المقالة

وقـف التـنفـيذ

تتفق المشاهدة والقراءة في إحداث ذات الأثر لدى المتلقي، عندما يحفز العمل مقدرة المتلقي على تحقق مقاصد قد لا يكون كاتب النص نفسه قد أعطاها قيمة تقترب مما ناله المقصد الرئيسي للعمل المتمثل في الحدث الأساسي في القصة القائمة عليها الدراما.

وللمقارنة بين عملين أو أكثر يجمعهما رابط ما، دور كبير في إدراك حقائق الواقع، قد يكون منشاؤه توجيه المتلقي اهتمامه إلى جزئية صغيرة من العمل.

في الأيام القليلة الماضية شاهدت شريطاً سينمائياً من إنتاج دولة عربية، تبلغ درجة شد المشاهد أقصى مداها في الجزء الذي يتيح للمؤلف والمخرج الإمكانية الأكبر لشد أعصاب المتابع، وهو زمن تنفيذ حكم الإعدام على متهم تمت إدانته، فتمكن إحدى الشخصيات مؤخراً من وضع اليد على دليل البراءة، وتسلسل الأحداث بعد ذلك معروف، وتأتي الخاتمة بإيقاف التنفيذ وحصول ما تيقن انتـفاء حدوثه.

متابعة هذا الجزء من الشريط قادتني إلى مقارنة ذات الحدث في شريط آخر من إنتاج دولة متقدمة، أدركت حينها أن هذا الجزء من الشريطين يصلح لأن يضرب كمثل على أن امتلاك التقنية لا يعني التقدم، وأن مقداراً من التخلف يظل قائماً لا يبعده وجود كيانات مادية لمعدات حديثة.. فالتقدم هو الكيفية التي توظف بها التقنية لتحقيق مطالب الإنسان، وطبعاً هنا نستبعد المقاصد اللاإنسانية.

وسط مشهد وداع حزين يودع المحكوم عليه بالإعدام أحبابه، ليس كلاماً ولكن بنظرات هي محط تركيز المخرج، وبحركة شفاه مهموسة يؤكد من خلالها كل طرف للآخر بأنه يحبه كمساندة أخيرة لاجتياز هذا الموقف الصعب، وغير بعيد من المدن البريء الذي تفصله ثوانٍ عن تنفيذ الحكم توجد أربعة أو خمسة أجهزة هاتف من بينها واحد بلون مغاير، يرن جرس إحداها فيشير أحد المشرفين على التنفيذ بإشارة من يده تعني الانتظار لأن الهاتف الأحمر يرن، وفوراً يرد على الهاتف ويعطي أوامره بإلغاء تنفيذ الحكم.

هذا ما حصل في الشريط المنتج في دولة متقدمة، أما في الشريط العربي فإن جرس الهاتف الموجود في مكتب شاغر ظل يرن عديد المرات، وأخيراً جاء أحد الأفراد المارين بالقرب من المكتب ليرد.. يستقبل المكالمة ثم ينطلق مسرعاً خارج المبنى عابراً لساحته ليصده باب مغلق، يطرقه بقوة، ولكن لا أحد يستجيب، فيدفع الباب بشدة فيتمكن من فتحه ليجد نفسه أمام ساحة أمامية للمبنى يتجاوزها مسرعاً ليدخل إلى المبنى الذي يُنفذ فيه الحكم، استقبال المكالمة جعل حياة المدان البريء رهن سرعته في ايصال الرسالة.. لهذا يزيد في سرعته ويعجل الخطى في ممرات طويلة إلى أن يصل أخيراً للمكان المقصود ويبلغ الرسالة ويتحقق الحكم العادل بعد أن يئس صوت البريء من أن يجد إذن تصغى إلى الحقيقة.

حياة إنسان كانت رهن وصول رسالة بإيقاف التنفيذ، أسلوب الايصال مكنت له التقنية، ولكن رغم هذا الامتلاك لتقنية الاتصال في جزء من هذا الوطن العربي فإن أسلوب التعامل معها قلل من إمكانية تسخيرها لخدمة الإنسان لدرجة أنه مس حقه في الحياة.. في حين أن توظيفها لا يحتاج إلا إلى تركيب أكثر من خط هاتف تكون في متناول المشرفين على التنفيذ.

ولا أدري هل للنص القانوني وخاصة ما تعلق بحقوق الإنسان بتوفر أكثر من خط في مكان التنفيذ لديهم، وعدم وجود حتى خط هاتف واحد كما في الشريط العربي؟.

أتراني كما يقول البعض “واخذة الحكاية جديات” فالأمر لا يتعدى كونه مساحة درامية لعب فيها القاص والمخرج على شد أعصابنا.. أم تراني أنهي مقالي آسفة على حقيقة عجزنا في استغلال الفكر لتوظيف الآلة لخدمتنا؟، ليكون ما تناولته علامة من العلامات الفارقة بين مجتمع متقدم ومتخلف.

مقالات ذات علاقة

أين ليبيا التي عرفت؟ (25)

المشرف العام

ليبيـــــا ومجلة النـاقـــد اللندنية

المشرف العام

اللغة المقدسة

المشرف العام

اترك تعليق