المقالة

2/2 يوميات العشاق الفقراء

هذا الحب، هو الذي يدعُ إنساناً كالبياتي يقول (لحبيبته) في قصيدته (عن الميلاد والموت): 
(ستعودين مع الشمس خيوطا ذهبية
ومع الريح التي تعوي على شطاّن ليل الأبدية 
غنوة أندلسية
ستعودين مع الميلاد والموت نبيّة
تشعلين النار في هذي السهوب الحجرية 
تبعثين النورس الميت في صمت البحار الأسيوية 
والينابيع الخفية 
تمنحين الضفدع النائم في الطين جناحين، تجوبين البرية، 
كغزال شارد تجري كلابُ الصيد في أعقابه، يدركه ليلُ المنية .. ستعودين إليَّ). 

إن حبا كهذا يخترق جدار الموت، كان لابد أن يقود البياتي إلى حتمية أخرى: إلى الثورة. الثورة من أجل إنساننا المستلب المقهور، من أجل بعثه من جديد. الثورة بدافع الحب نفس الحب. إذ لكي تكون ثائرا حقا، لابد أن تكون محبا حقيقيا. وكان أن تفجرت في صدر البياتي هذه الأبيات وهذا الموقف الإنساني الذي ظل يلازمه أبدا:
(كقدر الإغريق
كالموت، كالطاعون، كالحريق 
محتومة تظهر في السماء
علامةُ الثورة فوق الُسم والشرور 
فهي عبور من خلال الموت
وصيحة جدار الصمت).
لكن الجلادين وكلاب الصيد، وتجار الكلمات، والعسس، ولصوص الثورات، والمرتزقة في كل مكان، ظلوا يقذفون البياتي من منفى إلى منفى لكي يخمدوا نار صوته. ولكن – كما يقول (بريخت): “نستبدل منفى بمنفى مثلما نستبدل حذاء بحذاء” – لم يولّد ذلك لدى البياتي سوى مزيد من العناد المثابر، رغم سحابات الحزن النبيل المورق التي تغمر أعماقه من حين إلى آخر، مما يدفعه لأن يقول: 
(محكوم بالإعدام أنا 
مع وقف التنفيذ
عقوبتي: الحياة).
أو أن يقول:
(أبعثُ حيا بعد ألف عام… في ساحة الإعدام). 
لكن (المحب الأعظم) – عبر رحلة الموت والحياة – لا يموت لا يساوم، كما تموت بذرة حبةِ التي زرعها في رحم الأرض ولا يدرك الإجهاد والتعب جواد اللهب الذي يمتطيه إلى عوالم أخرى غارقة في ضوء الشمس، ممتلئا بالشوق، والاحتراق والأمل، والغياب، والحضور، ففي قصيدة مهداة إلى (جيفارا) يقول البياتي: 
(تهاجر الثورة كالطيور
تعود مثل النور
تموت كالجذور
تبُعث كالبذور
في باطن الأرض التي تسحقها الالآم والمجاعة). 
فالثورة لديه لا تباع ولا تشترى. لا تقبل أنصاف الحلول. ولا تسير مع التيار مثل ورقة شجر ميتة. ولا يتاجر بها النخاسون في أسواق أجهزة الإعلام بما يمنحونه من ألقاب محنطة، وما يرفعونه من شعارات ملونة مثقوبة مثل الخرز. كما لا تتأثر، أو تتغير بتقلبات الجو واختلاف المناخ. 
إنها تظل على عطائها، ثابتة مثل ثبات الشجر في وجه الريح، محددة موقفها الإنساني تحت كل الظروف، معتمدة دائما على الفكر النضالي الخلاق الذي يستهدف في الدرجة الأولى تحقيق كرامة الإنسان.. وخيرة، وتخليد نضاله ضد الأوبئة.. وأمراض التقهقر والخيانة. 
الثورة – لدى البياتي- موقف أخلاقي متصل.
ومن أجل هذا فهي، عبر كل الأزمنة، تهاجر من مكان إلى آخر، من (مكة) إلى (يثرب) من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الفرس والروم.. إلى جبل طارق. من (الأوراس) إلى عمق الجزائر. من جنوب لبنان إلى أعماق فلسطين. من (هانوي) إلى (سايجون). من (كوبا) إلى (بوليفيا). من أي مكان في أرض الله.. إلى كل مكان. 
عندئذ.. عندئذ يتسع أفق الثوار. يكتسب أبعادا جديدة باتساع السماء وعمقها. عندئذ يصبح الفناء بعثا، والموت شهادة، يصبح الفقر ثراء، والمنفى وطنا. عندئذ تضيء شمس الثورة نصفي الكرة الأرضية معا. تضيء كل عالمنا التعيس. 
لذلك فالثورة – لدى المحب الأعظم- لا تباع، ولا تشترى. لا تقبل أنصاف الحلول، أو اللعب على الحبال. وعلى هذا ظل البياتي وفيا للثورة والثوار في كل مكان، وتحت كل الظروف، معطيا كل ما لديه، بأحسن ما لديه، هاتفا من قاع قلبه: 
(لغتي صارت قنديلا في باب الله 
حياتي فرت من بين يدي. صارت شكلا والشكلُ وجوداً
فخذوا: تاج الشوك وسيفي
وخذوا راحلتي،
قطرات المطر العالق في شعري،
زهرة عبد الشمس الواضعة الخد على خدي ، 
تذكارات طفولة حبي، 
كتبي ، موتي
فسيبقى صوتي قنديلا في باب الله) 
خليفة الفاخري كوبنهاجن 13 /5/ 1987
وكأن الفاخري يقدم إلينا نفسه، وليس صديقه الشاعر عبد الوهاب البياتي!

مقالات ذات علاقة

خمسون.. أو القديسون والحصاد

سالم الكبتي

بناء الدول يحتاج الى رجال دولة

خالد الجربوعي

كل سنة وأنا بألف خير وبتحقيق الأماني

مفيدة محمد جبران

اترك تعليق