الكاتب: محمد محمد المفتي
حوارات

ما تيسر من سيرة المفتي

(حوار مطول مع الباحث في التاريخ الاجتماعي
والكاتب الصحفي والرسام والطبيب محمد المفتي)

أحمد الفيتوري

الكاتب: محمد محمد المفتي
الكاتب الليبي د.محمد المفتي

مُلامسةُ المَعرفــة

المعرفة تيارٌ يسري عبر تضاريس العقول، من جيل إلى جيل، من الجماعة إلى الفرد والعكس  كالهواء أو المـاء ربما شيء شبيه بالوراثة البيولوجية.

بداية علاقتي بالمعرفة كانت حسية حين كنت صبيا تلميذا بالابتدائية في بنـغــازي. علاقتي بخزانة كُتب جدّي، كان عالم دين، وترك خزانة من الكتب، أنا لم أرى جدي ولكنني سمعت عنه قصصاً كثيرة بأنه كان أزهري وسُجن أيام العهد الايطالي لأنه رفض الافتاء بجواز الحرب أو القتال الي جانب الايطاليين بالنسبة للتجنيد، ويبدو أنهُ وقع في فخ من بعض خصومه قاموا باستفزازه للإدلاء برأيه .سُجن لأنه نطـق بفتوى مع انه لم يكن يتولى منصبا رسميا، كان مُفتياً في العهد العثماني عام 1905  وفقد منصبه مع الغزو الإيطالي. ولكن كان كلامه ورؤيته وفتواه لها ثقلها وقتها خاصة في مدينة صغيرة مثل درنة.

كانت له خزانة كتب مليئة بالكتب الدينية، الكتاب الذي اذكره ولأنه ثقيل كان (ديوان المعرّي لزوميات ما لا يلزم) ويوجد ايضا بعض التدوينات المنزلية كتبها جدي كولادة طفل في الاسرة، كنت مُغرمـًا بهذه الخزنة، انظفها وأعيد ترتيبها  من حين لحين ولان الكتب كانت مُهترئة فكان دائما هناك فائض من الاوراق الساقطة كانت تأخذها امي وتضعها في التنور علي اساس انها أوراق من القران و لا يجب ان تُرمي في القمامة.

رؤيــةُ المـعـرفــة

دخلتُ المدرسة الابتدائية، مدرسة الأمير، سنة 1949 في بنغازي كان عمري ست سنوات، كان هناك الكثير من المُدرسين أذكر منهم ناظر المدرسة محمد جبريل ومحمد المرتضي والمدرسين كان بن عروس مهلهل، طالب الرويعي، يوسف الدلنسي، عبد العزيز الابيض، بوبكر الفقهي، كانوا نخبة ونخبة مستنيرة . وهكذا الاستاذ عبد العزيز الابيض والصادق باله كانوا جميعهم مُستنيرين، وابناء نخبة التي تشكلت في نهاية العام الايطالي وفترة الادارة البريطانية وبالتالي كانوا علي درجه عالية من الاستنارة، والانفتاح، يتعاملون معنا بحب وحماس.

مثلا، حدث جفاف وخرجت الناس لصلاة الاستسقاء وذهبتُ مع والدي لهذه الصلاة بطريق الشابّي واعتقد ان الشيخ الصفراني هو من كان قد أمَ بنا الصلاة وكان الناس يلبسون ثيابهم مقلوبة ويمشون حفاة ويرددون الادعية لنزول المطر.. اذكر بعدها بأيام جاءنا الاستاذ يوسف الدلنسي وقد احضر معه كانون وسخان وكان معه صحن ألمونيوم وشرح لنا كيفية سقوط المطر، وان المطر تبخر الماء من الارض تتراكم في الطبقات العليا الباردة وتتكاثف ثم تسقط مياه.. الصورة التي في ذهني الان هي صورة السخان والكانون وهو ماسك صحن الالومنيوم.. وقتها لم اربط بين الحدثين واعتبرتها مجرد درس عادي.

تلك التجربة العملية، ربما شكلت في ذهننا، خطـا فاصــلا بين الثقافة التقليدية وثقافة العصر الحديث، الله ســبحانه وتعالى خلق الكون وفق نواميس، أي قوانين في الثقافة التقليدية نكتفي بالانبهــار بالظواهـر الكونية، ونكتفي بالتعجب واستخلاص المواعظ. أما في الثقافة الحديثة.. فعلينا أن نكتشف تلك النواميس ونستخلص القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية. ذلك هو لب العلوم الطبيعية  اليوم، ونحن بحاجة لهذا المفهوم.

روافـد السياسة  مـهـرجــانية

بداية تشرب السياسة، كانت انطباعات لصور، صور شبه مهرجانية، مسرحية كان والدي تاجرا، ومُسيسا أيضا، ومن أنصار جمعية عمر المختار المُعارضة، والمناهضة للوجود الأجنبي والداعية لوحدة ليبيا ، كان دكاننا في شارع عمر المختار وميدان البلدية، أي في قلب الأحـداث آنذاك، مثلا في شارع (اقزير) المتقاطع مع شارع عمر المختار، كان هناك مقهى الوحدة العربية وهنا اسم المقهى نفسه له دلالاته، و اكتشفت بعد حوالي خمسين سنة ان صاحب المقهى جبالي من الجبل الغربي وجاء الي بنغازي سنة المجاعة سنة 1947 (علي شامالي) وعندما عرفت هذه الحقيقة  كتبتُ له اهداء كتابي (هدرزة في بنغازي) الطبعة الاولي.

طبعا مناخ الجمعية والذي كنت اشعر به من والدي مناخ سياسي معارض متذمر، هناك حدثين اتذكر احداهما جيدا اعتقد كان في عام 1950، كان عمري سبع سنوات، لكن اتذكر ان اعضاء الجمعية ذهبوا في حافلة الي قصر الملك بالجخ (مقر الصاعقة الآن)، فيما بعد وجدت هذه الرحلة مسجلة في جريدة الوطن ويبدو انها استغرقت حوالي الساعة ونصف للوصول.. المهم كانوا يقرؤون الاناشيد علي الملك وذهبت هناك مع والدي، حيث خرج الملك علي السُلّم وحياهم ولا ادري ما قد قيل كان مشهد درامي مجموعة من الناس تجمعوا في نصف دائرة والمبنى بعيد نسبيا منهم و يخرج الملك علي السلّم من بعيد ليحييهم.

هناك مشهد آخر ولكن الذاكرة البشرية تخوننا مرات، اتذكر اقتحام الشرطة لجمعية عمر المختار وكان موقعها الدور الاول لآخر مبني تحت الاقواس قبل جامع الرفاعية، اتذكر مشهد البوليس والفوضى والصياح لم افهم وقتها، ولكن بعدها عرفت و كان في يونيو عام 1950, كانت هذه هي الروافد التي استمديت منها و مبكرا اهتماماتي الثقافية والسياسية والتي اشعر في هذه اللحظات بعواطف مُضطربة في داخلي تجاه الاهتمام السياسي.

في تلك الفترة ايضا – بداية الخمسينات – حدث اغتيال النقراشي بمصر واتهموا بها اخوان المسلمين وهربوا ثلاث اشخاص معروفين ابراهيم سعده والشربيني ولا اذكر الثالث هربوا وجاؤوا الي بنغازي وحدثت ازمة بين امارة برقة والحكومة المصرية، اذكر ان احدهم كانت له لحية طويلة، ولكن المهم ان هؤلاء الشباب الثلاثة اصبحوا نجوم في وسط بنغازي علي الاقل في شارع عمر المختار لأنهم بدأوا العمل مع بعض التجار او شيء من هذا القبيل، لكنهم كانوا متواجدين بالمساجد.

المـعـرفـــة  قــراءة

دخلتُ المدرسة الإعدادية ثم الثانوية في منتصف الخمسينات، وتعرفتُ علي نصوص المنفلوطي، كانت له نصوص مقرره وشعر احمد شوقي وحافظ ابراهيم، كانت الكثير من مناهجنا والكتب المدرسية مصرية النصوص مبسطة، والنماذج الشعرية رقيقة تلصق بالذاكرة.

بعد ذلك حدثت الازمة بين عبد الناصر والاخوان، وكان لي اعجاب بعبد الناصر، ولكن بعد ان بدأ في صراع مع الاخوان، والاخوان كانوا وقتها شباب مسلمين وأي مسلم لابد ان يكون صحيح، ولكن من انقذني من هذه المفارقة بين عبد الناصر وبين الاسلاميين هو خالد محمد خالد لا اذكر من عرّفني بكتبه. قرأت كل كُتب خالد محمد خالد حوالي  15 كتاب بنهم عن الشخصيات الاسلامية والتاريخ الاسلامي، كان اسلوبه سلس وجميل وكذلك روحه ورؤيته  كانت معتدلة جدا، وفي نفس الوقت كان يستطيع النشر في عهد عبد الناصر ويبدو لي ان علاقته كانت جيدة به، كانت علي نمط الباقوري والمعتدلين، تشربت من خالد محمد خالد الكثير من آرائه المعتدلة واتخاذي منه رؤيته المثالية ونهجه المعتدل والجميل للتاريخ الاسلامي مع ان التاريخ الاسلامي كان فيه ما فيه لم يكن الدولة اسلامية فالصراعات كانت موجودة اغتيالات وحروب، لكن خالد محمد خالد كان قادرا علي ان يعطي صورة ذات ملمس ناعم ومثالي.

حـقـبــة المجـلـــة

المجلات المصرية كانت تأتي لمكتبة بوقعيقيص في ميدان سوق الحـدادة…

الفلســفـة.. والكاكـاويـة؟

آخر مراحلي في بنغازي حضرت افتتاح الجامعة هناك، لم تكن لي علاقة بالجامعة مباشرة ولكن كان لأساتذة الجامعة حضور اجتماعي كبير في بنغازي، حضورهم كان لشارع عمر المختار ويمشون الي المقاهي عند الميدان وكان لديهم اصدقاء بين التجار في شارع عمر المختار وسوق الظلام وغيرهم، كانوا يمروا علينا ونحن مذهلين بهذه الشخصيات من اساتذة الجامعة والذي كان لها وقع درامي ايضا بالنسبة لصبيّ في الثانوية، استاذ جامعة كان يعني شيء خارج عن المألوف، كانوا شخصيات وسيمة وانيقة في ملبسها، اذكر من الشخصيات الملفته كان (د. ابو ريده) وعرفت انه دكتور فلسفة، وما لاحظته عليه  في ذلك الوقت ان جيبه ملئ بالفول السوداني(كاكاوية) يأكلها وهو يمشي، لفترة اعتقدت ان الفلاسفة لابد ان يأكلوا الفول السوداني مثله، ولكن الاهم من هذا ان اساتذة الجامعة بدأوا في إلقاء محاضراتهم في النادي المصري بشارع الاستقلال.

الغـربــة، والمـواجــهة بين ثـقافتين

كان جيلي أسير المرحلة العروبة التي جسدها عبد الناصر في تلك المراحل، وبقدر ما فيها من طموح نحو التقدم وبناء دول مستقلة وايضا مقارعة الاستعمار، ولكن مُقارعة الاستعمار. كنت اشعر احيانا بأنها تعبير عن روح الزنافوبيا والتي تعني كُره الاخر أو كـره الـغـريب، والتي موجودة وراسـخـة بالثقافة العربية، ولعـلـنـا ما زلنــا نعاني منـهـا.

عام 1960 رحلت الي بريطانيا في بعثة لدراسة الطب، وكنا حوالي خمسة فقط ممن اوفدوا الي بريطانيا منهم محمد بورقيعه من مدينة درنة توفي رحمه الله منذ سنوات، والمهندس نور الدين كان من درنة واكمل الثانوية في بنغازي واعتقد ان والده كان وكيل وزارة التعليم.

كانت نقلة غير عادية، اولا لان العالم كان بعيدًا من بعضه ولا توجد سبل للاتصال، كان الهاتف موجود ولكن امكانياته ضئيلة، ولذلك كان الانقطاع شبه كلّي عن العائلة في بنغازي.. ولكن ذهبت بروح الاصرار علي الدراسة والنجاح وتحقيق الطموحات، رحلة كان فيها قدر كبير من القلق نتيجة البعد والحياة وسط ثقافة جديدة بالرغم من ان اللغة الإنجليزية لدينا كانت جيده ولكنها محدودة.

في لندن استقبلنا الملحق الثقافي آنذاك الاستاذ احمد بن خيال متقاعد الان مقيم في طرابلس، وكان احمد بن خيال نفسه قد باشر عمله منذ ثلاث او اربع اشهر فقط  وهو شخصية بقدر ما هو دمث وخجول وهادئ جدا، لكن الحاضنة التي وجدناها في بريطانيا سيدة متقدمة بالسن كان اسمها (مس بننـجـتـون) تعمل بالسفارة بقسم المبعوثين وكانت شخصية صارمة اقرب الي ناظرة المدرسة ولكن الاهم من هذا كانت حريصة  جدا علي حالتنا ووضعنا ومتابعة ما يحدث وحل مشاكلنا بقدر مساعدتها لنا من ناحية الاجراءات ربما طرحت عليّ في تلك الفترة  مسألة  نفسية بخصوص ذلك التوجس الكامل الثقافي الموروث المكتسب من ثقافتنا هي الشك في هؤلاء الناس الاغراب الانجليز الكلمات كلها موحية سلبيا عندما تقول انجليز تعني انك تشير ضمنيا الي دولة استعماريه الي غير ذلك، لكن تلك السيدة كانت أول معول هـــدّ هذا الجدار في داخلي، جدار الزنافوبيا وهو كره الاغراب والاجانب والتوجس منهم.

ألحقوني بمعهد تجاري لتعلم اللغة الانجليزية، بقيت به 4-5 اسابيع و لم يعجبني.. شعرت بان الشباب فيه سياح اثرياء، فعلا انتابني الضيق وكنت في تلك الفترة أرغب الدراسة ولم يكن لي وقت لإضاعته.. ايضا السيده العجوز التي اقيم معها في مدينة برايتون  كانت امرأة طيبة وشكوت لها باني غير راضي عن الدراسة بالمعهد التجاري فساعدتني بمراسلتها لكليات حكومية متوسطة حيث كان النظام في ذلك الوقت توجيهي لم يكن يتيح لك الفرصة لدخول الجامعة ببريطانيا، لذا عليك ان تأخذ شهادات اخري كانت تسمي شهادات الثقافة العامة  GCE بمرحلتين العادية والمتقدمة، بالفعل ساعدتني هذه العجوز في الحصول علي فرصة قبول بكلية بمدينة ســلاو جنوب غرب لندن، منطقة فقيرة ومجاورة لقرية اخري اسمها (وندزور) حيث قلعة وندزور التي تُقيم  بها العائلة المالكة كل نهاية اسبوع . لكن الكلية كانت جديدة ضمن حقبة التنمية التي شـهدتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

بقيت في (سلاو) حيث الكلية وبدأت الدراسة واخذت مجموعة من المواد حيث كان الخيار مفتوحـًا، فأخذت 6-7 مواد كان حملا ضخما، ويبدو انني كنت قد خلقت انطباع جيد لدي المدرسين ..لكن مدرس الرياضيات احس بالمشكلة التي اعانيها، حيثُ كنت بمعني انني شاطر او ممتاز بالرياضيات لكن اللغة لم تسعفني احيانا، وغياب اللغة يقطع الكثير من تحصيل المعرفة، أذكر هذا الاستاذ كان طويلا فارعا وأصلعـا، كلمني وقال لي: يا مُفتي انت اذا تحـتـــاج لشرح إضــافي  فتعال الي غرفة المدرسين في فترة الظهر وقت الاستراحة لأشرح لك بعض الامور، تفاجأت بمساعدته بدون مقابل فقط لأنه اشفق علي لان لغتي ليست كافية لفهم الدروس وهذه كانت بالنسبة لي مفاجأة اخري لهـدم ذلك الاحساس بأنك فريسة يريد أن يلتهمك الاستعمار او أن تســتـحـوذ عليك هذه الثقافة العدو بمعنى من المعاني.

كان هـناك ايضا استاذ اللغة الانجليزية، حيث ان دراسة اللغة لم تكن اسيرة الفصل بل يصطحبنا الاستاذ الي الحديقة العامة ويطلب منا كتابة مواضيع انشاء حرة، اذكر في احدى المرات نصحني باستعمال المكتبة ولسبب ما وقع اختياري علي كتاب في النقد الادبي، لم اعرف المؤلف فالاسم لم يكن لديه دلاله عندي، فأخذته الي الاستاذ  فضحك عرف اني لا اعرف أنـه للكاتب الشاعر العالمي (تي اس اليوت) الحائز على جائزة نوبل، وقال لي: هذا معقد وصعب عليك.

المهم خضعت لامتحانات بعد 6 اشهر فقط ونجحت في كل المواد واغلبها بدرجات جيدة المدرسة بالكلية اتصلوا بي واعطوني جائزة، انا لم اكن مُدرك ما يحدث في الحقيقة. ما يهمني وقتها هو أني نجحت بالمواد وقطعت هذه المرحلة، كانت الجائزة مجموعة كتب وكانت كلها ما خفف عني الصدمة الحضارية ولكنها ايضا طرحت اسئلة في نفسي، هذا العمل الخيّر واهتمامهم بطالب من مجموعة طلبة وبدون مقابل، لاشك اننا وسط اهلنا في بنغازي في الثانوية كنا نحظى بالاهتمام من الاساتذة ولكن وقعها بالنفس في بريطانيا كان اكبر نتيجة انني كنت شاب صغير بالسن وبالتأكيد كان هناك قدر كبير من التوتر وعزلة في البداية وكان سببها عدم فهمك ومحدودية قدراتك اللغوية وعدم فهمك للمجتمع وعاداته، هذه العزلة تضخّم فيك حالة الحنين نحو الاسرة والوطن، المهم بنجاحي هذا حصلت علي المستوى العادي لشهادة الثقافة العامة GCE، التي دخلت بها كلية اخري لدراسة المرحلة المتقدمة، وبنفس الكيفية اخذت مجموعة من المواد.

فـخ الحـنيــن الثـقــافي

بالكلية تعرفت علي شباب عرب واجانب ايضا، فالطالب في مرحلته الاولي دائما ينشد الي من هم من ثقافات مشابهه له، اغلب الطلبة العرب الذين يدرسون في بريطانيا في بداية الستينات هم من العراق وتعرفت علي عدد من الشباب العراقي وبالدرجة الاولي علي العروبيين والبعثيين، اذكر منهم صديق انقطعت علاقتي به منذ 40 سنة، فبعد دخولنا للجامعات افترقنا اسمه (فاروق عبد النبي جبر صبير) وآخر اسمه (فاروق شلبي) كان قد وصل الي ان يكون وزير نفط في احد الحكومات الاخيرة عهد صدام حسين، اما الاخر سمعت انه التحق بالمصرف المركزي حيث كان يدرس الاقتصاد والمحاسبة، علاقتي بهؤلاء الشباب لها ميزة حيث قدمتني اكثر للمجتمع البريطاني بحكم انهم اقدم مني. وتدريجيا تجد نفسك تندمج من خلال المقاهي والمراقص.. كانت الامور في تلك الفترة علي درجه عالية من العذرية  والبساطة ولم تكن العلاقات مع الجنس الاخر كما هي الان في اوربا.

اتـحــاد الطلبــة الـعرب

بالنسبة للدراسة ولأنهم يجرون لنا الامتحانات في اكثر من فترة ومن المفترض ان تكون الامتحانات النهائية بعد عامين. انا بعد سنة وثلاثة اشهر دخلت الامتحانات النهائية وفوجئت بان درجاتي ممتازة، عَلي بذلك استطيع بهذا النجاح الدخول الي الجامعة، اذكر صادف تلك الفترة انعقاد اتحاد الطلبة العرب وكنت علي اتصال بهم من خلال اصدقائي، ذهبت لحضور الاجتماع السنوي لاتحاد الطلبة العرب بلندن وكنت قد تعرفت علي سكرتير تنظيم حزب البعث ببريطانيا (عبد العزيز المشهداني) واعتقد انه تم تصفيته في عهد صدام حسين كان هناك الكثير من المسيح والشيعه بأوساط البعثيين، وكانوا هم المهيمنين علي اتحاد الطلبة العرب ولكن هيمنة غير خانقه، هم كانوا يفرحون بكل حس عروبي او وطني من الدول الاخرى وخاصة المغرب العربي، ولم اكن الليبي الوحيد حيث كان هناك المرحوم محمد احنيش من بنغازي وتلك الفترة حضر الاجتماع كرئيس اتحاد الطلبة الليبيين كان هذا عام 1961، وبالاجتماع حدث ترشيح للجنة الادارية لاتحاد الطلبة العرب، انتخب شخص اسمه زهير الشكرجي رئيسا واعتقد انه تم تصفيته هو الاخر ايام صدام حسين، وتم انتخابي كنائب للرئيس ورئيس تحرير المجلة العربية لاتحاد الطلبة العرب ببريطانيا.. حيث كان منها نسخة باللغة الانجليزية فتم انتخاب رياض نجيب الرئيس مسئول عنها، ولان عندي حماس ولم التحق بعد بالكلية عكفت علي المجلة واصدرت تقريبا عددين او ثلاث اعداد بها بعض مقالات الشباب واخري منقولة من مصادر اخري، وكنت اكتب لبعض الفراغات الكلمات والخواطر، فكانت لي هي اول مرحلة في الكتابة و ايضا عمّقت الحس السياسي لدي الحس السياسي بمعني عندما اذهب للندن والي المطبعة وانزل للمقاهي المحيطة فأجد نفس المجموعات الذين اعرفهم فتبدأ النقاشات والحوارات التي لا تنتهي، فاكتب المقالات باسمي، هي فترة ست اشهر وبعدها التحقت بدراستي ولكنها ورطتني من الناحية السياسية.

بـداية العـشـق الطبي

بعد نهاية الصيف التحقت بجامعة ليدز ولحسن الحظ كانت بعيده عن لندن.. التحقت بكلية الطب وكنت فيها العربي الوحيد لم يكن هناك عرب كثيرين وحتى الموجودين كانوا لاهيين بدراستهم واعمالهم، كنت بكلية الطب بمحيط انجليزي محض وحتى الدراسة الطبية بطبيعتها مكثفة، استطيع ان اقول هنا ان اصعب سنتين في الطب هما السنتان الاولي والثانية، انقطعت فيها عن العالم  اقمت بمبنى الداخلي فخم كان حديث البناء وراق جدا، فكان لكل طالب غرفته المستقلة.. كان نظام الداخلي هناك بيوت، كل بيت ملحق به فيلا صغيره يسكنها استاذ بعائلته، وهذا الاستاذ يشرف علي البيت الذي فيه الطلبة الذين قد يتجاوزون 30-40 طالب.. فوجود الاستاذ كان لحل أي مشكلة تصادف الطلبة، وفي الدراسة ايضا يتم تنسيبك مع مشرف اجتماعي، كان يسمع لمشاكلنا التي قد تكون مالية او عاطفية، ونجد في الدراسة أن كل مادة لديك فيها مشرف ملتزم بأربع او خمس طلبة يشرح أي شيء غامض بالنسبة لك، ومن حسن حظنا كان لنا مشرف اسمه ليندن اعتقد أنه باحث في جيولوجيا القلب، كان يناقشنا ويطلب منا الحضور للمعمل حيث يقوم بأبحاثه، كان رجل فيه الدماثة والعلم والدفء، ربما هو من خلق لدي فيما بعد التوجه نحو البحث العلمي، والاهم من كل هذا ان معاملته معنا كانت كزملاء له بالرغم من اننا كنا طلبة في بداية الطريق نجلس معه ان كانت لديه تجربة ما قيد الاجراء يريها لنا، كان يسألنا  ان كان احدنا قد اصاب الجواب كان يضع اصبعه علي اذنه ويطلب منه الاستمرار ويستنطق من افواهنا الاجابة، كانت هذه الروح كانت البداية كنت طالب صغير مازلت علي الدرجات الاولي وهو يملك العلم، هكذا يزرع العلم في النفوس. العلم يناقش وفي نفس الوقت يسمح لك بالخطأ و يترك لك فرصة التفكير، يعلمك كيف تواجه المشكلة العلمية بالأسئلة الصحيحة هذا بالنسبة للجانب العلمي الذي كان لي ذخيرة غير عادية و تطوري في التعامل مع العلم.

اول يوم في الجامعة بكلية الطب كانت محاضرة تقليدية يلقيها اقدم استاذ.. فجئنا استاذ التشريح كان شخصيه كبيرة وشهيرة البروفســور داروود، كان كبير السن، وكان يتعافى من الجلطة اذكر اول ما ابتدأ به قوله: انتم مذ دخلتم الطب وانتم في بداية حياتكم لاكتساب واحده من اقدم المهن بالتاريخ، ثم سكت وقال المهنتين الاخريين هما التجارة والدعارة، كلنا ضحكنا طبعا من كلمته (كانت الدفعه تقريبا 80 طالب) ولكن هذا استاذ مهيب ولديه مؤلفات، كيف يقول ما قال!!؟، ولكن في عقلي طُرح سؤال عن: هذه الروح الجميلة والتي تقول: بما انك دخلت الجامعة اذا انت ناضج ويجب ان تفكر بطريقه ناضجة والانتباه للمفارقات التي تصادفك في الحياة.

عـودة إلى المكـتـبــة

المهم بعد هذه المحاضرة اقتادونا الي المكتبة، كانت امينة المكتبة سيده طويلة اذكرها اخذتنا مجموعات تشرح لنا كيفية استعمال المكتبة، كانت فكرتهم كسر الهيبة والخوف من المكتبة تعلمنا الاقسام، وكيف استخرج الكتاب ثم تم تعزيز ذلك بان يعطيك استاذ المادة كل اسبوع او اسبوعين موضوع تكتب عنه، والموضوع لا تستطيع ان تكتب عنه من خلال كتابك المنهجي بل يقودك الي البحث والدراسة في المجلات العلمية في الموضوع المطروح، وعادة السؤال يكون فقط (ناقش) هذه تفاصيل قد تبدو صغيرة ولكن كانت تعلمك وتوجهك بكلمة ناقش تلزمك البحث لتصل الي اجابة، وتحسنت علاقتي بالمكتبة وفي اوقات الفراغ، بالإضافة الي ان بالمكتبة تدفئة مركزية ومكان جميل، لكن ايضا مع الدفء يأتي النعاس كانت مفارقه، كلما ذهبت للمكتبة للدراسة اشعر فيها بالدفء فأنام ويزيدها ايضا  الصمت المطبق واحتاج الأمر شــهـورا لأتأقلم مع المكتبة!!

المـعـرفــة.. ثـقــافـة

علي أي حال كانت كلية الطب جافة علي المستوي الاجتماعي، فكنت اصعد لاتحاد الطلبة عند مدخل الجامعة، وفي المقهى الي الكافتيريا بدأت اتعرف علي شباب وشابات تعرفت علي جماعه السينما والمسرح وكان فيه مسرح بالجامعة، واصبحت بالنسبة لي نافذة علي عالم اخر غير الطب، كانت هناك فرق مسرحيات  سينما من الجامعة طلبه هواة، واحيانا يأتون فرق من خارج المدينة وكانت بأسعار زهيدة، وكان بعد الفيلم او المسرحيه تعقد ندوة، نقاش حول المسرحية او الفيلم، هذه علمتني الكثير، كانت لي متعة وفي نفس الوقت معرفة وتعرفت علي شخصيات من انماط وافكار جديدة في تلك الفترة بدأت التعرف علي الشباب المبدعين والرسامين من طلبه الفنون الجميلة والنقد الفني ومن هنا تعرفت علي شابة واصبحت فيما بعد زوجتي وام هشام وفتحية هي رسامة وناقدة وشاعرة، لكن كانت قلقة وتثير مشاكل علمية في تلك الفترة من خلال المسرح والقصة القصيرة تعرفت علي اثنين افارقة احدهم كان قصاص للقصة القصيرة لا يحضرني اسمه، والثاني شاب اسمه جيمس نـجـوقي (الآن اسمه واثي يونجــو) من كينيا، ونشأت بيننا صداقة وجزء منها كان هذه العلاقة القلقة مع الثقافة الانجليزية لان السيد جيمس كان يحضر في الدكتوراه ويكتب القصه القصيرة في تلك الفترة واعتقد بدأ كتابة رواية حدثت له مشكلة مع رئيس قسم الادب الانجليزي بالجامعة والذي كان مشرفا علي رسالة الدكتوراة، جاءني وهو يقول هذا رجل استعماري وانا اريد ان اكتب علي الادب الافريقي بلهجة كينيا، فقمنا نحن بتهدئــتـه وان عليك بالصبر حتى تتحصل علي الدكتوارة.. ولكنه لشدة غضبه قطع دراسته وترك الرسالة، وافترقنا ولم نعد نراه، ومـؤخـرا، الشاعر خالد مطاوع اوصل لي عدة رسائل منه، وهو الان استاذ في الادب الافريقي في عدة جامعات ومن بينها جامعة نيويورك.

كانت هذه بداية انفتاحي علي الادب، هذه العلاقات والتجاوب مع المسرح والسينما والنقاشات طوّرت لي اللغة الانجليزية واصبحت مدرك لكل خواصها الدقيقة والدلالات الخفيه احيانا، وايضا احببت اللغة الانجليزية، ومنها انطلقت بنهم الي القراءة في كل ما يقع بيدي واتعلم من الكثيرين ممن رافقت واصبحوا اصدقاء بشكل او اخر، كانت هناك فترات من الانقطاع نتيجة ضغط الدراسة والامتحانات.

نــداء الوطـن.. والشـغـب

سنة 1965 بدأت فكرة انشاء اتحاد طلابي علي مستوي ليبيا في الداخل بعد ان كانت موجودة بالخارج عدة اتحادات في بريطانيا  فرنسا والمانيا وبلجيكا حيث كان الطلبة الليبيين.

وبدأت حركة اتحاد الطلبة في الجامعات بعد احداث 1964 التي كان فيها جمعة الفرجاني وصالح الفرجاني قبر كانا من الشخصيات الفاعلة، جئت من بريطانيا وحضرت اجتماع عقد بجامعة بنغازي والقيت فيها كلمة، ورجعت بعدها الي بريطانيا وجندنا الطلبة الليبيين في الخارج واعدنا تشكيل الاتحاد واللجنة الجديدة، وانتخبتُ انا علي الطلبة الليبيين في بريطانيا وكان السكرتير المهندس محمد شنيب امازيغي الاصل من طرابلس، شاب مازالت علاقتي به وطيدة الي الان وشخصية طيبة كان يدرس الهندسة الكيماوية واحد مؤسسي البريقة حيث بعد تخرجه اشتغل بها.

اذكر عندما صار الاتحاد و دعينا الي الاضراب والاعتصام في السفارة جاء الي هناك و لكنه لم يكن علي معرفه بأحد كان يشعر بأن الاخرين ينظرون اليه وكأنه مخابرات، بالصدفة كنت انا اكثر من اهتم به، لم ينسى لي هذا الموقف ويذكر بان المفتي هو الوحيد الذي وثق بي وقتها.

كان عدد الطلبة الليبيين ببريطانيا قد وصل الي 60 طالباً تقريبا، ولكن من شارك في الاعتصام حوالي 35 طالب، ودخلنا السفارة احتجاجا علي اعتقال قادة اتحاد الطلبة بليبيا، منهم من اعتقلوا ومنهم من هربوا، واعلنا الاعتصام بالسفارة بصراحة كان موظفو السفارة علي درجة من الاحراج والتعاطف معنا، استمر الاعتصام حوالي 3-4 ايام كانوا خلالها يقدمون لنا الوجبات وحتى السجائر، وقمنا حتى بالإضراب عن الطعام بعد ذلك اتصلوا بالشرطة الانجليزية التي وصلت وانذرتنا علي الطريقة الانجليزية وطلبت منا الخروج فرفضنا، نقلونا من داخل السفارة كل شخص حُمل بشرطيين، اخرجونا الي الرصيف امام السفارة، كانت السفارة قريبة من المتحف الهندي البريطاني، بعد ان اخرجونا اخبرونا بعدم الجلوس علي الرصيف فرفضنا، حملونا في سيارات الشرطة الي مركز الشرطة، نحن كنا ندّعي بأننا بلا هوية بعد ان اخرجتمونا من السفارة الليبية، حكمت علينا الشرطة الانجليزية  بغرامة اعتقد خمسون درهم لكل منا ورفضنا الدفع، قمت بالاتصال برئيس اتحاد الطلبة البريطاني كان صديقي، اوضحت له الامر فدفعها اتحاد الطلبة البريطاني، خرجنا ولم نعد نعرف ماذا نعمل رجعنا وكنا علي اتصال ببعضنا واخرجنا بيانات واصدرنا منشور من حوالي عشر صفحات مازلت احتفظ بنسخة منه، في تلك الفترة وهنا وضعت علامة استفهام حيث جاءت الصحافة ولاني رئيس الاتحاد حظيت بأكثر اهتمام، اذكر نشرت لي جريدة التايمز والاهرام في احدي التصريحات التي قلتها: (وكانت الحكومة الليبية آنذاك حكومة حسين ماز) ان الحكومة الليبية مشرفة علي الانهيار وستسقط خلال ايام كانت توقعات و لم يكن لها اصل من الصحة كانت من باب التهيج الطلابي، اعتصامنا ببريطانيا نال اهتمام اكبر من الصحافة من الاعتصامات في فرنسا والمانيا وبلجيكا بالرغم من انهم اقاموا المظاهرات واصدروا البيانات وعلي ما اعتقد ان الطلبة في فرنسا اعتصموا مع طلبة بلجيكا اما المانيا كان فيها عدد ضئيل من الطلبة، بعدها رجعنا الي دراستنا وافرج علي الطلبة في الداخل.

خـديـعـة  الـعـروبــة

عام 1967 كانت هزيمة الخامس من يونيو (النكسة) اذكر انني شاهدتها بجهاز التلفزيون، وبالتالي كان وقعها اعمق وابشع  وهزّني بشكل غير عادي، كانت اشاهد الجنود المصريين يهرولون هاربين في سيناء، واشاهد طائراتهم المضروبة في مطاراتها غرب القاهرة، وفي نفس الوقت اسمع التصريحات المصرية الرسمية الكاذبة طبعا واذاعة صوت العرب، كنا نشاهدها ببريطانيا علي الحقيقة كانت هزة وحالة احساس (بالقرف).

انقطعت عن النشاط الطلابي العربي وازددت التصاقا بالوسط الجامعي الانجليزي، وكان المتنفس الوحيد هو الاشتراك في مظاهرات منددة بالتفريق العنصري بجنوب افريقيا وبحرب فيتنام، وكانت الحركة الطلابية البريطانية نشطة والمظاهرات في كل المدن البريطانية، كانت شبه اسبوعية او شهرية وطبعا باشتراكك في هذه المظاهرات  تلتقي بكثيرين اكثر منك وعياً وقدرات، تحضر ندوات وكلمات وخطب كل هذه ليست فقط مصادر للتوعية بل لتنمية مهاراتك اللغوية وفهمك للثقافة التي اصبحت لي ثقافتي الثانية الثقافة الانجليزية، فهي ليست مجرد لغة، انما لغة بآدابها وفنونها وقيمها وتغوص في هذه الثقافة وتجد نفسك بشكل او بأخر تكتسب منها.

الـعــودة إلى الـوطـن

هذه المرحلة انتهت عام  1968 وذلك بتخرجي من الجامعة، واشتغلت فترة ورجعت الي ليبيا عام 1969 قبل الانقلاب، بالرغم من كل ما فات كانت لدي رغبة واصرار في العودة الي ليبيا اعيش بها واقدم شيئا لبلدي اتذكر انني تقدمت لوظيفة طبية ببريطانيا فقالوا لي ان هذه الوظيفة لا تمنح إلا لمن يحمل الجنسية الانجليزية علي اساس انك ستتدرج بها لسنوات، وكان عندي هذا الخيار بحكم ان زوجتي انجليزية وكانت الامور مُتاحة وببساطة، ورفضت الجنسية لأنني لا اريد البقاء ببريطانيا.

العودة المحزنة إلى بنغازي

رجعت الي ليبيا صيف عام 1969 قبل الانقلاب، كل المناخ كان يتحدث عن رحلة الملك الي تركيا وقراره بعدم العودة الي ليبيا، ربما كانت اشاعة، لكنهُ كان زاهداً في الحكم والناس تترقب وتتوقع حدوث شئ، العهد الملكي بالتأكيد لم يكن بالبطش وبشراسة التي اظهرها نظام معمر القذافي ولم يكن بذلك الفساد و التسيب الذي موجود الان للأسف، لكن في نفس الوقت كان هناك سخط عام موجود ربما له عدة مُسببات احداها كراهية الاستعمار، والمناخ العام السائد بالمنطقة العربية كان مُتململ وكانت هناك نكسة 1967، وما رافقتها من احساس بالمهانة وبالتالي ضرورة الرد عليها، لا شك كان هناك بعض الفساد المالي، وكانت في ذاكرة الناس احداث 1964 ومقتل اربع طلبة بالمدرسة الثانوية، وكانت هناك بعض الحركات السياسية التي اعتقل فيها 106 من نشطاء حركة القوميين العرب و بعض النقابيين في قطاع النفط بالذات خصوصا محمود المغربي الذي تولى فيما بعد رئاسة الوزراء بعد الانقلاب.. وعز الدين الغدامسي وآخرين، في عام 1968 ايضا حدثت عدة اشياء احداها عرس الشلحي.. كان باذخاً في منطقة البيضاء، وأثار به حفيظة الناس امام هذه الخلفية من المشاعر السياسية التي تكلمنا عنها.

السلطة كانت سائبة في الشارع

في عام 1969 ايضا كان هناك ما يسمى بإعادة تنظيم الجيش، وكان رئيس اللجنة والمسؤول عنها عبد العزيز الشلحي، حيث كان عملياً كأحد ابناء الملك نفسه، وكان يعاون عبدالعزيز الشلحي صهره (عون شقيفه رحومه) هو عسكري، وقائد رئيس الاركان – وهو احد افراد العائلة السنوسيه – السنوسي  شمس الدين وهو كذلك نسيب آل الشلحي، فكان هناك فكره بأذهان الناس ان آل الشلحي يدبرون انقلاب و الاستيلاء علي السلطة، هناك عامل أخير وهو ان حكومة عبد الحميد البكوش قامت بتوقيع عقد الدفاع الجوي مع بريطانيا في شراء منظومة دفاع جوي، وللأسف البكوش برّرها وربما كان محق الي حد ما  بأن الخطر علي ليبيا هو من جيرانها و كان يقصد هنا مصر والجزائر بالدرجة الاولي، في حين ان الشارع الليبي كان يرى ان الاعداء هم اوربا او الغرب بشكل عام، بعد حكومة البكوش جاءت حكومة ونيس القذافي كان رجلا طيبا و ادارياً ممتازاً عفيفاً  – حسب ما حكى عنه معارفه – و لكنه لم يكن سياسياً، في صيف عام 1969 تراكمت كل هذه العوامل وكان من الواضح عجز الحكومة عن تفسير ما كل يحدث او تفعل، الملك خرج ولم يشاور احد، ولم يقم حتي بتسليم السلطة لولي العهد، حسب ما عرفت من احد المسؤولين في ذلك العهد قال لي مرة السلطة كانت سائبة في الشارع تنتظر من يلتقطها، كنت وقتها في بنغازي في منطقة (السكابلي) حيث كانت عمارة لوالدي ولم اكن اعمل في ذلك الوقت فقط كان جو الاسرة من جانب وكنت التقي مع الاصدقاء والمسيسين والنشطاء في ذلك الوقت اذكر الان منهم رمضان بوخيط، محمد حمّي، وكنا نحكي علي وضع الحكومة في غياب الملك، وكانت الناس تتوقع انقلاب ما، في ذلك الوقت كان التركيز علي مجموعة ضباط كانوا يسمونهم مجموعة الرواد او مجموعة العراق وهؤلاء الناس وطنيين وعروبيين، ويبدو ان هناك اخبار تتسرب عن نيتهم في القيام بانقلاب  فالانقلاب الاخر المُرشح من قبل الشلحي.

في هذه الاجواء كانت صبيحة اليوم الاول من سبتمبر، واعتقد كان يوم الاثنين تحركت القوات المسلحة والقى القذافي الذي لم يكن يعرفه احد، القى بيانه الاول، وبعد ثلاثة ايام بدأت الناس تخرج للشارع  وبأعداد مهولة والمظاهرات التلقائية مرحبة ومهللة بالانقلاب.

كنت اخرج ولكنني لم اشارك في المظاهرات، في اليوم الرابع ذهبت للإذاعة، وبالإذاعة احتشد الناس، التقيت بالمرحوم عمر دبوب الذي كان من جماعة القوميين العرب، فسألته من الذي قام بالانقلاب، فأجابني (عيالنا، وقائد الانقلاب اسمه عمر! عموره!) لم يكن يعرف اسمه. في اليوم الخامس جاءني المرحوم محمد بن سعود – وهذه مفارقة غريبة – وقال لي ان قادة الثورة يريدونك بالإذاعة، فأجلت الزيارة ليوم الاخر بالرغم من ان الفضول كان يملؤني لمعرفة ماذا يحدث؟ وأريد ان أعرف الناس الذين قاموا بالانقلاب.

ذهبت الي الاذاعة حيث شارع (ادريان بيلت) ما يُسمي الان عبدالمنعم رياض، وكانت الاذاعة مُغلقة، وكانت هناك حالة من الارتباك، وألية مُدرعة امام الاذاعة والحرس، كان هناك استعداد لوصول محمد حسنين هيكل، فرجعت الي البيت ولم ارى احد.

ربما بعد عشرة أيام او بعد يوم السادس عشر – الذي كان يوم الخطاب – يبدو حدثت اتصالات مع بعض النشطاء والمهتمين السياسيين قررنا ان نجرى اجتماع ونقدم مذكرة  نطرح فيها المطالب الشعبية، وكان بالقرب من بيتنا بمنطقة السكابلي المجاور لإدارة الزراعة  المطلة علي الميدان، كانت لدينا شقة شاغرة بالدور الارضي، فعندما بحثوا علي مكان الاجتماع فقلت لهم مكانكم عندي، وبالفعل اجتمعنا في الشقة بعمارة والدي حضر الاجتماع (محمد حمّي –  مفتاح شرمدو – مصطفي الشيباني – فريد اشرف – رحمة الله عليهم جميعا.. وايضا عدد من النشطاء وكذلك رمضان بوخيط وايضا بن سعود كان موجود)، وعمر دبوب كانت تربطني به علاقة من الطفولة عندما كان من سكان شارع القزير وكنت انا في شارع قصر حمد، فكنا قد تعارفنا منذ الصغر، ولم يكن يستعمل لقب دبوب بل كان يستعمل لقب الجفيري كنت اعرفه (عمر الجفيري) واكتشفت فيما بعد ان عائلة دبوب من سهل جفارة، قمنا بكتابة مذكرة بشكل ديمقراطي وبمطالب الاصلاح وهكذا، سلّمت المذكرة ولا اعرف من سلمها. واذكر ان هناك من اصابه الزعل من طريقة التوصيل حيث يبدو ان احدهم اخذ نسخة وسلمها بطريقة سريعة.

الاطباء الليبيون يقتسمون المناصب

بعدها القى القذافي خطابه بميدان ضريح عمر المختار يوم السادس عشر وخرج للناس، واستمرت الامور وبدأت الحياة تعود لمجاريها.. اذكر ان الاطباء الليبيين اجتمعوا بمنطقة بنغازي بإدارة مستشفى الجمهورية الآن واعتقد كانا  12- 14 طبيب وكانت الرؤية علي الاطباء تولي ادارة المستشفيات وهذا عصر شبابي وثوري الخ وبالفعل تقاسموا هذه المناصب الموجودة، ولم يكن هناك تصعيد ولا انتخابات.. فقط كل واحد يقوم بترشيح نفسه لتولي ادارة ما.. اذكر كان الدكتور عوض بودجاجة تولي مدير ادارة الصحة في بنغازي وكان هناك طبيبان لآل بوقعيقيص اعتقد عبدالله و عبدالقادر، عبد القادر بوقعيقيص كان اخصائي نساء وتوليد فتولي ادارة مستشفي الجمهورية، الدكتور رافع التاجوري تولي ادارة مستشفي الاطفال ..واذكر من الحاضرين عاشور جبريل، كنت انا اصغرهم واحدثهم. ولذا تم الاتفاق علي ذهابي الي مدينة البيضاء، لان في البيضاء كانت الادارة لمفتاح الاسطي عمر الذي اصبح وزيراً للصحة في العهد بعد الثورة. حيث كانت علاقته وطيدة بموسى احمد وجماعة البيضاء وشحات، وبالفعل ذهبت الي البيضاء، وكان لدينا بالفعل حماس حقيقي للإصلاح وعن نفسي لم اكن انظر اليها بمنظور سياسي، لم تكن العائلة موافقة علي ذلك،  حيث كنت في بريطانيا لمدة 9 سنوات ورجعت فوق هذا متزوج بانجليزية و لدي ابن، وفجأة يطلب مني الذهاب الي البيضاء فكانت الاسرة تتوقع منّي البقاء معهم اكثر. لم يكن لدي عذر للرفض فوالدي كانت صحته جيدة، وبالفعل قمنا بتكوين فريق هناك للعمل في ادارة الصحة والمستشفى وبدأنا في حملة من الاصلاحات علي صعيد الصحة قمنا بعمل ممتاز ولا يزال يذكره اهل البيضاء ليومنا هذا ..من الاشياء التي اذكر قمنا بها فتح عيادات اسرية علي غرار العيادات المجمعة الآن.. في ذلك الوقت لم يفكر احد القيام بها، انشأنا اربع عيادات في البيضاء.. سميت بعيادة الاسرة رقم1، رقم 2،  رقم3، رقم 4، وقمنا ايضا بفتح مدرسة لتأهيل الممرضات و مساعدات الممرضات من حملة الشهادة الاعدادية، وقمنا بتخريج دفعة في فترة تواجدي هناك، وكنت اقوم بتدريسهم بنات وشباب ومنهم الان من تولي مناصب رئيسية في مستشفي البيضاء نفسه وحتي خارج المستشفي.

كان يشدني شغف من خلال قراءتي ببريطانيا لمنطقة الجبل الاخضر بالذات، حيث كنت حريصاً اثناء وجودي في الخارج ان اتلقف أي كتاب عن ليبيا بل وأي رسالة دكتوراة كتبت وكان بالإمكان قراءة هذه الرسائل عن طريق مكتبة الجامعة بليز، حيث يمكنك طلب أي رسائل من الجامعات ويحضرون لك النسخ الاصلية للقراءة داخل المكتبة فقط ولا يمكنك الخروج بها ولكن تتاح لك فرصة قراءتها.. وهم من يقومون بهذه الخدمة.

رسالتي الى مصطفي بعيو

ومن خلال قراءاتي، قرأت لشخصين مهمين أحدهم هم بتشارد  هذا الكاتب راسلته وعرضت عليه ترجمة كتابه (سنوسيو برقة) فوافق، عليه بعثت برسالة طويلة من صفحتين للأستاذ مصطفي بعيو وزير التعليم وطرحت عليه ترجمة الكتاب، لم يرد عليّ، مؤخرا منذ ثلاث سنوات تقريبا الاستاذ ابريك العوكلي احد الاداريين القدامة منذ العهد الملكي كان محتفظ بالرسالة وتحصلت علي نسخة منها، كان كتاب (سنوسيو برقة) يحكي عن النظام الاجتماعي القبلي  بشكل عام فالكاتب انفيدز بيتشارد عالم مهم في الانثربولوجيا حتي قبل كتابته لهذا الكتاب، حيث كان شغله الاساسي علي جنوب السودان وله شهرة عالمية  وبعد الحرب العالمية الثانية أُلحق بالجيش لبريطاني الثامن الذي حرر ليبيا وكان مستشار في قسم المعلومات علي اساس خبرته في التعامل مع المجتمعات القبلية.

الكاتب الآخر الذي تعرفت عليه معرفة شخصية  وكان تلميذ الاول اسمه  امريس بيتر لا اذكر كيف تعرفت به، ولكن لعله لقاء في احدي محاضراته العامة، حيث كان رئيس قسم الانثربولوجيا في جامعة مانشستر، لما تعرفت عليه كان يطلب منّي ترجمة بعض المفردات الليبية، (امريس بيتر) درس وعاش في ليبيا في جنوب الجبل الاخضر سنة 1951، وكانت دراسته عن الثأر لدى قبائل برقة، كان شخصية لطيفة جاء مع زوجته و كانت تسمي (نجمه) بمنطقة الجبل. وكنت من خلال هذه القراءات وقراءات اخرى اطلع علي كل جديد وقديم كتب عن ليبيا، كانت هناك عدة رسائل دكتوراة تُحضر بجامعة نيوكاسيل، واعتقد ان جامعة نيوكاسيل قاموا بمشروع لدراسة جغرافية ليبيا، حيث قام مجموعة من الليبيين بدراسات منهم اذكر الدكتور الهادي بولقمة، وآخر اسمه الخوجه، كانوا مجموعة من خريجي قسم الجغرافيا في بنغازي حوالي خمس او ست اشخاص وكل منهم اخذ قطاع لدراسة الجغرافيه الليبية كنوع من التحديث للمعلومات الجغرافية الموجودة.

غرام الجيل الأخضر

عندما جئت للجبل الاخضر كنت مغرما به، واصبحت لدي سيارة لاندروفر وسائق لها ايضا، لم يكن هناك من طرق، فقط طريقين (الطريق الفوقيه-والطريق اللوطيه) وهما موازيتان للبحر، كنت ومن معي نقوم بزيارات للقرى، والقرى التي ينقصها شئ ندعمها بالمعدات الطبية وممرض جيد، اتذكر  منطقة (لا اذكر اسمها الآن)  ولم يكن لديهم أي شئ فكلفنا قسم الصيانة بالمستشفي ببناء (ثلاث براريك) واحده تكون مستوصف، واخري مدرسة حيث اتصلت بالتعليم فعينوا مدرس وممرض يسكُنان في البراكة الثالثة. ومن الاداريين حينها سليمان الغماري وصالح الكليلي كان شؤون المحفوظات وآخر عسكري سابق رحمه الله اسمه سالم غيث الفرجاني مسؤول قسم الصيانة وآخر اسمه بالحسن الحبوني وهو ايضا عسكري سابق و كان مسؤول المواصلات وامراجع الفرجاني مسؤول عن المخازن.. وصالح بوفجيخه المسماري مسؤول عن مخزن الادوية، حيث كنت اعمل في مستشفي البيضاء ورفعنا من مستوى الخدمات واصبح المرضى يأتون الينا من طبرق و درنه لان اداء الخدمات فيه كان عاليا.. وحتي وزارة الصحة كانت تدعمنا وقتها وتلبي مطالبنا.

تعرفت في البيضاء علي ناس كثيرين، منهم جاري خليفه عبد القادر اعتقد كان مسؤولا عن الضمان الاجتماعي وهو متقاعد و كان احد الرجال الذين صوّتوا ضد المعاهده البريطانية عام 1953 كان رجل فاضل حيث كان عضو في مجلس النواب، كنت وقتها نشط جدا في تقديم المساعدات علي مستحقيها من بينها حدوث اضرابات طلابية فتعاطفت معهم.. احد الاضرابات ساندناهم بتلبية مطلبهم في مساعدة جماعة الصحة، كان هناك اضراب حدث في المبنى الداخلي للابتدائي والاعدادي  لقرية عمر المختار وكانت ظروفهم المعيشية صعبة، اذكر اننا احضرنا لهم وجبات وسلع غذائية بكميات كبيرة من مخزن المستشفي وأسرّة واغطية ونقلت هذه الصورة للقذافي ضدي بحيث اني اقوم بحملة تسييسيه لتحريك منطقة الجبل!! وزاد هذا بعد ان قاموا بتكوين لجان  توعية في كل محافظة تقريبا عشرة اشخاص يقومون بالقاء المحاضرات والندوات، كانت في راي القذافي تهيئة لتكوين الاتحاد الاشتراكي علي نمط عبد الناصر وما حدث في مصر، شكلت لجنة التوعية بالبيضاء و كان رئيس كل لجنة شخص من اعضاء مجلس قيادة الثورة فكان رئيسها بالبيضاء عمر المحيشي و كنا من بين الاعضاء أنا وعبد العاطي خنفر وعبدالله بوسلوم ولا اذكر البقية، المهم كانت لجنة التوعية تهيئ لانتخابات او شئ من هذا القبيل، اذكر عمر المحيشي قال انتخبوا الذي ترغبونه.. فكانت هذه القشة التي قسمت ظهر البعير احتجيت علي هذا الكلام ورفضته وذلك علي ان الانتخابات ستكون مزوره في تلك الفترة.

انتم ايها العسكريون عليكم بالرجوع الي ثكناتكم

كان القذافي يتجول في كل ليبيا و هذا نوع من قدراته التي استطاع بها خلق نوع من الشعبية وتكسبه كاريزما، كان واضحا، أنه يهيئ نفسه للانفراد بالسلطة، فكانت له عدة محطات في البيضاء حيث توجد بالبيضاء عدة معسكرات منها معسكر قرناده كان يزوره مرارا  ثلاث الي اربع مرات، ثم استدعاني بعد العشاء تقريبا للحوار ويبدو كانت لديه صورة سابقة عنّي ربما بحكم وجودي باتحاد الطلبة او ببرنامجي بالجبل الاخضر او بالمقال الذي كتبته عن العهد الملكي والثورة هذا المقال بعثته لمجلة الطليعة البيروتية و المجلة لم تنشره وكان الموضوع قبل الثورة و انزعجت من عدم نشرهم للمقال لانه كان اشبه بخارطة طريق وكيف تتم ثورة بليبيا. انزعجت منه لانه يمكن ان يفسّر علي النظام الجديد لمعمر القذافي والمفارقة فهمتها فيما بعد عند زيارتي لبيروت وذهبت لدار الطليعة للومهم وقابلت د. صادق جلال العظم كان رئيس تحرير المجلة والمجلة كانت تقدّميه وتابعة لحزب البعث اكثر من أي شئ آخر.. فقال لي بحثنا عن شئ يخص ليبيا فلم نجد إلا مقالك فنشرناه و كان توقيت نشره بعد الثورة  فقلت لرئيس الطليعة والذي لا يحضرني اسمه الان لما لم تنشره قبل الثورة فقال لم تستطيع دار الطليعة نشره لأنها كانت مرتبطة مع حكومة العهد الملكي بعقد طباعة كتب مدرسية ولا يريدون ازعاج المملكة بذلك.

المهم جلست مع القذافي وكل كلامي معه كان عن الاصلاح والديمقراطية لدرجة انني قلت له انتم ايها العسكريون عليكم بالرجوع الي ثكناتكم او لتخلعوا بدلكم العسكرية وتدخلون السياسة والانتخابات، الملفت انه كان هادئ جدا ولا يجادل كثيرا فقط يسأل، وكانت الكلمة المكررة دائما (زين.. زين) هو بالتأكيد شكّل انطباعه وسارت الامور، ضمن نشاط جماعة  التوعية قمت انا بإلقاء محاضرتين واحدة بالبيضاء بمبنى مجلس النواب وأخرى بشحات كانت مفتوحة بتحضير نادي شحات الرياضى، محاضرة البيضاء كانت علي ضرورة الاصلاح والنظام الخدمي والتنمية، اما محاضرة شحات كان عنوانها فيما اظن (الثورة واجهزة الدولة) وكانت بصراحة غاضبة ونقد حاد للتطورات التي بدأت تحدث، النقطة المحورية والتي استفزتني في تلك الفترة والتي تناولتها بالمحاضرة ان القذافي القى خطاب بالزاوية وتكلم عن المخابرات والمباحث وقال اننا غيرنا اسم المباحث الي الأمن الداخلي خرجت منّي وفي خضم الحديث بشئ من السخرية بان الثورة انتهت بتغييرالمسميات؟؟ حققت معي المباحث في تلك الفترة وضقت ذرعا ورأيت بان لا ادخل في أي صدام وعليا ان ارحل، كان ذلك في منتصف عام 1971.

استقالة ثم عودة ميمونة إلى بريطانيا

قدمت استقالتي وأعطاني  الاستاذ مفتاح الاسطى عمر بعثة ورجعت الي بريطانيا وعلي الفور دخلت لامتحانات الزمالة الجراحة ونجحت بالرغم عدم توقعي منه، وهذا اعطاني الفرصة في ان اقدم علي عمل في الجراحة، كنت اعمل في ليدز مع اساتذتي.. وبعد طلبي للعمل عرضوا عليا العمل في قسم جراحة القلب وبالفعل عُينت كزميل للأبحاث في قسم جراحة القلب، وعملت مع دكتور كبير اسمه (ماريو ليونسكو) روماني الاصل وهو هارب من رومانيا، كان باحث مهم بالعالم وريادي بجراحة الصمامات، عملت معهم ويبدو ان أمزجتنا التقت وبالدرجة الاولي القدرة علي العمل في ذلك الوقت فسبحان الله كان يعمل يوميا حوالي 16ساعة يوميا وكنت معه أيضا، وكانت له سمعته في العالم في ذلك الوقت حيث كانت جراحة القلب ذلك الوقت في طور التطوير، ولم تنضج بالكامل حيث كان كل اسبوع وكل شهر تكتشف اضافات جديده.. ودخلت في ذلك الجو واذكر انني نشرت بحثين بمشاركة رئيس القسم وآخرين معنا في جراحة الصمامات.. في تلك الفترة  لم اكن نشط سياسيا ولكنني كنت انتقد النظام وكنت التقي بليبيين. ويبدو ان انتقاداتي وصلت بشكل او بآخر الي القذافي.

وفي مارس عام 1973 عقد مؤتمر لجراحة صمامات القلب باسبانيا بمدريد، ورشحني القسم بان اكون احد الثلاث الذاهبين الي المؤتمر، حضرت المؤتمر وكان الضيوف من كبار جراحين القلب في العالم، وكانت في حد ذاتها، وكان من الشئ الجميل ان تلتقي بالرواد الاوائل الحقيقيين  لان جراحة القلب بدأت في 1953 تقريبا، احدهم (مايكل ديبيكي) واسمه الحقيقي (ميكائيل دبغي) ارمني لبناني الاصل، وكان المدشّن لجراحة القلب الفعليه عند البشر باختراع جهاز القلب الصناعي اثناء العملية، حيث اثناء العملية ستوقف قلب المريض لتستبدله بالقلب الصناعي وبمنظومة آلات لضخ الدم ولعملية تبادل الغازات والاكسجين..الخ، وكان هناك طبيب امريكي لا يحضرني اسمه شخصية مهمة ورائد في جراحة القلب عند الاطفال علي مستوى عالمي فأذكر ان رئيس القسم قدّمني له باني كنت اعمل معه، كانوا هم اصدقاء ورواد لا يتجاوز عددهم الثمانية، وعندما قدمني له قال له سأبعث لك هذا الشاب ليبقى معك فترة قد تكون سنة للتعلم.. لان القسم الذي كنت اعمل به لا يوجد به قسم لجراحة القلب عند الاطفال وانتهت القصة علي هذا النحو.

ثم عودة الى ليبيا فالسجن

عدنا بعدها الي ليدز ورجعنا الي العمل، في خلال يومين او ثلاثة جاءتني برقية من الدكتور مفتاح الاسطى عمر بأنهم يريدون تشكيل لجنة لتأسيس مستشفى القلب ويريد منّي الحضور ..و بالفعل حضرت لاني كنت متشوق لخدمة بلادي و فكرت في تدريب الفنيين والممرضين لان عملهم مهم جدا ولن يكونوا علي مستوى التمريض العادي و فنيين التخدير، وجئت الي ليبيا في بداية ابريل تقريبا و يبدو ان الاجواء كانت متوترة في ذلك الوقت.. وحضرت اجتماع اللجنة وكان رئيسها ذلك الوقت الدكتور خليل بورشان وكان جراحا في مستشفى طرابلس والدكتور خالد الادريسي المغربي الاصل وكان قد حضّر دراساته العليا في بريطانيا، ودكتور ثالث فلسطيني لا اذكر اسمه.. عقدنا اكثر من اجتماع وذهبت بعدها الي بنغازي لرؤية اهلي وبعدها ارجع لعملي ببريطانيا، وكان قد انتقل اهلي للسكن في حي الفويهات بشارع دبي، كان شارع مُترب، الي ان جاءني عبدالله ابراهيم واعتقد انه ضابط من المباحث وقال انه يريدني لمدة خمس دقائق وكانت هي لحظة الاعتقال واعتقد يوم 17 ابريل، وسمعت بعدها ان الدكتور خليل بورشان هاجر لأمريكا و استقر بها وعمل بجراحة الاوعية الدموية الي ان توفي من سنتين او ثلاث تقريبا.. وبدأت حياة السجن والتي لا اريد ان اتكلم عليها لاني كتبتها بالتفاصيل بكتابي (وراء جدار السنين).

كان القرين عبد العاطي خنفر

لم اكن لوحدي، عبد العاطي خنفر انا متأكد منه وكان قريب منّي وآخرين، هذا كتبته في كتابي وراء جدار السنين عن تجربة السجن و كان فيه عنوان من فصل (قصة جماعة البيضاء) كل ما حدث بعد المحاضرتين التي القيتهما و كان يدور بعدها الجدل والنقاشات في اوساط المثقفين، هناك كثير من الاسماء تهرب مني الان فقد فات علي هذه الاحداث الاربعون عام. وحدث فيها ما حدث خلال هذه العقود الاربعة، فجزء من الاتصالات والعلاقات مثل (المبروك الزول) اعتقد اني التقيت به مرة او اثنين في نقاشات وكان متحمس لتكوين حزب وقد استشارني في ذلك.. وحزب يساري في اعتقاده فقلت له تكوّنه بعد ثلاثين سنة وليس الان.. كان شاب صغير السن وياتي الي الاوساط التي كنت اتحرك فيها ولكنه كان يعمل بنفسه.. كان رجل صادق ولكنه رومانسي الي حد كبير وربما متهور وكان علي علاقة ببعض الشباب منهم محمد بوسريره، فرج صالح، المبروك المصطاري، ومجموعة درنة أيضا، فكانوا مجموعة من الشباب الصغار وهناك فارق عمري بيننا، وللأسف المبروك الزول وقع في مطب بعد ان استطاعت المباحث ان تزرع احد الاشخاص للعمل معه اسمه الشريف وتوفي فيما بعد بسوريا، وأتذكر عند مواجهة المبروك بالتحقيقات امام حسن بن يونس قال ان المفتي هو رئيس الحزب، كان ردّي عليه (هل التقيت بك؟) فتفاجأ هو وقال (لا لم ارك في حياتي)، انا اعتقد ان اعتقالي كان لسبب شخصي و خاص بمعمر القذافي، وقد صرّح القذافي لأحد الاشخاص بأنه كان يريدني للعمل معه و لكن المفتي خذلني او شيئا من هذا المعنى.

ثأر القذافي من الحاسة

وكذلك لا تنسى (مجموعة الحاسه) فعندما اعتقلنا في البداية كان من البيضاء حوالي 60 شخص منهم حوالي 40 من قبيلة الحاسي مدرسين من قرناده، الفايدية، شحات وهؤلاء اعتقد زجّ بهم كامتداد لمحاولة القذافي للسيطرة علي منطقة شحات التي منها عبد الونيس محمود وحمد الحاسي، احمد آدم، موسي احمد.. موسي احمد الذي كان من المعتقلين في نوفمبر 1969 أي بعد ثلاثة اشهر من الانقلاب وطبعا اعتقالهم سبب الكثير من التذمر في منطقة شحات وقبيلة الحاسة بالذات.. حيث انهم كانوا من الاشخاص الانقياء الابطال المحبوبين في ذلك الوقت، والقذافي بحكم انه مصاب (ببارانويا لا للنقاش) كانت لديه عقدة المطاردة والخوف، فكان الشك في هذه المجموعة في تشكيل حزب شيوعي مع العلم ان اغلبهم علي تعليم عالي ومن المصليين اذكر من الاشخاص عبدالجليل زاهي وانا اعرف ان هذا الشخص ليس له أي علاقة باي عمل سياسي ولكنه شخصية مهمة والمسؤول العسكري في حركة القوميين العرب والذين سجنوا عام 1967 وهو ايضا سجن، اما عمر المختار عرفت مشكلته في وجود خصومة شخصية مع احد ضباط المباحث في المنطقة كانت هذه وعدة عوامل أخرى. ولم يكن لها اساس بدليل عندما تم تقديمنا الي محكمة الشعب عام 1976 او 1977 تم تغيير تهمتي من قبل حسن بن يونس من قبل الادعاء حيث تم تحويلها من تأسيس حزب الي تهريب كتب ممنوعة! لوجود مجموعة من الكتب عندي كنت قد اشتريتها شخصيا من بيروت وحكم علّي بأربع سنوات وكنت قد انتهيت منها، وهنا تدخل عامل القذافي فعندما تم عرض الاحكام عليه رمى الورقة وضحك وقال لهم انتم مخبولون هؤلاء يتحولون الي مؤبد واعدام!!، والذي كان حاضرا لهذه الواقعة المرحوم محمد جابر من القادة الوطنيين في الاربعينات في اجدابيا وعم ابوبكر يونس، ورجل من اعضاء جمعية عمر المختار وكان من اصحاب والدي وهو من حكى له ذلك، فكان القذافي ينوى التخلص من بعض الاشخاص الذين تنتابه الشكوك في عدم ولائهم له أو أنهم ضده، وربما لهم القدرة علي إيذائه او التمرد عليه، وهذا ما حدث مع الكثيرين كالذين قتلوا في الخارج مثل المرحوم (محمد مصطفى رمضان) لم يشكلوا خطرا عليه و لكن ظروف تشكلت بحيث ترتفع هواجسه وبالتالي ينقض عليهم و يقتلهم.

عز الدين الغدامسي شخصية وطنية غير عادية

عز الدين الغدامسي وهو من القادة النقابيين ومن قادة حركة القوميين العرب ومن قادة العمال الليبيين وكان يتبع القطاع النفطي، هو شخصية وطنية وغير عادية علي المستوى العملي كقائد نقابي حرّك كل قطاع النفط عام 1967، عينه القذافي من باب الابعاد، سفير ليبيا في النمسا  وحاولوا اغتياله وقصّها لي هو نفسه كاملة، ثم بعث له القتلة واطلقوا عليه النار، فهكذا كان القذافي وحتي اجهزته ومحكمته لم يكونوا مدركين لهذه الحقيقة، فاذكر ان المباحث في البداية مع سعد بن عمران كان يعتبرها مسألة (قرصة اذن) وقالها لي شخصيا، وانه خلال ست او سبع اشهر ستخرج قياسا علي الاعتقالات السياسية التي كانت تحدث في العهد الملكي، فكانوا يتوقعون نفس الأحكام وفي المحكمة نفسها والتي كان رئيسها الرائد احمد محمود الزوي كان نفسه يقول (خلونا ننهوا المشكلة يا جماعة) اعني كان يريد ان تتم المحكمة وتصدر احكام معقولة.

هل كان القذافي معجبا بالمفتي كما الصادق النيهوم

سؤال: لكن واقعيا د.المفتي لم ينشط سياسيا في ليبيا الا في عهد القذافي، تُلقي المحاضرات، تكتب مقالات، تُمارس علاقات واسعة مع مثقفين واسماء جديدة من الشباب فهذه عناصر ملفته للانتباه!، عندما عملت بالجبل مارست اعمالا ليست من اعمالك المعتادة في شخصك او في الظرف الموجود فيه، كما ان القذافي قابلك وناقشك اكثر من مرة علي المستوى الشخصى وكان يريدك الي جانبه، اذا هل كنت تتصّور ان القذافي كان معجبا بك؟ القذافي كان يخاف حتي ممن يعجبونه، وهذه مهمة في تفكير أي مستبد او دكتاتور، الصادق النيهوم قرّبه اليه،  هل استطاع ذلك معك وبالمِثل؟،وانت تطرح  طرحا قوميا  يساريا وهو قريب للقذافي!! علي عكس الصادق النيهوم؟.

انا كنت ارى في نفسي شئ من الالتزام والنشاط السياسي، وكما كنت منتقدا للأمور في العهد الملكي كنت منتقدا للأمور في عهد القذافي.. لكن الخلل في كل الناشطين السياسيين أننا لم نفهم القذافي.

لم اصل في الاقتراب منه درجة النيهوم، ربما النيهوم كان اذكى واكثر فهم له، فالنيهوم دخل لدائرة القذافي الخاصة، لم يحدث ان حاول القذافي تقريبي منه لهذه الدرجة. ممكن كان للقذافي اعجاب به ككاتب وأراد ان يحيّده، اعتقد ان القذافي كان قادرا علي فهم الاخرين، لم يكن بليدا او غبيا في هذا الجانب، كان يختار فيمن يتوسم فيهم خدمته و تحت طاعته ولا طموح سياسي لهم ماعدا هذه الصفات بالنسبة له يشكل خطرا، اتذكر قصة اخرى غريبة بعض الشيء: جمعة الفرجاني، كان رئيس اتحاد الطلبة في الانتفاضة الطلابية سنة 1965-1966، استدعائه القذافي وقال له يا جمعة انت لابد من خروجك لاني لا استطيع حمايتك، وبعثه لإحدى السفارات وبقي في الخارج ليومنا هذا، واعتقد انه مازال في روسيا ملتحقا بأحد المنظمات حسب علمي،وهناك اخرين ربما شعر بانهم سيتمردون عليه تعامل معهم بأشكال اخرى. ومن جهتي و بصراحة كانت نظرتي للقذافي في حيرة مثلا: هل هو شخص بسيط ام كاذب؟، ولكنني لم ارتح له منذ البداية، وحتى بعد مقابلاتي له كانت في ذهني تساؤلات، اذكر في احدى زيارته عندما خطب في مدينة المرج، تم استدعائنا نحن كمسؤولين لحضور الخطاب وبالفعل حضرنا وكنت علي المنصة، كان خطابه ناري كالعادة في تلك الفترة بالنسبة له وغاضب، وبعد ذلك  انتهى الخطاب ونزلنا، كنا نحن المسؤولين لا نهتف، الجمهور هو من يهتف، اثناء مغادرتنا المنصة كان قريبا منا وشاهدته يضحك، تغيّر غير عادي، هذه بحد ذاتها طرحت علامة استفهام عندي، هذه القدرة الرهيبة علي التمثيل، هو بحضوره الشخصي عادي جدا بل كان خجولا .وبالنسبة لي لم أكن أتحداه انا لم اكن اتطلع لأي منصب سياسي، ولكن كان لدي القدرة علي الجدل والنقاش، ربما اكتسبتها من خلال معيشتي ببريطانيا، حيث كان الجميع يتحدث بصدق وصراحة متناهية، وربما كانت نقطة الضعف عندي، حيث لم استوعب الخطر الذي يمكن حدوثه بمجرد التكلم، بصراحة كان في جلساته الخاصة وديعا وبالتالي هو مُخادع.

مقالات بأسماء مستعارة قد يكون القذافي طالعها

كتبت في الطليعة خلال النصف الثاني من الستينات ممكن مقالين – اتمنى ان اجدهما – كانت خلفيتي عروبي ناصري، مع انني لم اكن منظما هو مجرد ميول، كانت اكثر مقولاتي ناصريه، ومقولات البعثيين تجد صدى عندي، وبعدها حدثت التطورات في آخر الستينات وظهرت المراجعات الكبيره في الفكر السياسي العالمي الاوربي، ولهذا ما كنت اكتبه كان محاولة في التعامل مع الفكر السياسي العربي – (العروبي الثوري) في ذلك الوقت – وتطعيمه بالتطورات الجديدة التي تحدث في العالم. ولما لا يكون القذافي اطلع عليها، الان بعد ان انتهي استطعنا معرفة انه طيلة ما حدث من عقود مع القذافي انه استطاع ان يخلق اجهزة تحضر له كل المعلومات كما انه كان قارئاً جيداً، ربما جزء من قراءته  هي التي ساعدته علي السيطرة، علي عكس بقية اعضاء مجلس قيادة الثورة، كان الوحيد الذي يقرأ التقارير الرسمية وتقارير المُخابرات. ومن جهتي لا اعتقد انني كنت نجما، ولكن ربما حضوري بالجبل بالفعل كان له صدى، من خلال النشاط الاصلاحي والخدمي الذي قمنا به، ثم إلقاء المحاضرات، في احد المرات كان المرحوم مصطفي العالم الذي يقدم برنامج بالتلفزيون اسمه (وجهاً لوجه) قام بندوة علي الخدمات الصحية وقمت بالمشاركة بها وطرحت فيها تجربتي في الجبل الاخضر بحكم انها نوع من الدواخل، فكنت حريص علي تهيأت الكوادر الصحية من داخل المنطقة، وكانت لي فكرة العيادات الاسرية التي تم تنفيذها بالمرج، فعيادة الاسرة فكرة موجودة ببريطانيا، فعندما صارت الندوة التلفزيونية تكلموا عن مناطق الدواخل في ليبيا التي لا تصلها الخدمات وعدد الاطباء لا يكفي ..الخ،  فكيف تحل مشكلة المناطق مثل اوباري والكفرة في ذلك الوقت، فكان لي اقتراح وحكيت عليه وقلت انه بإمكاننا اخذ الاطباء الصغار الشباب الخّريجين الجدد يبعثون لأحدى الواحات، ويعمل بها لسنتين او ثلاث وتمنح له كل سُبل الحياة والخدمات كالبيت والسيارة، ويُمنح علاوة خاصة وفي نهاية الثلاث سنوات يُبعث للخارج، وهي فرصة للأطباء الصغار عندما يذهب الي تلك المناطق سيتعرف علي الاهالي وقد يُصاهرهم، وهي خطوة لارتباطه بالمنطقة، لان ما كنا نعانيه عزوف الاطباء في الذهاب الي مناطق  الدواخل.. فحدثت ضجة لم اكن لأتوقعها، وحسب علمي انه فسّر او فسرت له بانها افكار شيوعية وهي لم تكن كذلك لكنها تهمة ذلك الزمان، كان يفسرها علي انها افكار شيوعية، ولكن للأسف الان وبعد 40 عام مازلنا نعاني من عزوف الاطباء عن العمل في مناطق الدواخل، واغلب الاطباء الموجودين في المناطق البعيدة النائية هم من الاجانب، فالكفرة مثلا يوجد بها فريق طبي وحيد من كوريا الجنوبية منذ ثلاثين عاما، ويبدو لي حسب ما اسمع قدراتهم بدائية، علي أي حال يقدّمون العلاجات البسيطة، لا اعرف ان كانت هذه نجومية او لاني كنت صغير السن و مُتخرج من بريطانيا ومتحمس.

كنت في السجن وكنت أنشر مقالاتي بالثقافة العربية

نشرت بمجلة الثقافة العربية سلسلة مقالات عن تاريخ الطب الاسلامي في عصر النهضة الاسلامية، ومقال آخر بعنوان العلم الطبيعي والثقافة العربية في العصور الاولى، وكانت قبل اصدار الحكم عليّ، لان احد المقالات بعثته الي الشيخ صبحي للنشر وكان هو رئيس الدعوة الاسلامية ورد عليّ برسالة – الي الدكتور محمد المفتي بسجن بنغازي – وموجودة عندي الرسالة، كتب فيها بأنه معجب بمجموعة المقالات لكن لم يتكلم او يعلّق بشيء عن اعتقالي و كتب لي بانه سيبعثها لمجلة الثقافة العربية ونُشرت، لا ادري هل نشرها الاستاذ محمد علي الشويهدي او بعد استشارة القذافي؟، وأنا ارجح بأن القذافي كان له الرأي، وهذه هي شخصية القذافي علي درجة كبيرة من التعقيد، انا في السجن لم اكتب في السياسة بل كتبت عن العلم  وتوطينه، لان السجن في فترة الثلاث سنوات الاولي منذ عام 1974 الي عام 1977 كانت فترة جيدة بالسجن، كانت الكتب تأتيني باستمرار من مكتبة جامعة بنغازي حيث كانت زوجتي تعمل بكلية العلوم وتستعير لي الكتب، وكان هناك من البيضاء الدكتور الصالحية استاذ في جامعة الكويت فلسطيني الاصل مثقف كان يُدرّس بالجامعة كان لديه ماجستير وقتها وبعدها حضر الدكتوراة في الكويت كان موضوعها عن فلسطين واعتقد عن ملكية المزارع وبيع العقارات لليهود، واول من اعتمد علي روايات المجاهدين كتب اكثر من مقالة و نشرت بالكويت بمجلة كلية الآداب الكويتية، كان بالبيضاء بجامعة محمد بن علي السنوسي (عمر المختار) وبوجوده بالبيضاء انجز عدة لقاءات بالمجاهدين الذين كانوا علي قيد الحياة مع عمر المختار ونشرها كانت شهادات شفهية وقدمها بشكل تحليلي كان أول من قام بذلك قبل حتي مركز دراسات الجهاد، فكان هذا الدكتور موجود بليبيا عندما تم سجني فكان يزورني ويحضر معه الكتب فكنت اقرأ من كتابين الي ثلاث كتب اسبوعيا.

كنت الطبيب السجين اخرج كسجين مريض

كان لمجموعة من الاطباء الفضل، كنت اخرج من السجن الي المستشفى للمعالجة اتذكر الدكتور المرحوم نورى كويري اخصائي عيون، وهو شخصية طيبة فكان عندما آتي إليه من السجن كمريض إلى المستشفى يثير زوبعة من الاهتمام، ويقول ان حالة عيوني خطيرة كي أبقاء في المستشفي، ولكن اطرفهم كان دكتور فلسطيني اسمه محمد قاسم بمستشفي 7 اكتوبر او ما كان يعرف (بردوشمو) فجئت الي هذا الدكتور ولم اكن اعرفه، وحضرت مع رئيس العرفاء وقال لهم ان حالته خطيرة ولابد من دخوله المستشفى، بالفعل دخلت المستشفى ولم يكن هناك اطباء مناوبين في الفترة المسائية، فقلت للدكتور محمد بانني استطيع العمل معكم بالمناوبة المسائية والليلية بحكم وجودي بالمستشفي، وبالفعل عملت معهم مدة ثلاث اشهر وكان معي الحرس، وحتى العلاقة مع الحرس توطدت فكان يضع مسدسه تحت وسادتي ويذهب يقضي اعماله ويأتي بعد وقت طويل، كانت هناك فرصا للهروب ولكنني لم افكر بالهرب!، وفي فترة الثلاث اشهر كان اللقاء الجميل بعبد العزيز الابيض، كان مريضا ودخل المستشفى حيث بقي حوالي 15 يوما، كان استاذي في الصغر وكان ازهري ولكنه حداثي لآخر درجة وصاحب مزاج و نكتة لاذعة وسريعة، وأيضا صاحب بديهة سريعة. وفي المرة الأخرى التي خرجت فيها الي المستشفي كانت بفضل الدكتور مصطفى الفرجاني بطرابلس، وكان رئيس قسم الجراحة بذلك الوقت وجئت إليه كسجين مريض عام 1974 بطرابلس، فأمر بإدخالي المستشفى، وبالفعل دخلت مستشفى طرابلس المركزي القديم، وبقيت في غرفة مستقلة، بقيت حوالي شهرين او ثلاثة وقمت بعملي هناك وعالجت حالات المرضى، بعد ان ساءت الظروف بليبيا هاجر الدكتور مصطفى لمصر وأسس مستشفى بالقاهرة هناك اسمه النيروز او الفيروز وكان رجلا خيّرا، ولم اره منذ تلك الايام، كنت قد بعثت له السلام مع عز الدين الغدامسي رحمه الله، كل هذه فرص اتاحت لي الارتباط بالجانب العلمي والطبي والجراحي بالذات وكذلك فرصة القراءة والكتابة.

وفي السجن كنت مسؤولا عن العيادة، وكان الطبيب الهندي وممرضه رئيس عُرفه نسيت اسمه من كان رجلا طيبا، كان هذا فترة ما بين  عام1975 – 1977 كانت فترة هادئة جدا والمعاملة لنا كسياسيين جيدة بالسجن، والفضل لأحمد سعد البرغثى لا اذكر رتبته العسكرية، ولكنه في ذلك الوقت كان مدير السجن بالكويفية، وكان الرجل الفاضل وخيّر يتحمل المسؤولية رغم هدوئه، وعاملنا معاملة خاصة بعد رفع احكامنا، وهو من بلّغنا بذلك وكانت حالة الطوارئ معلنة، بعد ان تغيرت احكامنا ما بين المؤبد والاعدام كان ردنا عليه بان لا يحمل همنا والحكم هو من الله فاستراح وانبسط لكلامنا، وكان يقول لنا: “اللي تبوها منّي حاضر، حقوقكم تاخذوها، فقط بيني و بينكم هذه الأسوار”، وبالفعل كان، في هذا الاطار الذي به نوع من الاسترخاء كان بعيادة السجن طبيب هندي رجل خلوق، سافر في احدى المرات فناوبت مكانه بالعيادة، ومن هذا توطدت علاقة المجموعة الموجودة بسجن الكويفية بالجنود والحرس ورؤساء العرفاء،  كان سجننا بين الاقامة الجبرية وبين السجن السياسي.

حين كتبت في السجن عن حيوانات النيهوم

وكنت انا دائما اكتب ولكن ليس بالضرورة انشر ما كتبت، اذكر دراسة قمت بها ولست سعيدا بها كانت عن النيهوم، ممكن لأنه كان بها قدر من الاصطناع، كان لجورج ارويل رواية “مزرعة الحيوانات” ولصادق لنيهوم “الحيوانات”، حاولت ان اربط بينها ولكنها كانت ذريعة لفضح النظام واستبداده، فمن الناحية المنهجية الفارق شاسع بين الاثنين، كان جزاء من مقصدي استغلال حكاية النيهوم لأنشر بعض المقولات والتحليلات التي تخص أرول، لأنها تنطبق علي النظام الليبي حيث انه كان ينتقد الاستبداد، وكان في ذهننا ذلك الوقت الاتحاد السوفياتي والسيد ستالين من كان نموذجا بشعا للاستبداد، أحكام وتوصيفات السيد أرول كانت كتمريره منّي من خلال كتابتي عن العملين، ولكن من الناحية المنهجية المقارنة مختلفة، لا ادري عن حيوانات النيهوم شيئا الآن! لي فترة لم اقرأها من جديد، لكن ارول يحكي بوضوح وصراحة، وكان من الواضح عن من يتكلم، وكان له موقفا سياسيا، اما النيهوم لم يكن له موقفا سياسيا، ولا اعتقد انه كانت لديه الشجاعة، ولكن كانت له الصلة الوطيدة والحميمة مع القذافي، نعم كان الاقرب له كنديم السلطان، ولم تكن له مواقف عن الاعتقالات مثلا، لكن موقف القذافي منه شائك فهو كان يحارب النجومية، وحتي الوزراء ولاعبي الكرة مُنعت اسمائهم من ان تذكر بالإذاعات، اعضاء المؤتمر الشعبي العام كانوا يتكلمون بأرقام بدون حتي الاشارة الي وظائفهم كأمين لمنطقة كذا، النجومية له فقط هو وهو وكل الطغاة عادة النجوم.

لا أدري حتى الساعة لما تم الافراج عني بعد  11 سنة سجن

في الحقيقة لا ادري، وكل واحد من الناس كان يدعي انه قام بالدور الاكبر في خصوص اطلاق سراحي، كان ذلك في 22-1-1984، قبيل احداث (العزيزيه ) والتي قتل فيها المرحوم حواس.ولكن بشأن اطلاق سراحي ما أعلمه أنه كان هناك ضغطا خارجيا بخصوصي انا، فرئيس قسم الجراحة في بريطانيا الذي عملت معه لم يتوقف عن الكتابة ومراسلة القذافي، وكذلك رئيس حزب الاحرار ببريطانيا الذي لا اذكر اسمه الان، وكذلك منظمة العفو الدولية، كل هذه الاطراف ساعدت، وكذلك اسرتي عن طريق اتصالاتها الاقرب، عن طريق اسرة الشريف بن عامر حيث كانت امي علي علاقة وطيدة بها وكان القذافي يزورها، انا بودي ان التقي بمن كانوا علي علم بقرارات القذافي (من المعتقلين الان) واعرف السبب، والتركيز هنا علي عبدالله السنوسي وغيره ممن كان يتحدث معهم القذافي و ان كان هو كتوم اصلا، فاحد اسلحة القذافي الكتمان المطلق ولذا قراراته كانت تفاجئ الجميع، ولكن كان دائما لي احساس بأن شخصا مثل مصطفى الخروبي كان مُطلعا و بشكل كبير علي قرارات القذافي الذي كثير الاستشارة له اكثر من جلود، في اعتقادي ان مصطفي الخروبي كان هو الرجل الثاني والحقيقي في النظام، وان كنت لا اعرف كيف كانت تسير الأمور، لكن الافراج عني جاء فجأة كما جاء القذافي وكما ذهب.

مصادفة التحصل على سبب اطلاق سراح المفتي!

كأنما كان لابد أن يكتمل الحديث الناقص، أو أن يكون ثمة اجابة لسؤال كانت اجابته: لا أدرى .المصادفة حدث غير متوقع لهذا يكتمل بأن يكون في الزمان والمكان غير المتوقعين، كنت في أبوظبي لأول مرة، والتقيت لأول مرة بالأستاذ محمد عبد  المطلب الهوني، وجاء الحديث – في اللا سياق – بمحمد المفتي، حين سائلني أنت تعرف الدكتور محمد المفتي هل تعرف سبب اطلاق سراحه؟، وكنت خلال الأيام الماضية لذا اللقاء قد سئلت نفس السؤال للمفتي بذاته، كما أجابني ذا الشأن أجبت: لا أعرف. وشددت الحديث ووثقته كي لا ينصرم.

قال محمد الهوني كنت بين حين وأخر نتجاذب أحاديث، أنا وسيف الاسلام القذافي، كنا نبقي معا أحيانا وقتا طويلا، مرة قال هل تعرف يا هوني كيف مدخل السياسة في حياتي، من مداخلها القصة التالية: كنت ألعب الكرة عام 1984 وأخي الساعدي، فجاءني الحارس ونبهني أن ثمة امرأة عجوز شرقاوية تريدني، حاولت الذهاب اليها لكن الساعدي طلب منى أن استمر في اللعب، لكن بعد ذلك ذهبت اليها والساعدى يطالبني باللعب وترك العجوز، لما اقتربت منها تقدمت وأعطتني ورقة، قائلة أنها أم الدكتور محمد  المفتي وأنها تتوسط  بي لإطلاق سراحه، وتوصيل الرسالة إلى قائد الثورة أبي، كنت ساعتها المرة الأولي التي اسمع فيها بأن لدينا سجناء سياسيين، وإن لم افقه الأمر لكن أحسست بأهميته، ولهذا ساعة لقائي أبي قدمت له الورقة ما حافظت عليها، تهلل أبي قائلا وصلوا فيك، ما تريده سيحصل، وبعدها علمت أنه اطلق سراح الدكتور محمد المفتي.

________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

حوار مع الكاتب الليبي فتحي نصيب

المشرف العام

الكاتب الليبي أحمد الفيتوري: صورة جديدة للأب في الرواية

خلود الفلاح

عزة سمهود: قلمي يبذر قصصاً وسرديات ونصوصاً نثرية

المشرف العام

اترك تعليق