المقالة

1968 وطليعياته الثلاث!

نفتح بتقنية الأبعاد الثلاثية التي ابتكرها جان بيير هودين المُطبّقة على هرم خوفو بهدف كشف إبهامات سنة 1968 عام الطلائع الثلاث، وكأنها الأوهام: الطليعية الليبية التي برزت تظاهراً طُالبياً عمّق بفجئيته من التباسات المصير لليبيا الملكية 1951 ـ 1969 .فقد فتّح ـ بما تلقّفته عن ألسنة الكبار ـ يوم 15 ينايرعام 1968 رأسي بوعي الكلمات والأشياء بحدث محاكمة حركة القوميين العرب الليبين بمحكمة استئناف طرابلس، وكان من ضمن المقُبوض علىهم زوج أختي غير الشقيقة الذي ارتبطت به منذ عام، ومنها بدأ شعوري بالشر كما عبر عنه تودوروف، في كتابه “نحن والأخرون” الذي يقترب حثيثا مني وإن كان شخصياً لصغر سني وقتها، وإن استفزّ مشاعري فبضرره لم يمسني. وبالتوازي مع ذات الغور في التاريخ الملتبس للحرب الباردة بين القطبين العالميين، يتزعم الطليعي الماركسي الكسندر دوبتشيك دولة تشيكوسلوفاكيا، بتعيينه أمينا عاما للحزب الشيوعي، وكان قد أطلق في مؤتمر للكتاب التشيكوسلوفاكيين عام 1967 شعاره “الاشتراكية بوجه إنساني” فيما عرف لاحقا بـ “ربيع براغ”.

وكما يحدث في كوابيسنا العربية بأحلام الصيف حيث قمعت القوة المتحركة متظاهري طرابلس ليبيا غزت دبابات حلف وارسو تشيكوسلوفاكيا لاستعادة القبضة الشيوعية الصارمة على المروق التشيكي وإرغام القادة الجدد على التراجع. إلى اليوم لم يفارقني إحساسي المبكر بعلاقة الحرية بالثقافة وأنا أحدّق في صور دوبتشيك يبتسم عبر ورق المجلات، وشُبان تشيك وبنات يتظاهرون وبأيديهم لافتات وزهور في وجه العساكر والدّبابات.

الذي حدث في تشيكوسلوفيا عام 1968 والذي لحداثة سني لم أعٍ أبعاده كاملة، وعيت حصاده المتأخر وهماً في زيارتين لبراغ لشهرين ومرتين في عامي 97 ـ 1998، التباسهما بانشغال عائلي مبهظ لم يحل دون أن يفعماني حتى اللحظة بأفكار ومشاعر المجتمعات التي تتحوّل سياسيا ومجتمعيا وإن بشكل مختلف كمجتمعاتنا العربية اليوم. محامٍ التقيته على طاولة طويلة في حانة افتعلها التغيير للنقاش لخص لي إشكال التحول من الزاوية القانونية التي تعنيه باستعارة قطار يسير في وقت واحد وبشكل متوازٍ على سكة بخطين مختلفين ومثّل ذلك بفعالية القوانين ونفاذها التي تخص المِلْكية والأنشطة الأقتصادية: القانون الأشتراكي القديم الذي بالتوازي مازال وقتها يسير بجانب الرأسمالي المستحدث مُربكين معاً حياة المجتمع.

جريدة البلاغ الليبية الحاملة اسم “صوت الطلائع العربية الوحدوية” هي التي تبنت صعود حركة القوميين العرب الليبيين الذين برزوا لأول مرة في مظاهرات يناير عام 1964 الطليعية الليبية ينظر إلى مآل ما افتعلته في الماضي في أدبيات النقد السياسي الليبي اليوم بأنه الفعل الموهوم، لسياسيين شبّان تلقوا أفكاراً قومجية هلامية لاعلاقة لها بالواقع الليبي أنضجتها الصدفة بصدمتهم من هزيمة الجيوش العربية عام 1967، وتلاعبوا من الخلف بطلاب مراهقين، فكانت نتيجتها انقلاب العسكر المشؤوم عام 1969 ونظامه الأوتوقراطي الذي امتص رحيق الطليعية ودشّن للفوضى بكل أبعادها تلك التي نعيشها في واقعنا الليبي اليوم. وأبرزها الثورة التي قامت عليه في فبراير 2011 وارتفاقها بالعنف والسلاح وبدون طليعة ثورية بل حتى بدون ثوار.

أما حصاد الحدث التغييري البراغي فيما سمّي بالثورة المخملية، لأنه التبس بسياق التسيّسات الشعبوية الراهنة التي توسّلت بالانكفائية المجدّدة التي تتأسس على ديمقراطية شكلية بدون روح الليبرالية فلانستطيع أن نحكم عليه أكان منتصراً، أم مهزوماً؟. المثير للانتباه أن الحدثين البراغيين لاعلاقة لهما بمخمل الربيع فاسم ربيع براغ ألصقته أجهزة الإعلام الغربية، والأمريكية، لمغازٍ ندركها. فالحدث وقع فعلياً في أغسطس من ذلك العام أما المثير للالتباس فهو إلصاق إسم الربيع على الثورات العربية وهي ثورات ضد نظم لا تشبه النظم في شيء، كونها ديكتاتورية، عائلية، شبه إقطاعية، وأُتوقراطية فاسدة حتى نخاعها، مما أخرجها عن طبيعة نظم الدولة حتى المدارة من حزب حديدي بالاشتراكية في شرق أوربا الستينيات والسبعينيات.

الإحباط من ربيع 1968 الذي كتبه البراغي ميلان كونديرا روايات كـ : كائن لاتُحتمل خفته، والغراميات المضحكة، والضحك والنسيان، والحياة هي في مكان آخر، رأيت معالمه شبه واضحة في براغ عامي 97 ـ1998 السنة التي سيبتديء الكاتب الذي ألهم حراك عام 1968 ورئيس التغيير المخملي 1989 فاتسلاف هافل فيها كتابة مسرحيته “الرحيل”وهو يرى أوهامه تتلاشى كما تلاشت معالم “مقهى سلافيا” التي كان يتردد عليها مع كتّاب وفناني المعارضة السابقين، وقد ارتدتها بشكل شبه يومي في زيارتيَّ وقد تحولت إلى مقصف أكلات خفيفة وحلويات استهلاكي يشابه مقاصف ميونخ و برلين.

كُتاب جيلي السبعيني الليبي، الذين بدأت بواكير كتابتهم عام 1972 ووؤدت تطلعاتهم عامي 1976 و 1978التصقوا إلى حدٍّ ما بوصف الطليعية الذي سيكلفهم عقداً من أعمارهم في سجن الدكتاتورية 1976 ـ 1988. ربما اطلع بعضهم على حدث الطليعية الثالث 14 مايو 1968 الذي تتواقت ذكراه الخمسينية هذه الأيام وأعني ثورة الطلاب في باريس وبرلين المرفوقة بهاجس الثقافة، في كتابات سارتر ودوبريه وحتى ريمون آرون الذي كتب برؤية يمينية مؤلفه الشهير “أفيون المثقفين”. كيف يمكنني أن ألخصّ لهم وقد أنستهم المحن التي عصفت بهم، وللأجيال التي أعقبتهم الحدث الطليعي الذي عشناه بتطلعاتنا الثقافية المؤودة إلى اليوم.

الباحثة الفرنسية “لوديفين بانتينيي” تكلفت أربع سنوات من الإعداد للبحث الذي خصصتّه لربيع 1968 الباريسي بأن قرأت 25 مجموعة من محفوظات الأرشيف في محافظات نشط فيها المحازبون والنقابيون، مثل الشمال- با- دي- كاليه واللوار- الأطلسي، أو في محافظات اشتهرت بالاعتداد الإقليمي مثل الميز والكريز والبيرينيه الشرقية. كما اطلعت على المحفوظات النقابية والإدارية بإدارة المحافظ التي أرّخت للنزاع الحاد بين عمال مصنع ميشلان وبين أصحابه وإدارته يوماً بعد يوم. ودققت في محفوظات قصر الإليزيه الرئاسي، وتقارير قيادة قوة الأمن بباريس، وفي محفوظات شعبة المعلومات العامة لـ “98 محافظة”. وقرأت 10 آلاف بيان ونص طُبعت على آلة نسخ أودعت في المكتبة الوطنية، وإلى أرشيف عالم العمل في مدينتي روبيكس ونانت، وفي مكتبة التوثيق الدولي المعاصر بنانتير حيث حفظت وثائق صدرت عن لجان الأحياء.

من هذه المنظومة الحولية والوثائقية نخرج بخلاصة مقيّمة تستند على رؤيتين فكريتين الأولى: بلورها المفكر والكاتب البلغاري تودوروف اللاجئ الثقافي بباريس في كتابه “العيش المشترك” من قولة الفيلسوف بليز باسكال: “نحن لا نكتفي بالحياة التي تقوم فينا وفي كائننا: نحن نريد أن نحيا في فكرة الآخرين” وهنا المعالجة تقوم لا على مكانة الإنسان في المجتمع، وإنما على مكانة المجتمع في الإنسان، وهو التوجه الذي يشقّ طريقاً جديداً في حقل المعرفة، التي تزيدنا إيماناً بإنسانية الإنسان. مقابل هذه الرؤية تنهض رؤية المؤرخ فرانسوا هيرتزوغ فيما سمّاه في كتابه “تدابير التاريخية: الحاضرية وتجارب الزمان “بالنزعة الحاضرية أي ترجيح المجتمعات المعاصرة كفة العيش في الحاضر وصرف انتباهها عن الماضي والمستقبل. وهو يجيّر هذا التطوير في الرؤية إلى أحداث مايو 1968، مؤرخاً بدايات هذه النزعة بحركته. متذرعاً بأحد شعاراتها: “كل شيء، في الحال”.

لكن بالعودة لتودوروف نستطيع أن نقرّر حسب لوديفين بانتينيي أن حراكات مايو 1968 من باريس حتى برلين لم تنفك تطرح سؤال المستقبل، فتخيلت صوراً طوباوية بديلة، وفي الوقت ذاته، هجست بالماضي فأولت “عامية (كومونة) باريس” 1871 والجبهة الشعبية الفرنسية 1936، والحرب العالمية الثانية، وقمع تظاهرة محطة مترو الأنفاق “شارون” 1962، وأولت هذه الأحداث اهتماماً بالغاً. أما شخصنة التحرّر فبقيت مسألة سلوكات ثانوية. فالتحرر مفهومه ليس فردياً، على خلاف زعم شائع، بل إن شرطه جمعي.

____________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

أسئلة مشروعة

عادل بشير الصاري

أوراق الصباح 3

فوزية بريون

رياحين تعبق برحيق الفنّ وذاكرة اللّون وتبشّر بقيم الوطن والحريّة

المشرف العام

اترك تعليق