فضوله لمتابعة صفحات تروي تجارب إنسانية عدة لرفاق تلك الزنزانة.

عن المصدر
عن المصدر

يتألف «سِجْنيّات» من ثمانية وأربعين نصاً، تنتمي إلى فنون إبداعية عدّة يمكن تسميتها سيرة ذاتية أو يوميات أو حتى قصصاً. لكنّ الكاتب عمر الككلي وصفها في مقدمة كتابه بأنها نصوص سردية، لحمتها جماليات الكتابة القصصية، وسداها ذكريات وأخبار، مثقلة ببشاعة الواقع، ومتوقدة في المحنة ذاتها، بإرادة مقاومة هذه البشاعة. ويضيف عمر الككلي في هذا السياق: «شاهدت في فيلم وثائقي عن الغزو الأميركي لفيتنام كيف كان الفيتناميون، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، وهم في الملاجئ تحت قصف الطائرات وطائلة الأذى والموت، يلجأون إلى الغناء الجماعي. لم يكن غناؤهم بالطبع يوقف سقوط الصواريخ أو يحول دون الإصابات الجسدية، لكنه كان يحفظ تماسك الروح ويحفّز العزيمة وشهوة الحياة». ما الذي يتحتّم على السجين فعله لحماية كيانه؟ يسأل. لا ينبغي الصدام مع حالة السجن، لأنّ ذلك يؤدي إمّا إلى الجنون وإمّا إلى الانتحار. وهو لا يسمح للسجين مثلا باستبطان الذات والتسليم بأنّ السجّانين محقّون في فعلتهم هذه، لأنّ هذا امتساخ للذات وخراب للروح يُمثّل انتحاراً معنوياً قد يؤدي هو الآخر إلى نوع من الجنون، كما يعبر.

كيف يمكن إنساناً ان يقضي أربعاً وعشرين ساعة يومياً داخل زنزانة بشبّاك واحد في السقف وأسرّة حديد وحمام مشترك مع مئات الأشخاص بأمزجتهم المختلفة وأفكارهم المتعددة؟ لهذا السجين رأي وللآخر رأي مختلف، هذا متطرف وذاك تكفيري… حالات إنسانية عدة يقدمها الكاتب فتدفع القارئ أحياناً إلى الضحك، حين يصف كيف تفرض عليك الحياة هناك مثلاً، بإمكاناتها البسيطة جداً، اختراع مكيّف متنقّل. يكتب في يومية «رقصة تجديد الهواء»: «في الصيف حين يأسن الهواء في الزنزانة، ممتلئاً بروائح الأنفاس والعرق، ويثقل التنفس، قليلاً، وكدر النفوس يزداد، ينهض اثنان ممن في الزنزانة، يمسكان في ما بينهما ملاءة بيضاء ككفن الميت، وراية المستسلم، ومعاطف الممرضين والأطباء، وثوب العروس، يأخذان بهزّها، كما لو كانا ينفضان ما علق بها من غبار. كنت أظل أراقب حين لا أكون أحد المهوّيين، ونادراً ما أكون، ارتفاع الملاءة وتموّجها مستمتعاً بلطافة ما تحدثه رفرفتها من نسيم، وكثيراً ما كنت أقول في نفسي: إذا حدث وخرجت من هنا، فسوف أقترح على مصمم رقص تصميم رقصة بإسم: رقصة تجديد الهواء، وأخرى باسم: الطائر المقيد، والثمرة المعلقة».

في هذا الكتاب يقتنص الككلي الوقائع الهامشية من حياة السجن، فتختلط الكوميديا بالتراجيديا عبر سخرية موجعة، فنقرأ في «انزياح الخشية»: «كان كل شيء متوقعاً، بما يقارب اليقين التامّ، ولكن عندما شرع رئيس الهيئة القضائية في تلاوة الحكم (غير القضائي): حكمت المحكمة بالسجن المؤبد على المتهمين الآتية أسماؤهم، تعالت خفقات قلبي بتسارع شديد، إلى درجة أنني صرت، ليس فقط، أحسّ وقعها، بل وأسمع وجيبها، وخشيت أن يحدث لقلبي شيء. وما إن سمعت اسمي حتى تخافتت الخفقات بوتيرة سريعة، إلى أن استقرت على إيقاعها السابق وربما أقل، فزالت خشيتي وقلت لنفسي: لحسن الحظ أن أسمي كان ترتيبه الخامس، وليس الثاني عشر، في قائمة المحكومين بالسجن المؤبد».

كُتبت هذه النصوص في الفترة بين 2001 و 2008، وهي تروي تجربة السجين المثقف عمر الككلي داخل أسوار سجن بوسليم في مدينة طرابلس الليبية. إنها تجربة امتدت عشر سنوات في ثمانينات القرن العشرين، وقد كتب عنها بعد أكثر من عشرين عاماً.

إنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن القارئ انه سيقرأ كتاباً عن عذابات السجن ليكتشف من ثم أنّها كتابة مغايرة لزنازين لا تشهد القسوة والآلام فقط، وإنما تجسد عالماً آخر يصنعه السجين كنوع من المقاومة للموت والحبس الانفرادي.

وعن «سِجْنيّات»، يقول الشاعر محمد الفقيه صالح وهو من رفاق الككلي في التهمة والسجن: «السجن في هذا الكتاب لحظة مستعادة أو مستحضرة، وليس لحظة معيشة، ومعنى ذلك أن نصوصه السردية لا تندرج في كتابة السجن، بل هي على وجه التحديد كتابة عن السجن بعد انقضاء محنته، ومن هنا تؤدي الذاكرة فيها دوراً جوهرياً، بل أكاد أقول إنها تمثل في هذا الكتاب البطل الحقيقي، أو الموازي، الذي يستبطن النصوص، ويتوارى وامضاً خلف بطلها أو أبطالها الظاهرين على السطح». ويضيف صالح: «ولأنني كنت شاهداً على أحداث نصوص هذا الكتاب ووقائعه، بل ومشاركاً في معظمها، فقد لفت نظري هذا التآلف العجيب بين دقة الكاتب في استذكار – واستحضار – الوقائع السجنية، التي تشكل متن كتابه، بأمانة تاريخية يحسده عليها المؤرخ المتخصص، وبين التشكيل الفني المستند إلى حيوية السرد وإيقاع اللغة التي تجمع الإحكام الصارم والمقتصد، وغنائية التلويح والإيماء».

___________________

نشر بصحيفة الحياة

مقالات ذات علاقة

تاريخ الدبلوماسية الليبية

يونس شعبان الفنادي

إدارة المعرفة*

المشرف العام

الإنشاء؛ مكانته وأهميته في التعليم

إبتسام صفر

تعليق واحد

عادل بن يوسف 5 فبراير, 2015 at 07:39

قرأت الكتاب وأعدت قراءته. بسيط، سلس وعميق.

رد

اترك رداً على عادل بن يوسف