بقلم وعدسة: زياد جيوسي
حين زرت محترف الفنانة رنا حتاملة أول مرة، وشاهدت حجم الفوضى التي تسود المحترف، قلت للفنانة: يظهر أن الفوضى جزء من عالمك الفني، فلوحاتك متناثرة بالأرجاء بشكل فوضوي إلا بعضها تتسلق على الجدران! فقالت: “إنها اللحظة التي أراها جميعاً من حولي، لوحة ولوحة ولوحة ولوحات كلها تطوّق فراشي الوحيد الذي أنا عليه، نسرد القصص المرعبة بثقافتنا المجنونة معاً، نجتمع لأن نتفق أن أصواتنا مهزومة أمام اللحن الذي اختاره لهن كل مساء، أشعر بفخر إنجابي وحسن تربيتي لهن، في الصباح أجد لوحة مستلقية على أخرى، ولوحة استيقظت لتسقي نبتتنا بجانب النافذة، وأخريات يقمن الصلاة بطقوس الحب…!!).
التجوال في أفاق لوحات رنا ليس بالمسألة السهلة، فالفنانة لها طريقة مختلفة في أساليب الرسم، وكل لوحة لها بالكاد يتكرر أسلوبها مرة أخرى، فشعرت أني أجول في عالم مجنون وأنا أقف متأملاً لوحاتها، ولكن شعرت كم أن الفنانة تجول في ريشتها بين جنونين بشكل خاص؛ سريالية سلفادور دالي، “وتميزت بالتركيز على كل ما هو غريب ومتناقض ولا شعوري، وكانت السريالية تهدف إلى البعد عن الحقيقة، وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام”، وتكعيبية بيكاسو، “ذلك الاتجاه الفني الذي اتخذ من الأشكال الهندسية أساساً لبناء العمل الفني، إذ قامت هذه المدرسة على الاعتقاد بنظرية التبلور التعدينية التي تعتبر الهندسة أصولاً للأجسام، حيث اعتمدت التكعيبية الخط الهندسي أساساً لكل شكل”. فحجم التأثر بهذين الفنانين كبير، وإن تولّد لها جنونها الخاص والغريب في لوحاتها، لذا وجدت نفسي لأول مرة أجول في فضاءات لوحات أشعر أنها مجنونة، وليس من السهل أن تبوح بأسرارها لي، وما بين جولة وجولة، بدأت أشعر أن لوحات الفنانة بدأت تطمئن لي وتهمس بعضاً من أسرارها.
رنا حتاملة، وعبر مسيرتها الفنية، احتفظت بكل أعمالها تقريباً، وهذه الأعمال تروي مسيرة موهبة امتدت سنوات عدة في إطار الفن، لتتواصل مع المجال الأكاديمي من خلال الدراسة الجامعية. هذه الموهبة التي رافقتها منذ الطفولة مع التمرد والخروج عن أساليب التعليم الفنية في المدرسة، وشهد بذلك أمامي مدرّستها للفن في المدرسة الفنانة هيلين مرجي التي درستها عشرة سنوات متتالية، والتقت بها بعد أن كبرت. ومن يتجول في أعمال الفنانة يجد درجة الحساسية الكبيرة والشعور الإنساني العالي، وفي تجوالي الطويل والمتكرر أكثر من مرة بإبداعات رنا حتاملة وجنونها الفني، وجدت أن أعمالها تضم مجموعة من أساليب الفن ومدارسة، فهي تجول بين مدارس وأساليب فنية: السريالية، والتكعيبية، والانطباعية، والكلاسيكية، وتعرج في بعض أعمالها على التراث، ولديها مجموعة خاصة ومتميزة تعتمد فيها على رسم الحيتان البحرية.
وحين نجول في لوحاتها السريالية والتكعيبية بشكل خاص، نكتشف أن الفن الذي تؤمن به الفنانة رنا، هو أن الفن عبارة عن لغة رمزية تتحدث من خلالها بالريشة واللون والرمز لإيصال الفكرة، وهذا ما نلمسه بمعظم لوحاتها، ففي لوحة سريالية من لوحاتها نجد أنها تأثرت بمشهد صيادين بأحد الدول العربية وهم يكومون نتاج صيدهم من الغزلان، حتى أنها بكت من المشهد، ولم تهدأ روحها قليلاً إلا حين أفرغت حزنها عبر ريشتها بلوحة تعكس مشاعرها في لوحة سريالية غريبة الشكل، فنجد اللوحة تظهر مجموعة من الغزلان عددها ستة غزلان تحلق في السماء كأنها ملائكة، ولكن رؤوسها إلى الأسفل وهي بدون قرون، لونها يتمازج بين البني الترابي والأبيض، تنظر إلى رأس غزال كبير كأنه يهبط من السماء إلى الأرض، ويمتلك قرنين كبيرين، ويحمل على القرنين إكليل من الزهور كأنه ملاك الغزلان هبط من السماء ليشارك قطعان الغزلان الأرض ألمها ومعاناتها من البشر، وفي يمين اللوحة عين زرقاء تنظر بألم، وأسفل منها عين أخرى تنظر كأنها تخترق جداراً أو صندوقاً، ومباشرة تحتها ساقين بشريتين، ومن زاوية الصندوق السفلية تخرج مجموعة من الأيادي وأنها أفاعي تمتد باتجاه شكل قد يكون رمزاً لغزال مقتول، ورمزاً لكمّ الأطفال الذين يقتلون في منطقتنا بسبب الكوارث التي سميت زوراً بالربيع العربي.
ومن لوحاتها التكعيبية الكثيرة، اخترت لوحة رسمتها في العام 2003، وقد اعتمدت الفنانة في هذه اللوحة الخطوط الهندسية وأشكالها من مثلثات ومكعبات ومربعات، فجردت المكان بهذه الأشكال المختلفة، ومازجتها بعدد كبير من الأهلة القمرية في ممازجة رمزية بين المدرسة الانطباعية والتكعيبية، كما جردت الوجوه وحولتها إلى إشارات مبتسمة بداخل المربعات، مستخدمة الرمز من خلال الأهلة لتقريب الفكرة للواقع الشرقي وتقاليده، ورمزية الهلال في منطقتنا العربية وتقاليدها الإسلامية، من حيث رمزية الهلال وإشاراته إلى رمضان والأعياد الدينية، ومتابعة أحوال المناخ والطقس لدى الفلاحين، ونجد الفنانة جعلت جزءاً من الأشكال في الزاوية اليمنى من اللوحة بالنسبة للمشاهد، بينما جعلت غالبية الأشكال في الجزء الأسفل الذي أخذ ثلثي اللوحة، وجعلت السماء بين القسمين، وكأن الحلم المنتظر ما زال حلماً في السماء. وقد لجأت الفنانة للألوان الفرحة في غالبية اللوحة من الأبيض إلى الأزرق بتدرجاته، والأخضر والأصفر والبرتقالي والأحمر الأرجواني، فجعلت اللوحة كأنها عيد فرح، بخاصة أنها استخدمت الأهلة أيضاً للتعبير عن الوجوه حيناً وعن بوابات الأمكنة مرة أخرى، فكانت لوحة متميزة برمزيتها ومعانيها، وتجريد المكان من خلال الأشكال الهندسية كما المدرسة التكعيبية التي تصدرها بيكاسو.
في لوحاتها الانطباعية، تنقّلت الفنانة رنا حتاملة بين عدد كبير من اللوحات، نقلت من خلال انطباعاتها الكثير من المشاهد؛ من قن الدجاج وصولاً إلى أوراق الخريف المتساقطة، مروراً بالأطفال الغرقى، والكثير من المشاهد التي تركت في روحها أثراً ما، فحولت هذا الأثر والانطباعات إلى إبداعات فنية، وهناك لوحتان صوّرتا أوراق الشجر، حيث تحولت الأرض من خلال الأوراق إلى سجادة منقوشة بالألوان وأشكال أوراق الشجر، بأشكال مختلفة وإن غلب عليها أسلوب بيكاسو بالمنحنيات والأشكال الهندسية برغم أن اللوحة انطباعية، وهذا ما نلمسه بلوحات الفنانة بغض النظر عن المدارس والأساليب التي استخدمتها، وعن تقسيمي إياها إلى ستّ مجموعات من أساليب الفن، فالفنانة، وكما أشرت في البدايات، متأثرة جداً بمدرستَي بيكاسو ودالي التكعيبية والسريالية، وبالكاد تخلو لوحة لها برغم تصنيفها من خلال مدارس أخرى من هذا التأثر، وفي هذه اللوحة كان هناك إبداع انطباعي حول أوراق الشجر وبقايا الأوراق إلى لوحة منقوشة بألوان مختلفة حملت ألوان الخريف، ولكن حولتها إلى زخرفة لونية باهرة الجمال تداخل بها الذهبي بالأصفر بالأخضر والأصفر الداكن، فكانت اللوحة فعلاً ذهب أيلول.
لوحاتها التراثية كانت محدودة، وهي تقليدية، فرسمت أدوات تراثية استُخدمت أو ما زالت رهن الاستخدام، مثل المكحلة التي استخدمتها الجدات وأواني تراثية، وعقد بيت تراثي يحيط بمئذنة بعيدة، وجرة وبساط تراثيين، وفنجاني القهوة العربية التي تقدم بالفرح والترح في الأردن، وإن خرجت برسم الفناجين إلى ممازجة جوانب سريالية في اللوحة، فظهرت عين من بخار القهوة، إضافة إلى كتابات باللغة الإنجليزية في زاوية اللوحة السفلية، وظهور رموز وأرقام في زاوية اللوحة اليسرى العليا وسهمين بشكلين مختلفين فوق الفنجان الفارغ والملقى على جانبه، وكأنها تشير إلى التغيرات التي اخترقت التقاليد الموروثة وغيرت فيها الكثير، بينما في لوحاتها الكلاسيكية نجدها اعتمدت اتجاهات المدرسة الكلاسيكية نفسها في القرنين الماضيين من لوحات الفاكهة والنوافذ والأزهار وغيرها.
يتبقى مجموعة الحيتان، وهي تتكون من سبع لوحات كان الحوت الأبيض يشكل عماد اللوحات فيها، وإن أخذ أحياناً أحجاماً صغيرة كما الأسماك، إلا أن دهشتي زالت من هذا الاهتمام المتميز برسم الحيتان حين اكتشفت أن الفنانة من برج الحوت، وهي عكست أحاسيس تأثرها بهذا البرج من خلال مجموعة اللوحات السبعة. ولعل طيبة الفنانة انعكست بشكل غير مقصود في أن اللون الأبيض هو اللون الذي استخدمته للحيتان، ويلاحظ أن الفنانة لم تتمكن من أن تخرج من إطار تأثرها بالسريالية في لوحتين من هذه اللوحات، حيث ظهرت الحيتان تلعب بالطائرات الورقية كما الأطفال وتطلقها بالجو وتمسك بين أسنانها بالخيطان، وبشكل خاص لفتت نظري لوحة، وهي أول لوحة شاهدتها للفنانة في معرض تواصل في بيت نجم الدين في إربد، حيث الحوت الأبيض ينتقل بقوة من السطح إلى قاع المحيط، تاركاً السماء بلون أحمر داكن كأنها نيران مشتعلة، وسطح البحر داكن اللون ومضطرب، وكأنها إشارات رمزية إلى ما هو فوق الماء من مشكلات العالم واشتعالها حتى قرف منها الحوت، وانطلق نحو الأعماق عائداً إلى حيث راحته وسلامه، مقطعاً حبلاً كان يلتف حوله، فهل رمزت الفنانة لنفسها بهذه اللوحة ورغبتها بالتمرد على كل ما تراه غير جميل في مجتمع تعيش فيه؟ أظن ذلك لمعرفتي بحجم التمرد في روح الفنانة وطبيعتها.
في النهاية، فالفنانة رنا من مواليد إربد ( 14 آذار للعام 1983) وخريجة جامعة اليرموك، كلية الفنون الجميلة/ قسم الفن التشكيلي- تخصص فنون الجرافيك في العام 2005، ومنتمية إلى درجة الجنون لبلدتها الحصن بمحافظة إربد. وكما أشرت في البداية إلى أنها تحلّق بين جنونين، وخلقت لنفسها جنونها الخاص، وعاشت وتعيش فيه، معبرة من خلال الريشة واللون والخطوط عن تمردها وثورتها ورغباتها التي تضطرب بداخلها، تعيش في عالمها الخاص بين لوحاتها، ولا تتخلى عن أية لوحة منها، فهي ترى أن “الفن حالة منفردة بهذا العالم، الكل يحتاجه، الكل يبحث عن دهشة تجدد طاقاته، لا بد أن تتلامس الأرواح بالأجساد، حينها نكون قد ولدنا كل مرة…”.
(رام الله 20/12/2016)