النقد

نجـوى بن شـتوان ووبـر الأحـصنة

د. عوض الغبارى(*)

“نجوى بن شتوان” أكاديمية ليبية شابة، ومبدعة مثقفة متميزة لها حضور أدبى وثقافى لافت. وكتابها “وبر الأحصنة” شاهد من شواهد إنتاجها المتنوع على هذا.

وعنوان الكتاب يعقبه عنوان فرعى يحدد هدف الكتاب وهو: “نصوص فى التكوين والنشأة”، ثم تعقبه فى وسط صفحة الغلاف عبارة: “عن الحقيقة البيضاء للبيضة”.

صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب سنة 2005، وقد أوضحت الكاتبة القديرة معنى عنوان الكتاب، فوبر الأحصنة عشب وبرى تأكله الأحصنة، ويؤدى اشتعاله إلى طرد الشر والشياطين.

وربما كان معنى ما ذكرته الكاتبة حول الحقيقة البيضاء للبيضة إشارة رمزية تتعلق بهدف الكتاب الباحث عن أصل النشأة، وعالم الوجود، وطبيعة الإنسان: خيرها وشرها، وأحوال الخلق، والتساؤلات التى تثيرها خاصة أنها ذكرت البيضة وفقسها مراراً فى معرض كتابها للتعبير عن التناسل والتكاثر.

والحقيقة البيضاء رمز للحقيقة المطلقة التى ضلَّت الكاتبة – عامدة- فى البحث عنها وسط خلط البشر للأشياء فى المجتمعات العربية، وتخلفهم وخروجهم عن نواميس الحياة الدقيقة، واستشراء الجهل والفقر والفساد بينهم.

 والكاتبة جريئة حادة جادة مخلصة فى عرض قضايا هذا الكتاب الرائع؛ تثير تساؤلات حائرة مهمة تتعلق بالكتابة النسائية، وتقدم مفهوما صحيحا للـ “Fiminism” الذى قدمته بعض الكاتبات صورة من صور الرفض المريض للمجتمع العربى الذكورى الذى أثار حسدهن وغيرتهن نتيجة التفرقة بين الذكر والأنثى.

وإذا كانت حقائق الشريعة الإسلامية السمحة لا تقر ذلك، فما أجدر هؤلاء الكاتبات بالنظر إلى تلك الحقائق، إضافة إلى حقيقة غائبة عنهن أيضا هى أن التخلف والقهر لا يفرق بين ذكر وأنثى، بدليل أن الكتابة النسائية الصحيحة لنجوى بن شتوان فى هذا الكتاب قد أفاضت فى سرد ألوان العذاب والألم والقهر الذى تعانيه المرأة العربية مقابل السطوة والجبروت الذى يمارسه الرجل، ولكنها فى نهاية الكتاب جعلت الصبى – رمز التدليل والتفاهة وعدم مواجهة المسئولية بالنسبة إلى أخواته البنات – ينهب الأرض بحثا عن والده عندما أحس بموت أمه، وقد وقف الرجل يتضرع إلى الله أن يُبقى الأم لأبنائها، ولكن موت الأم والبنت ظل تعبيراً أليما عن أنَّ المسألة ليست تفضيل رجل على امرأة، ولا ولد على بنت، وإلاَّ فكيف كان شعور الأب والولد عقب موت الأم والأخت فى هذا الكتاب الرائع؟

لقد أثارت الكاتبة القديرة أسئلة حول النوع الأدبى لكتابها الذى وصفته – فى عنوانه الفرعى – بأنه نصوص فى التكوين والنشأة، وقد نجحت نجاحا بارعا فى السرد الذى استندت فيه فى عرضها لقضايا الحياة وحقائق الموت إلى ثقافة واسعة أصيلة؛ زاخرة بكنوز التراث الشعبى الليبى ثقافة وقصصا وأغانى وأمثالا وأقوالا وأفعالا وعادات وتقاليد وصفحات مكتوبة على جبين البشر العربى الذين وضعتهم الكاتبة – بسلبياتهم القاتلة – فى قلب ليبيا تاريخا للأمل الذى يتولد من قلب الألم.

تقول فى ص 42 إن من ليبيا يأتى الجديد دائماً، إنما لابد من طريق ليحصل ذلك الانفتاح الليبى على نفسه.

 من هذا المزيج بين الأمل فى مستقبل عربى أفضل، والألم الناتج من واقع حاضر هذا الوطن تأتى مصداقية وواقعية الكاتبة التى بدأت – حبا وكرامة لوطنها – تمسك بمشرط الجراح لتعلن فى سردية حكائية متفردة – إثارة مشاكل المجتمع العربى من خلال وطنها فى نقد اجتماعى اتخذ رداء لغويا صافيا تمثل فى هذه الأسئلة الفلسفية الساخرة حول نشأة الوجود الإنسانى، وتجلت فيها المفارقة التى هى لب الحياة، ولب الادب فى آن .

هذه المفارقة التى تبدو فى هذا الكتاب فى مستويين:

الأول: هذا المزيج الرائع لوصف فلسفة الحياة قبل حصولها، إذ الكاتبة تروى قصة الحياة والموت على لسان راويتها وهى جنينة فى بطن أمها.

والثاني: المزج بين ألوان من بدائية وتخلف المجتمعات العربية فى غرابتها ونفورها عن تقدم المجتمعات الحديثة. وقد تدرجت هذه المفارقة من بداية الكتاب إلى نهايته فى فلسفة ساخرة تضم جوانب هذا الكتاب من خيال واسع فى تصور ساخر لحال آدم وحواء فى بدء الخليفة، إلى براعة فى الحكى الساخر لقصة قابيل وهابيل.

والكتاب فى معرض ذلك منجم زاخر للأدب الشعبى الليبى بكل أطيافه وألوانه الثرية.

وحسنا فعلت الكاتبة بشرحها للثقافة الشعبية الليبية فى هوامش بعض النصوص، وأحسن لو كانت قد نهجت هذا النهج فى كل النصوص التى ظلت معانيهاغائبة عن القارئ غير الليبى، أو العارف باللهجة الليبية.

لقد أسرفت الكاتبة فى نقد ذاتها من خلال نقد وطنها أملا فى الوصول إلى الأفضل من خلال العلاقة الصحيحة لا المريضة بالوطن، فتمردها هو التمرد الذى يدفع بنى جلدتها إلى انتهاج النقد الموضوعى البنَّاء من منطلق الحرص على مقدرات الوطن الحبيب.

تقول فى ص 148، 149 مازجه – فى سخرية- بين موات الشعوب وبين الأمل فى إحيائهم وحياتهم حياة كريمة: “هذا الشعب لأنه الميت الوحيد فى دنيا الموت، فلا نسخة ولا شبيه ولا شريك له، كلا، ولا، ويستحيل، وعلى الإطلاق، أخذته العزة بنفسه، وأخذته، وأخذته، حتى نسى نفسه فى الموت… أعنى نسى أنه ميت وهى ما تزال تأخذه وتجرجره. جاءنى ملك الموت ليقبض روحى الصغيرة الجربة، ذات وعكة صحية ألَّمت بحاملتى، فقلت له: تريث أريد أن أعيش وأسهم فى بناء الوطن، وفى تخليص شعبى من الأمية، وفى القضاء على الأمراض الفتاكة، وتنشئة جيل يرفع راية العلم، وينزل راية الترهات، أريد أن أشارك فى زرعة الأرض البور، واستثمار ساحلنا الطويل، وترشيد الاستهلاك، وتنظيف البلاد، وتوعية الناس، وإنشاء المصانع، والقضاء على البطالة، والارتفاع بالمستوى الفكرى والاقتصادى للناس، وإعداد كوادر وطنية مدربة فى شتى فروع العلم، وخلق مواطن يفكر؛ لا يلجأ للتخمين والاعتقادات والأحكام السابقة، أريد أن أرى بلادى وكلها ربيع وحياة، ونظافة، وخلق وعلم، وتألق وتقدم وسَبْق”.

فى هذا الإطار من النقد الذاتى البناء الذى يمتزج فيه الأمل بالألم، والتفاؤل بالتشاؤم، وقبح الحاضر بجمال المستقبل المأمول تناولت الكاتبة حب العرب لبطونهم، وعبوديتهم لها، وتحدثت عن البغايا الذين يُطلق عليهن “بنات الله” تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً، فألهبت الذين أطلقوا هذه التسمية – زورا وبهتانا – بسياط من سخريتها البناءة المتفائلة لا الهدامة المتشائمة، ولم تَخْلُ هذه السخرية من رصد وتحليل لكافة الظواهر الاجتماعية السلبية فى ليبيا تجسيدا لحال الوطن العربى كله، فالطفولة معذبة فقيرة بائسة؛ إذ كيف يسعد الطفل الذى لا يجد كوب حليب، ويظل مصلوبا أبدا على ظهر أمه وهى تقوم بالخدمة الشاقة المستمرة فى البيت الذى لا تنتهى أوامره؟

وتتعجب الكاتبة من قلة الحب وكثرة الاختلافات بين الأب والام بينما يصاحب ذلك كثرة الأولاد!

وتتساءل كيف يأتى هذا النسل الخصيب من رحم المعاناة والتنابذ والفقر والحرمان والخنوع والقهر الذى تعانيه المرأة من زوجها، والزوج من مجتمعه؟

وتتعجب الكاتبة من قبح الأسماء التى تُطلق على الأولاد نتيجة عادة عربية جاهلية تلزم أبناء المستقبل بما لا يلزم من عبء نفسى جسيم يثقل حياتهم لفرط قبح أسمائهم.

كما تنتقد المدارس والتعليم وما يكرسه من جهل وتخلف فى مفارقة صارخة لهدف التعليم وغاياته ووظائفه!

وتتحدث عن “راقد البطن” فى صورة فلسفية خيالية رائعة، وهو الذى تأخر نموه ونزوله إلى الدنيا، وقد يكون أحسن حالاً من “راقد الريح” وهو الذى نزل ولم يجد إلا الفقر والهوان! وفى حس إنسانى فلسفى رهيف، ولأجل هذه المفارقات تتقلب الكاتبة بين القوة والضعف فتقول فى ص 154 ” ما دامت الحياة جميلة فما الداعى لأن ينبت لى ذئب خاص بحمايتى واستعدائى؟! كان عالما غامضا حقا فوجئت بصورته فىَّ ، كنت غير قابلة لوجوده معى، سواء فى حاجة أم بغيرها، إنه كشعر الجسد ينمو وهو غير مرغوب.

أتصور نفسى جميلة بدونه، لكنهم يقولون فى العبر، بأننا به نزداد جمالا واختيالاً وقوة ،  فإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب، ومصمصت عظامك الكلاب، وهذا ما سوف يحدث فعلا إن اخترت لذاتك وجود الدجاج!”.

تتمنى الكاتبة على الله أن ينعم وطنها بالعلم والعمل الصالح ولكنها لا تنفك عن الآثار الوراثية التى اكتسبتها مرغمة من كل ما عرفت من شخصيات البشرية قديما وحديثا، وتتوحد بالوجود والتاريخ الليبى، وتتحدث عن طريق أنشئ فى ليبيا يُسمى طريق “عبدالله العابس” لكى يربطها ببعضها وبالعالم.

وتأتى المفارقة بأنه يجسد التخلف والتأخر وكأن الكاتبة تتشكل فى إهاب مشروع هذا الطريق متأرجحة بين غاية الغنى القائم على العلم والعمل، والفقر القائم على الجهل والنكوص، إذ ترغب فى الخروج إلى الحياة لمفارقة ظلام بطن أمها بينما تخاف من ظلمات أكبر هى ظلمات ما يسمى “بالحياة” !

ذكَّرتنا الكاتبة فى كثير من مناجاتها الحوارية القصصية فى هذا الكتاب بالمحتل البغيض، والباشا اللعين فى نهبهم لقدرات وثروات الوطن العربى حيث تُكوِّن الحروب والمجاعات واقعا وحشيا لهمجية العدوان الأجنبى البربرى الذى يسرق الحياة والغذاء من فم الإنسان العربى البائس الفقير العاجز الذى لا حول له ولا طول.

إنَّ الأعراض الوراثية لجينات النفس الإنسانية – بخيرها وشرها – تتجلى مفارقة مجادلة فى هذا الكتاب الذى تفتش فيه الكاتبة عن نفسها بعيدا عن المكان الذى وجدت نفسها فيه كما تقول فى ص 62.

ومن أبلغ المفارقات فى الكتاب هذا المزيج الفلسفى الساخر بين الحس الفكاهى الذى يصِّور أمراض الحياة الاجتماعية اليومية خاصة فيما يتعلق بالجانب النسائى فى الخطبة والزواج والعادات والتقاليد وتربية الأولاد وما يتبع ذلك من فيض لاذع لنقد ساخر يمس الحياة الدنيا، وبين الحس الفلسفى الصوفى لرؤية الخلق والخالق.

أما الجانب الأول من هذه المفارقة فيتجلى فى قول الكاتبة فى التخلف ص 57:

“تدخل فى الحديث طفل له أنف طويلة، سيكون بصاصا ابن بصاص:

يقولون بأن ظروف أمتنا صعبة، فهى مستقلة منذ بضع سنوات، وتتخبط فى إدارة شئونها، ولا تدرى كيف تقود سفينة الحياة وحدها بلا خبرة سابقة أو معونات صديقةِ، ليس لأنها من دون أصدقاء، إنما لأن الفقير لا يرغب فى صحبته أحد، فما بالك إن كان فقره عقليا؟! ثم فجأة انفتحت للأمة طاقة السعد مع أول بقعة نفط وُجدت فوق رمال صحرائها، بصَّت عنها صَدَفَة (shell) بالصُدفة، فكثر الطامعون حولها مدعين صحبتها، ما هو المتوقع من فقير اغتنى، ووضيع ارتفع، ووريث غير راشد ورث ثروة هائلة لم يستخدم العقل فى تصريفها؟”

وتقول فى ص 59: “لقد كانت جلدتنا يابسة من الخارج، رقيقة من الداخل كالقطمير، لا شئ يحميها من التمزق، لا كالطوابير الأخرى التى حمت كيانها بالقراءة والمطالعة والتبحر فى العلوم والفنون الجميلة، وإجراء التجارب لإثبات الحقائق التى لم تكن حقائقها بيِّنة لها.”

أما الجانب الثانى من المفارقة بين تجليات الحياة الدنيا – كما مثلتها النصوص السابقة- وتجليات الصوفية فى مثاليتهم الرفيعة التى تتعالى على هذه الحياة الدنيا، وتحلِّق فى فضاء رؤيا الخلق والخالق فيمثله هذا النص من قول الكاتبة ص 62:

“هنا أمكننى رؤية هلام ملايين البشر، منذ الوقت الذى لا يعلمه أحد سوى مالك الوقت، وصاحب قرار التسيير بذاته الكائنة بلا علة لكينونتها المافوق الماهيات والتناهى، المحسوس غير المرئى، المُسْتَدَل به عليه، وعليه به”.

أنت أيها القارئ العزيز ستسعد – حتما – بالإبحار فى أمواج هذا الكتاب الذى يبشِّر بمولد كاتبة عربية بدأت كبيرة بفكرها العقلانى المستنير، وأدبها القصصى البديع، وقدرتها على تجسيد الأزمة بين الواقع الراهن والمستقبل المأمول.


_______________________________

(*) أستاذ الأدب العربى  المساعد – كلية الآداب – جامعة القاهرة.

مقالات ذات علاقة

نثر ُ المستيقظ للشاعر “مفتاح العمّاري”.. شكل ُ القصيدة ِ هيَ القصيدة ُ كُلّها

المشرف العام

دراسة لبعض جماليات القصة القصيرة.. قصة الكاغط محمد النعاس أنموذجا [1]

عبدالحكيم المالكي

فاجعة ما بعد الحلم الواعد .. قراءة أولى في رواية الكلب الذهبي

رضا بن موسى

اترك تعليق