المقالة

هوامش تشكيلية

أن يكتب النقد الفني فنان تشكيلي فذلك أمر مألوف ومعروف ومحمود حتى، أما أن يتصدى للكتابة في النقد الفني غير الفنان التشكيلي ومعتمداً على ذائقته أو خبرته الأكاديمية فقط فذلك أمر غير مألوف ونادر الحدوث.

من أعمال التشكيلي سالم التميمي
من أعمال التشكيلي سالم التميمي

وعلى مستوى القطر الليبي كتب كل من الفنانين أحمد المرابط وعدنان معيتيق وأحمد الغماري والراحل عمران بشنة والقذافي الفاخري و علي العباني والطاهر المغربي وعلي مصطفى رمضان على سبيل المثال في النقد الفني وكل هؤلاء مارسوا الفن وعرفوا خفاياه وخبروا عوالمه وامتلكوا أسراره وبالتالي قدّموا ما هو مأمولاً منهم، كون الكتابة عن الفن توازي الفن ذاته وتقف قبالته كنص كاشف ومقدم للعمل الفني ومحاكي لجمالياته خاصة بعد بروز التيارات الفنية الحديثة التي تعتبر الغموض والتجريد بعضا من مكونات اللوحة البديهية، وحث المتلقي على تأويل العمل الفني والتفاعل معه بقوة هدف أساسي.

وثمة من النقاد والفنانين من يُقر بحاجة الفن – على بلاغته البصرية – إلى الكلمة على الدوام لتقريبه من الناس، في حين أن الكلمة ليست بحاجة للفن لكي تُبلِّغ مقاصدها وتنشئ جسورها.

ومن بين هؤلاء الذين تصدوا للكتابة النقدية دون أن يكونوا فنانين، الكاتب والأديب منصور ابو شناف الذي كتب سلسلة مقالات تناول فيها بقلمه الرصين بعض التجارب التشكيلية الليبية خلال العشرية الاولى من هذا القرن وقام بنشرها تباعاً في مجلة المؤتمر التي كانت تصدر عن مركز دراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، وهو الجهد المحمود الذي نأمل أن يتحول إلى كتاب يرفد المكتبة التشكيلية الليبية التي تعاني فقراً شديدا وشُحاً في القراءات النقدية والمراجع التاريخية التي ينبغي أن تواكب الإنتاج الفني وتضيئه بأدواتها الاستثنائية، وفيما تناوله الكاتب من تجارب كشف مواطن الجمال فيها وقام بمحاكاتها بالكلمات ومنحها أُفقاً أخراً وهيأ لها مجالاً للتحليق ومعانقة ذائقة المتلقين بكافة مستوياتهم، ذلك أن الكاتب إلى جانب جرعات التحريض على إعمال الخيال التي ضخها في سطور مقالاته، قام ومن خلال المقالات ذاتها بالتوثيق والتأريخ للحركة التشكيلية ممثلة في من قرأ تجاربهم وقاربها نقدياً، وهذا يبوئها إلى جانب كتابات الأخرين لأن تلعب دوراً مرجعيا توثيقياً للحاضر وللمستقبل، لأنها تزخر بالمعلومات والحقائق والوقائع والشخصيات إضافة إلى عمق تحليلها وغوصها في ثنايا الأعمال المقروءة، وهذا هو جوهر القراءات والأمر الذي يعول عليه دائماً.

ومن جانبه كتب الموسوعي الراحل خليفة التليسي عن الفن التشكيلي فأبدع كما هو متوقعاً منهُ، وكما كتب في مجال النقد الأدبي والترجمة والاشتغالات التاريخية تماماً، ويظهر هذا التفوق النقدي والقراءة الفوقية التي تختلف عن القراءة العادية – قراءة العوام – في تقديمه لكتاب ” رسومات ليبية ” للفنان المصري محمد حجي الذي عاش في ليبيا فترة من الزمن خلال سبعينيات القرن الماضي 1973 – 1977 وقام خلال ذلك برسم مظاهر الحياة في شرق ليبيا وغربها وشمالها وجنوبها ووثق فنياً بريشته وبأسلوبه المميز في الرسم الكثير من العادات والتقاليد وخصوصية المجتمع الليبي لناحية المعمار والأزياء والحُلي والطبيعة الساحرة بكل تلويناتها وتنوعها في الصحراء والبحر والمدن والقرى في كل أوقات العام وعلى مدار فصوله .

وفي تقديمه الذي جاء في بضع وريقات يؤكد التليسي على موهبة الفنان ويمتدح أسلوبه في الرسم ويعدهُ محظوظاً بعد أن اكدَ نفسه كفنان من فناني الطليعة، بعثوره على هذا الكنز الجمالي وهذا التنوع الخام غير المُكتشف وهذا العالم البكر الذي قامَ بمحاكاته وتصويره في لوحاته الكثيرة، والتليسي هنا يقصد البيئة الليبية وما تحتويه من تنوع بصري لا نهائي وغنى غير محدود أفلح الفنان في ترجمته إلى أعمال فنية خالدة، وهذا في نظر التليسي ما كان ليتم لو لم يتعامل الفنان بعشق مع هذا الكنز ويبحر في جذور اصالته، وهذا يترجم الصدق والوفاء اللذين عبّرت عنهما الأعمال ما جعلها تفيض بالود والمحبة والأُلفة، وكأني بالتليسي يريد أن يعمم قوله في موضع آخر ” العشق مفتاح الإبداع ” على هذه التجربة كما عمّمه من قبل على عديد التجارب الادبية، فالبيئة ملهمة ومثيرة كما يظن التليسي ونحن معه، والفنان مبدع وقناص ماهر لكل مظاهر الجمال التي سرعان ما تختفي وتضمحل مثلما تظهر وتتجلى، ولا ينسى في خضم تحليله للإنتاج الفن أن يُثمن مجهودات الفنان وما كلّفهُ ذلك من وقت وعرق ودراسة وتحليل وتنقل من مكان إلى آخر على رقعة زمنية واسعة.

الكاتب: منصور أبوشناف
الكاتب منصور أبوشناف

ويستمر التليسي فيشير إلى أن الفنان في قراءته للحياة في ليبيا بشقيها المعنوي والمحسوس كان كمن يكتشف ويتحسس جزء من نفسه أصيل وغائب وهذا سر من أسرار تفوقه الذي يجعله يتجاوز المهارة في الأداء باعتبارها شيء بديهي وينفذ إلى روح الأشياء وجوهرها حيثُ لا أحد يستطيع النفاذ والوصول ما لم يكن ذا بصيرة ثاقبة وفكر واعي ومدرك، وهذا الأمر يظهر في الكثير من لوحات حجي التي قام التليسي باستعراض بعضاً منها مثل لوحات ” تاسيلي ” و ” منقوشات ” و ” غدامس ” و “أشكال السجاد المصراتي ” وغيرها.

ويبدي التليسي خشيته من أن يُفسد على المتأمل والناظر إلى لوحات الفنان متعة تذوقها والتلذذ برؤيتها في حالة لو قام بتحليلها بعمق وإرجاعها إلى مضانها التاريخية، ولهذا فهو يُحيل إلى جمالها وروعتها البادية للعين والمستغنية عن كل شرح وتعليق بعمقها وجلالها ولا يتردد في وصف ما أنتجه حجي بالمعرض الذي تمثل كل لوحة فيه قصيدة شعر رائعة المعاني لفرط تأثره بفنيتها العالية وتماهيه مع روعتها.

وينبه التليسي إلى نقطة مهمة وهي مدي تأثير البيئة في الفنان ومدى قدرتها على الخروج به عن سياق المعتاد وجعله مبدعاً فالكثير  – في تصوري – من الفنانين من أطلقت البيئة والمكان خياله من عقاله، ومنحته هبة أن يحلق عالياً في عالم بلا حدود، وكثير من الفنانين ارتبط إنتاجهم الفني ببيئة معينة ومنهم من تخصص في رسم مكان محدد متأثراً بجمالياته وسحره الذي قد لا يلتقطه إلا فنان مرهف الإحساس بينما يمر عليه الآخرون مرور الكرام ولا يرون من جماله إلا النزر اليسير أو لا يرونه بالمرة أحياناً بحكم الأعتياد على رؤيته، ولهذا لا يستنكف التليسي على القول بأنه مثلما استفادت البيئة من ريشة الفنان فإن ريشة الفنان بدورها مدينة للبيئة التي فتحت لها أفاقاً جديدة للتعبير والتألق.

” هذا معرض مطبوع يتيح لك ما لا تتيحه المعارض العامة من فرصة الوقوف أمام كل لوحة واستجلاء معالمها وألوانها وموضوعاتها، وكأنني وفي هذه المقدمة سآخذ هذه اللوحات في دلالاتها العامة ونسقها الشامل الذي ينتظمها كما تنتظم المعزوفة المتعددة الأنغام في سلك من اللحن الواحد الخفي الظاهر، الصارخ الخافت، البطيء السريع، يعلو حيناً فكأنهُ الموج الكاسح ويهبط حيناً فكأنهُ همس العاشقين.

إننا هنا إزاء معرض لفنان وظّفَ طاقاته الإبداعية في اكتشاف المدهش والمذهل والرائع والمميز الأصيل في حياتنا، تسعفه في ذلك ثقافة فنية عالية وقدرة على التذوق لكافة الألوان الغالبة على هذه الحياة، فيضعنا أمام صورة يعتز بها الجميع لأنها ترسم حياتنا وتعبر عن صور حبيبة إلينا مألوفة لدينا رابضة في أعماقنا، هنا صورة لكل واحد منا في لحظة من لحظات تعامله مع عاداتنا وتقاليدنا وملامحنا الموروثة.

أنها عملية اكتشاف للبيت القديم الذي نسكنه فتحجب عنا الألفة اليومية أهمية ألوانه، حتى إذا رحلنا عنهُ في الزمان والمكان تذكرنا ما كان عليه من روعة وجمال “

هذا ما يشهد به التليسي للفنان محمد حجي الذي يعدهُ كذلك صاحب أسلوب خاص في رسم البيئة، يعتمد البساطة والواقعية والأقتراب من القاعدة العريضة – الشعب – ولا يُخفي إعجابه بالوجوه التي رسمها الفنان ايضاً لأنها تبرز ضمن ما تبرز شيئاً من عزة وشموخ أصحابها ومقاومتهم لظروف الحياة القاهرة، فما من وجه ممن رآهم التليسي ظهر كسيراً أو ذليلاً بل بالعكس طفحت كل الوجوه بالبشر والحيوية والتحدي الصارخ، وهذه في حد ذاتها التقاطة نقدية متفوقة للتليسي الذي استطاع حقاً ان يُقارب التجربة ويُصدّرها للمتلقي، بل حتى أن يحاكيها ويحاكي جمالياتها باللغة، أنها المقدمة التي أظهرت التليسي قارئا ومتفوقاً، للألوان والأشكال مثلما هو متفوقا في قراءة الأعمال الأدبية والتاريخ ووضعته رغم قلة كتاباته في هذا الصدد ضمن أوائل من كتبوا على التشكيل في بلادنا وتألقت كتاباتهم، لا بل اتُخِذت كمرجع وكوثيقة وشهادة تاريخية – والدليل عودتنا إليها في هذا المقال –

الأديب خليفة التليسي.
الأديب خليفة التليسي. | الصورة: عن الشبكة.

ملمح آخر أشار إليه التليسي عابرا على أهميته كملاحظة نقدية  وهو كثرة استعمال اللون البني بدرجاته المتعددة من قبل الفنان في أعماله وهذا اللون تحديدا يحيل إلى ليبيا وإلى البيئة التي نعيش فيها كلنا فهذا اللون يكاد يتخلل كل شيء هنا تقريبا في رمال البحر وفي صخور الجبال وفي كثبان الصحراء وفي أديم البساتين وفي المعمار وفي السجاد والحلي وفي ادوات الأستعمال اليومي  قديما وحديثا.

ثم يُعرِّج التليسي في سياق استعراضه للتجربة على المعمار الذي أجاد الفنان تصويره ببساطة آسرة، ويُنبِّه إلى أنه استأثر على جانب كبير من التجربة، وكانَ موضوعا رئسياً للعديد من اللوحات، فيما حلّ كخلفية للوحات أُخرى، الشيء الذي عكس الدفء والحنان والحميمية الاسرية – بحسب الناقد – وأظهرت الخطوط المتباينة وكُتل الظل والضوء جماليات المعمار التي تتوفر على عنصري البساط والعراقة دون إغفال تلك الأناقة الظاهرة للعيان، وهذا بطبيعة الحال يبرز خصوصية المعمار الليبي الذي تعود جذوره إلى ثقافات شتى وتأثيرات عدة مع رحلات المشارقة إلى الغرب والمغاربة إلى الشرق، ولا ننسى تأثيرات العمق الجنوبي الأفريقي ليكتسب عبر هذا الخليط المتجانس أصالته وفرادته وانتماءه إلى مرتكزات الحضارة العربية الإسلامية.

ويواصل التليسي تحليله لتفاصيل التجربة وخوضه في جزئياتها حتى أتى على جل مكوناتها الرمزية والتكوينية وعمق دلالاتها، وانعطف إلى آفاق ما كان للمتلقي والمتأمل أن يبلغها لو لم تساعده الكلمات والأفكار التي طرحتها المقدمة وتأخذ بيده نحو لحظات التجلي، وأتصور كذلك بعد كل هذه السنوات وبعد رحيل الكاتب أن الفنان ذاته أذهلته القراءة ووضعت أمامه ما لم يكن يخطر له على بال من مقاصد وانزياحات، وهو يؤثث لوحاته ويجيل بصره هنا وهناك باحثا عن منظر ليرسمه أو وجه ليجسده بالألوان أو فرح عابر ليقتنصه بريشته المتأهبة أو مظهر جميل ليقوم بتجميده على القماش قبل أن يزول ويصبح أثراً بعد عين، ومقابل احتفاء التليسي بهذه المجموعة الفنية التي تعد من النفائس والتي فرضت نفسها على المشهد الثقافي والفني وقت صدورها وحتى الآن، مقابل ذلك احتفى الفنان بشخصية التليسي وقام برسم بورتريهات رائعة للكاتب الذي استفاد منها لاحقا حين قام بتضمينها في مؤلفاته العديدة مثل المختارات الشعرية وبديوانه الوحيد وبقواميسه التي أصدرها لاحقاً، أو لعل هذه البورتريهات وضعت خصيصا لتُرفق بالإصدارات المذكورة.

وكمن يقر بتقصيره في الإحاطة بالتجربة يختم التليسي تقديمه بالأعتراف بأن هنالك الكثير من المعاني والدُرر التي يمكن أن يستخلصها المرء من اللوحات سيما وأنها متاحة للجميع حاضرا ومستقبلا، فالفنان في نظر التليسي كما جاء في ختام مقدمته ” يقيم بذلك نصبا تذكاريا مخلدا للعلاقة التي ربطته بهذه البيئة التي أحبها وأحبته وتذوق حياتها وعشق ألوانها وأكبرت هي مشاعره نحوها فكان من أوجب الواجبات أن تقابل هذه المشاعر الطيبة بتحية إكبار وإعجاب وأمل في مزيد من العطاء الرائع العظيم “.

ويُذكر أن المجلد الفني كان قد صدر عن الدار العربية للكتاب خلال سنوات الثمانينيات واحتوى على عدد كبير من لوحات الفنان محمد حجي الخاصة بليبيا التي زارها وأقام بها لسنوات عدة، وقام بتقديم الكتاب للقراء، الكاتب والأديب خليفة التليسي كما أسلفنا.


6 / 2 / 2020

مقالات ذات علاقة

كهف الضبعة

منصور أبوشناف

الثقافات الوطنية والاندفاع المغاربي*

كامل المقهور

ليلة رأسُ السنة

علي باني

اترك تعليق