سرد

من كتاب “بنات الغابة: سيرة النص والجسد”

 

في شقتها حدثني الوراد عن الأنثى التي لا تستسلم للذكر حتى تمتلئ به، بقوته أو برائحته أو بصوته أو بألوانه . أو بقدرته على إضحاكها، فقلت في نفسي موارباً ضحكة واثقة: ثمرة التين تهب شفاهها حالما تزدحم بالسكر، أو الثمرة لا تسقط إلا حين يكتمل نضجها .

في لحظات الصمت كانت تشرد بعينيها . تتأمل جدران الصالة المكتظة باللوحات وكأنها تكتشفها للمرة الأولى . ركزت نظرها على لوحة مائلة لبيكاسو وهمست كأنها تحدث نفسها: نحن نرى الأشياء لكن بيكاسو يعرفها .

استجبت سريعاً لهذه الجملة التي ربما تروض هذا الارتباك الذي يسيطر على لقائنا الأول، قلتُ وعيني تلاحقان عينيها المشغولتين بالأفق خلف الجدار : المعرفة هي الشرط الأخلاقي الوحيد للفن .

دون أن تعير عبارتي أي انتباه تدفقت تحكي عن صور غير مرئية من حياتها . ثمة شئ سري مفقود منذ طفولتها كانت تطارده في شغف الآخرين، المدينة المكتظة بالرجال لا تلبي جوعها، والنسيان إرادتها المحكمة في ازدراء من ولجوا سريرها دون أن يوقظوا أزهار شراشفه . تمادت في سرد ألعابها التأملية التي تحاول من خلالها سبر مدى التحامها بنرجسية شفافة تجعلها دائماً مراوغة على عتبة رجل يسري في داخلها كرعشة حمى. شهوة جاسرة تظهر على كل حركات جسدها لتستقر في أصابعها المرتعشة وهي تسحب من علبة التبغ لفافة . كنتُ دائماً مولعاً بمشهد السيجارة بين أصابع الأنثى . اقتراب الجمرة من طلاء أظافرها وخيوط الدخان الناعمة وهي تغادر حمرة شفتيها . المشهد مثير بقدر ما يثيرني الزغب الصبياني على ساق الأنثى . الرموز الذكورية اللامعة في جسد المرأة تهبها مزيداً من العمق والالتباس، ومن جدل النقائض المشوشة التي تحيل أظافرها إلى محاريث هشة تحرث ظهر الرجل لحظة الالتحام العظيم . الأنثى حين تركب جواداً،أو تكتب بيدها اليسرى، أو تمشي على التراب حافية، أو تشرب من الحنفية مباشرة، أو تدخن بارتباك . مشاهد تثري شغفي بالأنوثة الخارجة عن طورها . استفزاز الأنيموس داخل الأنثى يعني عند القدماء سر الفن وجلاله . أخرجتُ القداحة من جيبي وبادرتها بلهب أزرق . تصاعدت خيوط الدخان من شفتيها وتلوت في فضاء الغرفة، قلت لها ممازحاً: انتبهي فالمكان سيئ التهوئة، ابتسمت دون أن تغادر الحيرة ملامح وجهها، واستطردتْ : عندما كنتَ تتردد على مكتبي، كنتُ مشغولة عنك بالريح التي تعصف داخلي . كنتَ رجلاً من المدينة متطفلاً وثرثاراً . يزعجني تدخينك في غرفتي سيئة التهوئة . لكن النص سحرني . لا أعرف لماذا اضعف أمام الكلمات المكتوبة . ربما لأنها صامتة وهادئة . ربما لأننا لا نرى الآخرين وأنفسنا عن كثب إلا في الكتابة، ابتسمت وهي تضع اللفافة على حافة المنفضة . وربما لأنها تشبع نرجسيتي المهددة بالغزل الشفهي البليد الذي أقابله كل يوم كممارسة مبتذلة للذوق المديني الخالي من الأحاسيس. المعرفة شرط الفن الأخلاقي الوحيد . جملة لا بأس بها . والكتابة هذا السحر الذي طاردنا عبره أسرار البشر قبل آلاف السنين . الحروف الباهتة وحدها كانت توصلنا إلى فك أسرارهم وأحلامهم . الحروف وحدها وما تركته الأصابع على الجدران والحجر والخزف ما كان يمتص المؤرخين إلى المقابر وجدران الكهوف المعتمة . النص مختبر للمعرفة والأيقونة التي تخترق الزمان والمكان . والقلب أيضاً . عندما قرأت النص أحسست بانقباض شديد، صُدمت وفرحت. وتصورت أنه شرك معد بإحكام، وكنت ملتذة بأن أكون الفريسة . وكان شئ ما يتشكل في داخلي كجنين ملعون يشدني إليك، وللمرة الأولى أحس باللخبطة .. والفوضى تكتسح حياتي المرتبة . تحدثنا كثيراً لكني لم أستطع أن أبني تصوراً لما يحدث . كنت كالفراشة المأخوذة بالضوء والخائفة من الاحتراق . أعترف أنك تلخبط حياتي . لكنني لم أحس بالامتلاء بك حتى الآن . الأنثى الجادة لا تستسلم للرجل إلا عندما تمتلئ به . غرستْ عقب السجائر في المنفضة فالتوى وهو مازال يطلق خيطاً نحيلاً من الدخان، تابعتْ حركته الرشيقة وهو يتلوى في الهواء : طلبت منك يومها إطفاء اللفافة، لأنك حتى تلك اللحظة كنت خارج حدسي، والآن بإمكانك أن تدخن داخل رئتي

***

الأشياء تتحدث . المعاني تسكن كل الكائنات الخرساء المحيطة بنا . تتبادل الألوان والصخب مع أجسادنا . في البيت تطغى الأنوثة على كل شيء . تسترسل الأنثى في كل الأثاث وتبث روحها فيه . البيت الذي لا يؤنث كهف لم يكتشف بعد . رطب ومظلم وصامت، أوانيه الخرساء تدب القذارة إلى حواشيها . قيعان الأكواب سوداء، الستائر شعثاء، والسرير هامد كقبر منسي، في المطبخ بالذات يزدهر عرق الأنثى الكادحة ويتسرب إلى كل شيء فيه، حتى نار الموقد لا تزهر بصفاء إلا عندما توقظها أصابع الأنثى . إنه عالمها المزوج بكحلها وعرقها وغرائزها، وهو المكان الذي يتجلى فيه كل إبداعها وتنبعث منه نكهاتها التي لا تحد، من اختيار لمكوناته وترتيب لها إلى ما يبثه من روائح في أرجاء المكان، الطفلة وهي صغيرة لعبتها المفضلة أن تبني كل يوم مطبخها الصغير وتغير باستمرار هيأته ومكان الأشياء فيه . تهدمه قبل أن تنام وتنهض كل صباح لتبنيه من جديد . منذ البداية تحدد هويتها الأنثوية، وطرق لعبها التي ستكبر معها .

في ذلك المساء الذي تركت فيه ندوة عن الهوية يشترك فيها أصدقاء قريبون مني . لأجد نفسي معها في شقتها الصغيرة، استقبلتني، وذعر تحاول أن تخفيه يظهر في حركاتها، في مطبخها الأنيق الذي يبدو أنها رتبته بعناية لا تخلو من حس تشكيلي مثير، فالأواني ظاهرة في الأرفف الخشبية بترتيب حاذق يعكس حالة تجاور لأباريق وأكواب وصحون وتحف خزفية، والأرضية يكسوها بلاط بني مشرب بلون رمادي يحيل المكان إلى سديم لا متناهٍ . لوحات مشحونة بمرسلات أيروسية صعبة التفكيك موزعة في زواياه.  في الركن طاولة حولها عدد من الكراسي الخشبية ذات المسند الطويل . جلستُ على إحداها مواجهاً لأكبر مساحة من إعدادات المطبخ التي أخذتُ في تأملها بعذوبة تعيدني إلى فكرة اللعب الأولى حيث تشيد البنات الصغيرات عالمهن الحلمي من مقتنيات لا يربط بينها شيء سوى كونها مشحونة باهتمام أنثوي مفعم بالألوان والإثارة . كانت هي في تلك اللحظة تعطيني بظهرها أمام آلة إعداد الكوبتشينو . بجسدها المكتنز أكثر مما يجب، شعرها البني المشرب بصبغة صفراء ينتهي على حافة فستانها المنزلي الأسود الشفاف الذي انزاح من أعلى ظهرها لمساحة تومض ببياض يكسره بعض النمش الأسمر، وينتهي بظلاله الشفافة فوق ركبتيها بقليل تاركاً لساقيها اللتين لا يناسبان اكتناز بقية جسدها فسحة أن يشعان بهدوء فوق سديم الأرضية . كان جسدها في تلك اللحظة ممتزجاً بشكل أثيري مع ألوان المطبخ وأثاثه ومقتنياته خالقاً هذا المشهد الكلي الأخاذ المشكل من الفخار والزجاج واللحم والقماش، وبنصف إغماضة لعينيّ طالما كنت أكررها في الطفولة وأنا أراقب النجوم لأراها تختلط وتتراقص بشكل احتفالي، بهذه الطريقة التي لا أستطيع أن أفسرها أخذت أراقب المشهد بأسره، فتحول بالضبط كما يحدث حين نحرك زوم الكاميرا لتغيير بعده البؤري فتختفي الحدود بين الأشياء وتغرق في سديم متعدد الألوان، تحول جسدها ومكونات المطبخ إلى بقع لونية متجاورة، وكنت أنجز في تلك اللحظة لوحة تجريدية، حيث تغدو الأشياء ذريعة للقبض على اللون، وحيث التحام المكونات المتناقضة في سديم المطلق الذي يخلع عنه سلطتي الزمان والمكان، ويستبطن جوهر الأشياء دون المساس بها أو الإحساس بحدودها وظلالها،فيختلط الواقع بالحلم،التجريد إلغاء البعد الثالث وتسطيح اللحظة، أو بمعنى آخر محو الخلفية، الخلفية التي تعني في هذه اللحظة الماضي، ماضي السيدة الذي أعمل على إخفائه من أجل درء الانفصام الذي يحثه صراع العقلاني واللعبي، المخطط له والغريزي،وهي أمور ستتضح كلها فيما سوف يحدث، واستغربت كيف يمكن إنجاز كل ذلك في ثوان بإرخاء نظرة العينين والذهاب بها إلى أبعد مما هو متاح وملموس . خرجَتْ فجأة من اللوحة ودخلت حيز البعد البؤري فاتضحت ملامح وجهها وقد بانت عليها ستارة من الحزن الشفاف . جلست بجانبي بجسدها المرسوم بدقة، وضعت أمامي كوب الكوبتشينو واستغرقتْ في صمت وهي تتأمل صور الفاكهة على الغطاء البلاستيكي للطاولة، ثم بهدوء استرسلت في سرد حالة القلق التي أخبرتني عنها في مكالمة تليفونية . حدثتني عن صديقها القديم الذي مازال يلاحقها بإصرار، والذي يحبها بشكل جنوني كثيراً ما يتحول إلى كابوس يطاردها . تعارفا قبل زواجها بفترة، ولم يستطع الابتعاد عنها أو اليأس من حصوله عليها . لاحقها أينما ذهبت، من مدينة إلى مدينة، وامتنع عن التفكير في أي خطوة للزواج وإيقاف حلمه بها . هي تحبه وتخافه، ولا تملك إلا أن تستسلم دائماً لجنونه الذي يهدد زواجها، قالت وهي مازالت تمعن النظر في صور الفاكهة على الطاولة : إنه يؤمن تماماً بامتلاكي، وإني امرأته المصادرة رغماً عنه . وكان هذا الشعور بقدر ما يغمرني باحتقار لنفسي بقدر ما يسكب في داخلي نشوة حائرة، بأن أكون ملكاً لشخص لا يملك أحياناً إلا أن يبكي في حضرتي . ثمة خيط يربط بين الحب ورغبة التملك . خيط نحيل كالوتر، أعزف عليه لحني الحزين المفعم بلذة لا أستطيع تحديد مصدرها، أخبرتني أنها حدثته بشأني وهدد بقتلي إذا ما تطورت علاقتنا . هو يملك نسخة من مفتاح شقتها، وكثيراً ما وجدته واقفاً كشبح قرب سريرها وهي نائمة، كان بإمكانها أن تغير قفل الشقة لكنها تستلذ عالم الأشباح هذا وما يعقبه من لذة، فلابد من أن تكون ثمة ثغرة في عالمها المغلق لتسلل الأشباح والكوابيس إلى نومها الرتيب . كما انه كان يراقب هاتفها ولا يتردد في اقتحام البيت إذا ما وجده مشغولاً … إنني أحبه وقضيت في مغامرته سنيناً طويلة، كان سحر الألفة يسيطر عليّ تماماً وهذا الشعور الممزوج بالخوف تجاهه، لكن لا أعرف كيف دخلت أنت حياتي . ربما لأنك نقيض له تماماً، بهدوئك وتسامحك مع التباسي، وقدرتك على الولوج بي إلى عوالم لم آلفها، من الصحو والهمس وشجون الحرية التي تعبدها . كنت اقرأ ما تنشره واكتشف من خلال كلماتك ما قر في خلايا جسدي من تجربة، خصوصاً نصك الشرك الذي تعثرت به ووقعت في أحضانك . إنك لا تملك مفتاح الشقة، لكنك انتسخت مفاتيح جسدي وروحي دون أن ادري . كان هو الواقع الذي أرتضيه وأحبه، وأنت الحلم الذي أسري إليه سراً، هو العنب الذي يبل ريقي، وأنت النبيذ الذي يسكرني، هو يجعلني أفكر في كل كلمة قبل أن أتفوه بها، وأنت بجانبك أفكر بصوت عال . هو كثيراً ما يبكيني، وأنت تجعلني أضحك . عالمك يزحف على عالمه، لكن عالمه ينزاح ويراوغ ولا يتقلص . وكنت في النهاية في حاجة إلى هذا الخليط كله . توقفتْ برهة وشالت عينيها الواسعتين نحوي فبان فيهما بريق دمع ما لبث أن سال على خديها وكأنه ينبع من ألم منسي، نزعت من العلبة منديلا ورقيا ومررته برفق تحت عينيها وأنا واقف خلفها . تركتُ المنديل المبلول ينزلق فوق الطاولة، وأطلقت أصابعي تحبو على كتفيها العاريين المقوسين . قبلتها على أرخبيل النمش المتناثر فوق ذرى كتفيها وتنفست بعمق على عنقها . رفعت يديها برفق وأحاطت بها رأسي من الخلف لأزداد التصاقاٌ بلحمها . وقفتْ مغمضة العينين وعانقتني مطبقة شفاهها على شفاهي . وللحظة راودتني فكرة أن انطرح بها على سديم البلاط . وعيناي تمران على جدران المطبخ وكل مفرداته الأنيقة، في تلك اللحظة كانت صورة من الطفولة اختزنها في ذاكرتي تمتد أمامي بأثيرها الخلاب الذي لم أستطع نسيانه. أنجزت في لحظة لوحتي التجريدية من جديد وهبطت بها على الأرضية، استلقيت على ظهري فانساب برد البلاط بنعومة في جسدي، وبدأ في الوقت نفسه دفء أنفاسها يغزو من الأعلى عنقي وصدري الذي بدت تنزع الأزرار عنه واحداً تلو الآخر. تضاجعنا بصمت وظهري على البلاط محصوراً بين ركبتيها اللتين امتزجت حمرتهما باللون البني للأرضية، بينما وجهها المدور وشعرها المشرب بالذهب وأقراطها تحولت في تلك اللحظة إلى نجوم بعيدة تتراقص وتختلط وتنفصل.

مقالات ذات علاقة

تاجر الأوهام (2)- رجل الحاوية

محمد النعاس

سيدة الإيشارب المجهولة

كريمة حسين

على الدرب نفسه الذي امتشقني مراهقاً

المشرف العام

اترك تعليق