المقالة

النعاج المنفردة

وعلى غير المعتاد في البراري الأخرى، تعيش الذئاب الليبية وتهاجم منفردة، ومن النادر أن تجتمع على شكل قطعان كبيرة كما يشاهد أطفالنا ذئاب العالم في التلفزيون، ربما ندرة المياه والزرع والضرع وتناثرها جعل كل ذئب يبحث عن طعامه منفردا، إن ذئابنا تعيش حقا نظام ما قبل القطيع منفردة وبائسة.

على عكس الذئاب تعيش الأغنام مدجنة في قطعان، يرعاها الراعي ويبحث لها عن الماء والكلأ، وهي لا تفعل شيئا إلا در الحليب وإنجاب الخرفان ولا تعرف الصراع إلا مع بعضها البعض، فقد تتناطح على الطعام ويتقاتل ذكورها لنيل الإناث أثناء فترة التخصيب.

النعاج الليبية ورغم شح المطر وفقر المراعي ظلت تنعم بالرفاه وتعامل كملكة نحل ولا تذبح ولا تباع أميراتها الصغيرات إلا اضطرارا، ويختار لها أصحابها أقوى وأجمل الذكور لتلقيحها، إن نعاجنا يعشن جنان ليبيا الدانية قطوفها.

على هذا النحو سارت حياة الذئاب والأغنام في ليبيا وظلت آليات الصيد والبقاء، محكومة بصراع الراعي والذئب، وظلت الذئاب المنفردة تعاني الصعوبات والهزائم والاصطياد والذبح بل واضطرت إلى أكل الجيفة والقمامة.

ذئاب ليبيا المنفردة تكاد وكغيرها من الحيوانات البرية أن تنقرض تماما، فحملات القتل ضدها مفرطة، والأخطر أن غذاءها يكاد ينفد تماما وقد لا يمضي وقت طويل إلا وتكون ليبيا خالية تماما من فصيلة الذئاب.

الأوروبيون وهم يمنحوننا أوصافنا وأسماءنا أطلقوا على فئة منا اسم “الذئاب المنفردة” هم ليسوا ذئابا كالتي نعرف، إنهم يشبهوننا تماما أو بالأحرى ودونما تردد ولا نكران هم أبناؤنا وإن صاروا ذئابا منفردة كذئاب ليبيا الطبيعية وشبه المنقرضة.

الخلط بين الذئاب والبشر في ليبيا ليس جديدا على أية حال، فلقد ظل الليبيون يصفون بعضهم بالذئاب، أحيانا للمديح وأخرى للشتم، المهم أن ثمة رسما لاؤلئك البشر الذئاب يعود تاريخه لحوالي الثمانية الآف عام بجداريات الأكاكوس الليبية، تلك اللوحات التي صور فيها الرسام الليبي رجالا برؤوس ذئاب “أو كلاب” وكلها تظهر منفردة كما ظللنا نراها في برارينا قبل انقراضها وكما تظهر الآن في نشرات الأخبار وكأنها غادرت لوحات ذاك الرسام الأكاكوسي وانطلقت بيننا تسعى وتفتك بنعاج أضحت بعد تشتت قطعانها منفردة.

إذن الذئاب المنفردة ليست غريبة ولاجديدة بالنسبة لنا نحن الليبين، سواء أكانت ذئابا طبيعية كما خلقها الله أو كرجال ذئاب، فقد ظلوا يظهرون من حقبة لأخرى في تاريخنا المخيف.

الجديد الذي لم يصفه تراثنا ولا تاريخنا ولا نشرات الأخبار الآن هو “النعاج المنفردة” رغم أنها ظلت تظهر أيضا من حقبة لأخرى، مثلها كمثل الذئاب، بل إنها قد تكون سبب وجود الذئاب المنفردة.

النعاج المنفردة وهي صيد الذئب المنفرد الأسهل، والتي يفرقها إن كانت قطيعا، فهو لايقتل إلا المنفرد أو المتأخر عن قطيعه، لم يصور رسام الأكاكوس أي تحول لها إلى بشر نعاج، كما فعل بالذئاب بل ظل وفي كل أعماله الفنية تلك يرسم النعاج قطعانا تحظى بالرعاية والحماية.

الطفرة المذهلة التي نعيشها الآن والتي لم يحلم بها “دارون” ولا أتباعه الجدد، هي هذه النعاج المنفردة، التي تنتصب على قدمين وتحاول أن تتشبت بالحياة بالقدمين الآخرين، والتي تأكل ككل النعاج بنهم، والتي تغني وترقص للذئب المنفرد قبل افتراسها، بل وترى في ذاك الذئب منقذها من العبث والعدم وتخمة الهموم.

النعاج المنفردة ورغم اختفاء وثائق وجودها إلا أنني على ثقة بأنها خرجت من لوحات وكتب ورقص وغناء وطقوس عبادة، من حروب ومجاعات، دجنها رعاة وقامت على حراستها كلاب مدربة.

الغريب أننا والنعاج المنفردة لانعرف التعبير عن الألم والخوف، فلا تصيح النعجة وهي خائفة ولا حتى وهي ترى قاتلها يستعد لافتراسها، إنها فقط “تتمسمر” صامتة ساكنة، فالنعاج لاتصيح إلا طلبا للعلف بكل أسف. فعذرا لما قد يسببه هذا الصياح من إزعاج للقيم على خزائن القطيع.

مقالات ذات علاقة

ولا يزال الماء راكدًا

المشرف العام

محاولة اقتراب من إشكالية المواهب الجديدة

المشرف العام

ذكريات خَريفية

فاطمة غندور

اترك تعليق