قصة

وعد بربيع آخر

تأملت صورة والدها على الجدار،المزينة بشريط أسود عند حافتها العلوية، وهمست بالأسى:

–   لماذا استعجلت الرحيل؟…سحبت مظلتك التي كانت تحميني من تقلبات العواصف وغادرت،..لففت الحبل الذي كان يربطني بالناس حلقات تحت إبطك،وتركتني معلقة في الهواء بلا قيمة، مجرد إرث جاهلي غير مرغوب فيه….منذ لحظة سقوطي من رحم أمي وأنا أريد أن أعرف:لماذا تسللت الرحمة إلى قلبك وأنا أنفض الغبار عن لحيتك،فانزلقت دموعك وأنت تحفر قبري،و حرمت وأدي.

فرت دمعة من عينيها، فأدارت وجهها عن الصورة، تخبيء عنها الغربة والحزن، فاعترض بصرها صورة والدتها، المعلقة على الجدار الأخر، والمزينة أيضاً بشريط أسود، وهمست بنفس الأسى:

–   أنت أيضاً يا حنون استعجلت وأخذت حنانك معك، عانيت بما يكفي، عانيت الألم النفسي والجسدي، وعانيت الغربة مثلي،… ابتسمت لأحلام قلبي المتعثرة وقلت: غداً ستتعلمين أن المشي والركض والسباحة أوهام، حاولت أن تزرعي في نفسي الثقة أني إذا بحثت عن دفء القلب، فسأتوه، سأدخل السراديب المظلمة، سأصرخ فيها وحدي، أبحث عن كلمة ناعمة تأسر روحي، سأدفع ثمنها جسدي وبقية عمري، وأكتشف في النهاية أنها كانت من قاموس وبلغة أخرى آخرى غير قاموسي ولغتي.

ازدردت ريقها،ومدت خطواتها بالقرب من الصورة تستجديها الحنان، ثم مدت يدها تمسح بعض الغبار عن زجاج الصورة، و أضافت باكية كطفل يعتذر لأمه:

–   لم أستمع لنصيحتك التي رغبت في توفير التعب عني، حزمت حنيني وأشواقي ورحلت وراء قلبي، فأوصلني لدروب مقفرة، وأبواب مغلقة.

كانت تهمس بصوت مبحوح،ودموعها نهرين على خديها،….منذ متى لم تستطعم طعمها المالح؟!… منذ عام الحزن؟!…..منذ الفجيعة….منذ النكسة؟….حين أحست لأول مرة بالوحدة؟…فتساءلت عن تاريخ ميلادها الذي ضاع في ذاكرتها، وأضاء شعرها شموعه الفضية احتفالاً ليذكرها؟…تآمر الحزن مع الحزن، لكن بقايا حب لحياة زائفة، وأمال خادعة، كانتا العشبة التي تسكن الجراح، ويتراجع معها الألم خطوتين إلى الوراء.

لبعض الوقت،تشاغلت بالدنيا عن البكاء على الأطلال،وعض الأنام والتمني، ارتاحت للملاك الوظيفي الجديد، و شكرت في نفسها أولئك الذين سكنوها في هذا الملاك، ليس للمرتب الممصوص، ولا للزيادة الهزيلة،وإنما لأنه صار يلهيها عن عد البياض في فروة رأسها.

قفزت إلى ذاكرتها، رحلاتها اليومية في عيون الناس، فتراهم يصرون على إغراقها في بحار الشفقة، حين يعملون على مزاوجة خطوط التجاعيد على وجهها الذابل بسنوات عمرها الآفل،، فتحار وتتساءل: ما الذي سيداوي يتمها في عيونهم؟، وتصر هي على الطفو،على التحامل، على التناسي، على اللامبالاة

لكن الهزيمة كانت دائماً محطتها،فرت من يقظتها الأحلام، ورحلت من نومها الكوابيس، لملم قلبها جراحه وانزوى يبتهل حسن الختام، لم تعد تجتر اللحظات الأليمة حين رحيل الأحبة،لم تعد تستذكر جين أوستن  في كيفية التقاط العرسان، ولم تعد تجد وقتاً حتى للنظر إلى المرآة التي تطاردها.

طرق الباب، فمسحت دموعها بأطراف أصابعها، وقبل أن تعط الإذن بالدخول، دخلت زوجة أخيها سعيد، متلهفة مستعجلة:

–        خيرية، خيرية،..سيأتي الضيوف خلال ساعات، هل أساعدك في زينتك؟

وعندما لاحظت أخاديد الملح على خديها، أضافت:

–        أكنت تبكين؟ لا.. لا هذا لا يجوز، ستتورم عيناك.

فقالت خيرية في سخرية موجعة:

–        أراهنك على أن العريس أعمي، لن يلاحظ تورمهما.

–        قسمة ونصيب يا خيرية، ربما هو كبير في السن….

فقاطعتها قائلة:

–        بل عجوز متهالك، عجوز يهوى جمع النساء الأثريات.

–        ربما يكون عجوزاً، ولكنه أفضل من العزوبية.

–        قوليها صريحة، أفضل من العنوسية.

طأطأت زوجة الأخ رأسها، وهمزت:

–        لقد رفضت من تقدم لك وأنت لازلت صبية تنضحين شباباً وأنوثة.

فأجابت خيرية بإصرارها القديم:

–        رفضتهم لأن كل منهم أراد ضمي إلى ما يملك من أشياء جميلة.

–        وهل تغير الآن شيء، سوى أنك….

بترت عبارتها معترضة لاشتعال الموقف،فكرت قليلاً وقالت:

–   مزاجك متعكر جداً، على أي حال، قسمة ونصيب،تأملي أن تجدي معه السعادة والاستقرار، واسعي للحصول منه على أطفال يؤنسون وحدتك

سرحت قليلاً مع الإغراء، ورددت:

–        أطفال !؟

ثم أضافت كمن يرفض تهمة:

– وأنا في هذه السن، مستحيل !.

–   ربنا رحيم، أنسيت زوج إبراهيم التي صكت وجهها وقالت عجوز عقيم، وزوج زكريا الذي وهن العظم منه وأشتعل الرأس شيباً،ثم أنك أصغر من أصغر زوجاته.

لطالما ترددت هذه المقولة في مجاري سمعها،تلوكها أفواه زميلاتها المعلمات اللاتي ودعن سن اليأس منذ سنوات، ليقنعنها باغتنام الفرصة التي أتاحها القدر،ويحسدنها في نفور الحظ الذي طرق بابها.

وفي لحظات بكاءهن على أسرج عمرهن المحطمة، كن يتندرن بالعجوز الذي طمح لأخذ إجازة من هموم الحياة، استرجع مراهقته وطفق يشتري بماله نساء اليأس، يفر معهن من ضجيج الأطفال ومسؤوليات الأولاد بعد أن كبر أبناءه من الزوجة الأولى وفرت هي إلى أبناءها تحمي وحدة شيخوختها.

 ولكن كومة القلوب المحطمة التي كان ينتقيها بذكاء ومكر لتريح جيوبه من الإنفاق بوظائفهن خيبن ظنه، فاجأنه بأن أجسادهن الذابلة لا تزال تدخر بقايا خصوبة،فرزقن بطفل أو أثنين لكل منهن استبدلن بهم أحلامهن الموغلة في الرومانسية، والمذبوحة عند طرف طرحة الزفاف، بدفء الأمومة المتوشح بالخوف من الوحدة.

-أتسمعين، صوت أبواق سيارات أهل العريس، هيا عجلي.

رمت إليها بالأمر، وخرجت تنثر زغاريدها في أرجاء المنزل، وتفرش فرحتها بالخلاص من ميراث جثم على صدرها سنين عديدة بساطاً للضيوف القادمين، توزع الابتسامات والمجاملات استعداداً لمراسم الاستلام والتسليم.

جلست خيرية أمام المرآة، أمرها إلى الله، ستوقع معاهدة التنازل عن جسدها مقابل وعد بربيع آخر، لكنها حين تأملت وجهها في المرآة لم تره، أختفي في ضباب أسود، لملمت شظاياه في ذاكرتها وحاولت خلق الصورة من جديد، لكنها خرجت غريبة مشوهة مفزعة، أغلق الفرج بابه، وعلق المفتاح في رقبة الماضي، واختفى، راحت تنتف الكتل من شعرها المصبوغ وتصرخ:

–        وجهي، عيناي، وجهي، عيناي !

أكتضت الغرفة بالنساء الضيوف، تحلقن حول جسدها المتمرغ في أرض الغرفة، حملقت فيهن، وجوههن أيضاً مشوهة فارغة مفزعة، تحوم حولها في مدارات مغلقة، وصوت زوجة أخيها، يتردد في مسامعها:

– سعيد…سعيد…أختك ممسوسة….أحضر من يقرأ عليها.

مقالات ذات علاقة

الممحاة

خيرية فتحي عبدالجليل

الطباخة

عزة المقهور

قِط

المشرف العام

تعليق واحد

عائشة حسين جرهمات 14 يونيو, 2015 at 13:30

رائع مثل روعتك

رد

اترك تعليق