قراءات

هل للظلِّ… قصائد؟

غلاف المجموعة الشعرية قصائد الظل
للشاعر محمد الفقيه صالح

(1)

يرتبط الظلُّ عند الإنسان بالضوء والمخيلة البصرية وصور مقارنتها مع الماديات الأصلية بشتى أنواعها. ولعل أبرز مقارنات الحِكَم المتعلقة بالظلّ هو المثل الشائع بصيغة السؤال والاستفهام الإنكاري (هل يستقيمُ الظلُ والعودُ أعوج؟). ولكن هل للظل قصائد؟ وهل تعبّر عن الذات الشاعرة وتعكس رؤاها أم تتجاوزها إلى مدايات متباينة أخرى؟ وما هي خصائصها ومواصفاتها؟ هذه بعض الأسئلة التي تسارعت إلى ذهني وأنا أقلب المجموعة الشعرية الرائعة (قصائد الظل)[1] الصادرة عن دار الرواد للشاعر الأنيق والدبلوماسي الأستاذ محمد الفقيه صالح، والتي أهدانيها مؤخراً مع كتاب آخر نشره متضمناً عدداً من مقالاته الأدبية النقدية والفكرية المتنوعة.

الأستاذ محمد الفقيه صالح صوتٌ شعريٌ مميز يمثل نضج قصيدة التفعيلة في الحركة الشعرية الليبية. تنتمي قصيدته بامتياز إلى عالمها الابداعي مكتظة بالعذوبة والأسئلة والإيحاءات التي تتهاطل من مفردات وصور اللغة الرقيقة المتراقصة بتعبيرات تفيض صدقاً وعشقاً لقيم الخير والمحبة وتنشد مستقبلاً يستوطنها ويحتفي بها وبالذات الإنسانية. والشاعر محمد الفقيه صالح هو أحد أبناء ليبيا النجباء. برز نبوغه العلمي والأدبي منذ مشواره الدراسي المبكر فنال بعثة حكومية لمواصلة دراسته في مجال العلوم السياسية وتخرج من جامعة القاهرة عام 1975. وعلى إثر ذلك عاد موشحاً بالتفوق الأكاديمي، وحاملاً في شرايين نبضه وثنايا فكره طموحاتٍ وأحلاماً بلون قوس قزح للمساهمة في برامج التنمية المجتمعية والارتقاء والنهوض بالوطن في مجاله، فأعتقل وأودع السجن مع آخرين عام 1978 وحكم عليه بالإعدام خفف إلى المؤبد، ليخرج بعد عشرة سنوات تبخرت من عمره بين قضبان السجن الحديدية ووحشته وعذاباته القاسية.

وبعد خروجه استعاد حرية جسده وفكره بشكل نسبي، تاركاً ماضيه خلفه دون أن ينساه أو يغادره، وأفرد جناحيه للحياة مجدداً، وابتسم للمستقبل فزرعه أمنياتٍ عديدة، ومضى يواصل تطريز نصه الشعري الحداثوي الجميل ليؤكد أنه مثل عود الطيب اليافع.. لا يزيده الاحتراق إلاّ شذى وعبيراً فوّاحاً. فمن يطالع مقدمته لكتاب صديقه البروفيسور علي عبداللطيف احميدة (ليبيا التي لا نعرفها)[2] على صعيد إبداعاته النثرية سيبهره عمق القراءة الناضجة وقيمة الإضافة المعرفية التي شكلتها تلك المقدمة لموضوع الكتاب التاريخي والتوثيقي الرائع. ومن يتأمل مقالته (سجنيات أو سوائح الكتابة في المابعد والمابين) التي تضمنها كتاب رفيقه في السجن القاص عمر أبوالقاسم الككلي (سجنيات)[3] ستتبين له قدرته وبراعته في تحليل تلك الالتقاطات التي أجاد القاص الرائع الككلي استدعاءها من رحم الذاكرة السجنية المقيتة ونفض الغبار عنها ونشرها بكل عذوبة فأحالها إلى حكايات جميلة مبهرة لذكريات مؤلمة قاتمة. أما من يطالع مقدمته (عن الكتابة ونزيف الغربة) لإصدار صديقه ورفيقه في السجن أيضاً القاص جمعة بوكليب (خطوط صغيرة في دفتر الغياب)[4] فلابد أن يصفق طويلاً للكلمة الرشيقة التي طرزتها تلك المقدمة، والعبارة الأنيقة التي شخّصت الحالة الإبداعية لدى بوكليب وإمكانياته في إجادة التعبير السردي بكل ما تحمله قصصه القصيرة من رصد مواقف تلقائية وجماليات حكائية.

أما حول اسهاماته في المشهد الشعري، فإذا كانت القصيدة الحديثة في ليبيا، التي ولدت في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، قد أفرزت السؤال النقدي المثير للجدل الشعري: هل لدينا شعراء؟… الذي طرحه الأديب الراحل الدكتور خليفة التليسي مع أسئلة أخرى في كتابه (رفيق شاعر الوطن)[5]… ولازال ذاك السؤال منذ الخمسينيات وحتى اليوم هو المحرك الأساسي لمعظم الدراسات النقدية الشعرية في ليبيا، فإن تحليل وتوصيف الشاعر محمد الفقيه صالح لمسيرة الحركة الشعرية في ليبيا واعتبارها مجرد إسهاماتٍ منعزلةٍ بنصوصٍ شعريةٍ فرديةٍ وليست صوتاً جماعياً يجسد تيارات شعرية ذات أهداف مشتركة[6]، وإجمالاً دعوته إلى (.. إعادة تأصيل الحياة الثقافية الليبية وإعادة تقديمها بناء على خصوصيتها. لستُ في حالة لوم، ولكن هي محاولة رصد وطرح لمشاغلنا وهموم تجربتنا الثقافية وكياننا في الثقافة العربية ولن نسهم عربياً وعالمياً إلا بالإسهام الداخلي – ليبيا – الدائرة الأولى لهويتنا..[7] وهذا بالتأكيد سيظل محركاً مهماً بقدر أهمية سؤال الراحل الدكتور خليفة التليسي، وإن لم يتلفت إليه الدارسون باهتمام كبير في الوقت الحالي، إلا أنه يعكس قراءة عميقة للمنتوج الشعري خاصة والثقافي عامة في ليبيا بكل أغراضه ومساراته وتوجهاته الفكرية.

(2)

يُعدُ الظلُّ محركاً إبداعياً ملهماً للعديد من الشعراء والكتاب على مر العصور. ويضم المشهد الأدبي العالمي الكثير من القصائد والمقالات حول الظل. فها هو الكاتب الياباني “جونيشيرو تانيزاكي” المتوفي سنة 1965م يصدر كتاباً بعنوان (مديح الظل[8]، وعلى صعيد الشعر العربي سجل الشاعر السوري “محمد الماغوط” حضوره في هذا المشهد بقصيدته النقدية السياسية اللاذعة (حكومة الظل[9] وكذلك الشاعر الفلسطيني الكبير “محمود درويش” برائعته الطويلة (مديح الظل العالي)[10] كما استهل نصه (قصيدة الظل) بالقول:

(الظلُّ، لا ذَكرٌ ولا أنثى
رماديٌّ، ولو أشعلْتُ فيه النارَ…
يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ
كنت أمشي. كان يمشي
كنت أجلسُ. كان يجلسُ
كنت أركضُ. كان يركضُ)
واختتمها بقوله:
(أقلِّد ما يُقلِّدني
لكي يقع الشبيهُ على الشبيه
فلا أراهُ، ولا يراني.)

فيا ترى ما الجديد الذي تحمله (قصائد الظل) للشاعر محمد الفقيه صالح؟ وهل يمكن القول بأنه استوحى قصائد هذه المجموعة من فضاءات أو ذكريات (شارع الظل) الواصل بين حي “رأس حسن” وشارع “جامع الصقع” بمدينته طرابلس أم المدائن التي يعشقها حتى النخاع؟ وما هي الإضافات التي يمكن أن تسجلها (قصائد الظل) التي ولدت خلال مرحلة نضوج مسيرته الإبداعية الزاخرة بالإبداع؟

(3)

ظهرت مجموعة (قصائد الظل) التي كتبها خلال الفترة من 2012 إلى 2015 بلا فهرس ولا مقدمة من مبدعها أو ناشرها، مشتملة على سبعٍ وعشرين نصاً، نُشر بعضها في مجلة “عراجين”[11] وتميزت كلها بالنفس الشعري القصير وعذوبة المفردة اللغوية ورنين أجراس الموسيقى الداخلية المنبعثة مدوية من بين سطورها وعباراتها الأنيقة التي امتزجت فيها الصورة الواقعية المستذكرة من رحم سنوات وشخصيات ومواقف ماضوية عديدة، مع ذاك الخيال المرهف اللذيذ المستلقي في أعماق النفس الإنسانية وأحلامها الملونة وتساؤلاتها المتفاوتة بين الانبساط والتألم إضافة إلى الأنفاس الصوفية الساكنة في مضامينه الروحانية.
وجاء استهلال مجموعة (قصائد الظل) بنصٍّ قصيرٍ غير معنون صاغه الشاعر كتوطئة أو مقدمة يستسمح فيها القراء بأن يتهيأ لاستقبالهم في رحاب بلاطه الشعري، منصباً نفسه ملكاً متوجاً يرتدي جبّة مملكته الشعرية كما رسمها خياله الخلاب:

(دعُوني
أيُّهَا العَابرُونَ
قبلَ أنْ تدخلوا
أرتدي جبَّة المُلكِ
وأضعُ التاجَ على رأسِي
لأجلسَ
بما يلزمُ من مراسم
على عرشِ الظلِّ)[12]

ويبدو من هذا الاستهلال أن الشاعر، لحظة ميلاد النصّ، كان يعيش فيوض تجلي وانبساط وارتياح غمرته بدفقات حلم جميل تقمّص فيه شخصية ملك القصيد، وهي حالة قصوى من الزهو والحلم والرغبة الذاتية، تجاوزت كثيراً صورة شاعر عربي بسيط يصدح بشعره لمستمعيه وسط سوق عكاظ. وحتى وإن لم يفصح الشاعر عن أسباب تلك الحالة الملهمة إلاّ أنها أثتت فضاءه الشعري، وهيأت المتلقي للإنصات والتحليق مع الشاعر في عوالم نصوصه الابداعية التي جاءت معظمها موثقة لصور حياتيه واجتماعية متنوعة تؤكدها وتبرزها إهداءاتُ بعضِها إلى أفراد أسرته وأصدقائه جمعة بوكليب وعلي عبداللطيف حميدة وحلمي سالم، أو استذكاراً لأحداث مؤثرة في مسيرة حياته مثل نصّه (كان يمكنُ ألاّ يكون) كاشفاً فيه عن حكم المحكمة الثورية التي أصدرته في حقه وبعض رفاقه سنة 1986 برفع الحكم من السجن المؤبد إلى الإعدام.

كل هذا يجعل النصّ الشعري عند محمد الفقيه صالح إضافة إلى مضمونه الموضوعي وحرفيّته الفنية، ذو قيمة توثيقية وحضور دائم في الحياة اليومية من خلال غوصه في روتينها الذاتي المعاش، وتفاعله معها، واعتباره شهادة حقيقية على مجرياتها بكل ما تحمله من أحاسيس مفرحة وسعيدة، أو أحداث حزينة مؤلمة، تظل جميعها تحمل تأثيرات ودلالات متفاوتة في المسيرة اليومية لمبدع النص، وتعرضها على المتلقي بكل صدق وأمانة. وهو في هذا الجانب يمثل امتدادً لا يختلف كثيراً عن مجايليه وعلى رأسهم الشاعر الفذ الراحل الجيلاني طريبشان أحد أهم رواد الحداثة في ليبيا، الذي تناول مبكراً التعبير والكتابة عن ذاته الإنسانية ومعاناتها المعيشية وعذاباتها النفسية في زمن ضجيج الصوت القومي وهدير التطلع الوحدوي والذي يقول عنه محمد الفقيه صالح (.. أهمية الجيلاني طريبشان أنه أول من كتب عن الذات وحكى عن مشاكله وهمومه في تلك الفترة “السبعينيات”. في إحدى قصائده يحكي عن مشاغله الخصوصية جداً: رجباني مقطوع من شجرة)[13]. وفي نفس هذا السياق يعلن محمد الفقيه صالح بيانه الشعري:

(.. سأفتحُ للتوِّ نافذَتِي
أتوحّدُ بالظلِّ
أغدو أنا والحفيفْ
وزقزقةُ الطيرِ
والعشبُ
معزوفةً واحدة.)[14]

وتأكيداً لهذا البيان والإعلان الصريح جاءت قصيدته “ستون”[15] معبرة عن ذاته الإنسانية الشاعرة في سرد ملبّد بحزن عميق يلتفت إلى سنوات العمر فيحتضن عددها الستيني ويعزف بها هذه السيفمونية الوجدانية الرقيقة بكل التفاصيل اللذيذة المتجلية سواء في فضاءها المكاني وقدرته على تأثيته، أو مضمون أنفاسها العميقة الغارقة في أنين الشجن المتوارى خلف مفردات النص أكثر مما ظهر منها على واجهته الزاخرة بالمشاهدات المادية وعناصرها الملموسة كحالة الجلوس والنافذة، أو الحسيّة كالآسى والتأمل، أو الطبيعية كالريح، والتي نسجت جميعها لوحة تشكيلية بارعة بألوانها ومعانيها الثرية. ولعل ما يثير الغرابة في هذا النص هو استخدام الشاعر مفردة “تشرين” للدلالة على شهر أكتوبر الخريفي العاشر الميلادي وهي من أسماء الشهور المتداولة في المشرق العربي وغير المستعملة في ليبيا:

(جَالِسٌ
وسنِّيني معي
قُربَ نَافذِتي
نتأملُ ما مرَّ
أو ما تسربَ من مُمكِن
فأهُـشُّ الأَسىَ
أو أُزِيجُ السِتارَ
فتبدو سماءٌ
وغيمٌ ينوسُ على مهلٍ
ثَمَّةَ الآنَ ريحٌ
تهزُّ الغصونَ
فيسقطُ من شجرِ العُمُرِ
يابسُ أيامِهِ
شمسُ تشرين تظهرُ
أو تختفِي
خلف ما يتصاعدُ من شَجَنٍ
والحديقةُ تبدو محايدةً
من خلال الزجاجِ)

ولا يقتصر التعبير الشعري الذاتي عن مناجاة شخصه وشؤونه الخصوصية بل يمتد ليطال البوح بمشاعره وأحاسيسه تجاه أفراد أسرته وصحبه وأصدقائه كما في نصّه (عهد)[16] الذي يهديه لابنته رنا:

(هَا أنذَا يا ابنتِي
مَا أزالُ مُقيماً على العَهدِ
أنْ تَشُبِّي أنتِ كمَا تشَائِين
وَأنْ أظلَّ أنا هكَذا
لاَ يشبُّ فيَّ سوَى الحنّينْ)

وكذلك نصه (هزيمة)[17] الذي يهديه لابنته رؤى:

(كيفَ آلهيتِني يا ابنَتِي
وجعلتِني أتنَاسِى
أنَّ طفلَك الوليدَ في التوِّ
كانَ سيَبُاغِتُنِي ذاتَ يَومٍ
وَيَزُجَّنِي
مُرْغَماً وَسَعيداً
فِي خانةِ الجُدُودْ؟!)

ونصه (حتّى وإنْ)[18] الذي يهديه إلى إبنه مروان وأندادِه وهو يُخاطبه:

(نعمْ..
يَا ابنَ حُلمي
أنتَ من ضربتَ بعصاكَ الأرضَ
فاهتزّتْ تحتَ أقدامِ الطغاةِ
وَرَبتْ عندَ التائقين
من أندادِي
إِلى قضَاءِ قيلُولةِ العُمرِ
أو مسائِه
تحت ظِلالِ الحريةِ
حتى وإنْ كانت غيرَ وارفةْ)

وخلال أكثر من ثلاثين سنة لم يصدر الشاعر محمد الفقيه صالح سوى مجموعتين شعريتين هما (خطوط داخلية في لوحة الطلوع)[19] و(حنوّ الضمة، سمّو الكسرة)[20] ولذلك فهو يعد صاحب تجربة شعرية مقلة في إنتاجها، ولكنه يبرر أسباب ذلك بقوله (… أسباب عديدة منها: أن فهمي للشعر يجعلني متشدداً أو عسير الحساب مع نفسي، أشرع في الكتابة ثم أغضُّ الطرف عنها، لأني أرى أنني أكرر نفسي كأنني أدور في نفس الدائرة، ولأنني أيضاً أعتقد اعتقاداً جازماً بأن الشعر كائن حيّ عصيّ، يمنحك القليل فقط إذا منحته كلَّ نفسِك، أما إذا منحته القليل فسيعطيك بظهره، أحياناً أناوش الكتابة الشعرية في مقطع أو صورة، وليس بتكريس وانصراف كامل، وأرى أنه ليس هناك من داعٍ على الإطلاق لأن يكرر الإنسان نفسه، أو يكرر الآخرين لمجرد أن يبقى على ساحة الكتابة..)[21] وهذا يتوافق تماماً مع ما أكده الشاعر الكبير مفتاح العماري في مدونته حين كتب عن الشاعر محمد الفقيه صالح (… ليس بمستغرب أن يكونَ مقلاً في إنتاجه الشعري لأنَّ له محدداتٍ ومفاهيم جمالية في التعامل مع الكلمات، إذ يقف دائماً على أرضٍ صلبة معبراً عن قيم رصينة ومواقف مشرفة).

الشاعر محمد الفقيه صالح

(4)

في روايته “صنعة الشعر”[22] يتحدث الكاتب الأسباني “خورخي لويس بورخيس” عن اكتشافه لغز الشعر، ويؤكد بأنه ذاك البديع الذي يمكن اختصاره في مفردتين فقط هما (عاطفة ومتعة). والتزاماً بهذا التوصيف الموجز والمكثف يواصل الشاعر محمد الفقيه صالح تطريز قصيدة التفعيلة بتقطيعاتها القصيرة المشابهة لتقسيمات هيكل الموشح الأندلسي مرتكزاً على حرارة ودفء وسمو مشاعره وعمق وغزارة عواطفه التي ترسمها بساطة العبارة الشعرية المنتقاة بكل عناية، وتمنحها دفقات روحه الشفافة الحالمة وهج النشوة والمتعة، إضافة إلى تواصله مع مشاهدات وأحداث المعاش وربطها مع الرؤى وأحلام المستقبل المفعمة بالأمنيات العذبة البسيطة. تلك البساطة التي لم تغفل حضور وخزات ومطرقات الأسئلة المحفزة والمحركة للعقل بأن يتدبر، وللفكر أن يستفيق كما ظهرت في قصيدة (مرآة)[23]:

(هلْ تَصْدُقُ المرآةُ
أمْ تهذي؟
فترسمُ صورةً لي
غيرَ مَا أرجُو)

ويستمر الشاعر في طرح السؤال في نفس القصيدة بحثاً عن إجابات تطفيء لهيب توقه للمعرفة، وتنشد الخلاص من أسر همومه وقلاقله، جاعلاً التناص البلاغي جرساً حسياً بالغ التأثير في تشكيل جمالية الصورة الشعرية:

(كيفَ السبيلُ
إلى الذي يبدو قريباً
موغلاً في البُعدِ؟)

والسؤال عند الشاعر محمد الفقيه صالح لا يتوقف، أو يقتصر على تموضع واحد وسط النص الشعري بل نجده يظهر في في مواضع كثيرة مختلفة، مثلما ورد صريحاً في مستهل قصيدته (غربة)[24] التي يهديها إلى صديقه الدكتور علي عبداللطيف احميدة لإيقاظ الذاكرة وبعث الحياة في المشترك بينهما من ذكريات ومواقف ماضوية:

(الذكرياتُ تميمةٌ
أم ملجأٌ للروحِ
من لفحِ التغرُبِ؟)

وتنهمر سيول الأسئلة في نفس القصيدة بخيارات إجاباتها القاطعة لتسافر بالنص بعيداً عبر خارطة أمكنة جغرافية عديدة داخل ليبيا وخارجها، وهو ما يعزز القول بأهمية أثر المكان في تخلّق النص الإبداعي وتأثر المبدع به أثناء صياغته:

(ودّانٌ أمْ سبها؟
طرابلسُ التي أحببتَ
أمْ يمنيّـتان أثارتا نقعَ الهوى فينا
بقاهرةِ المُعز؟
أمْ التي في تونس
اقتحمتْ مدارَك
قبل أنْ يمضيّ بها قدرٌ عني؟)

وليس السؤال المجرد فحسب من يتجلي بهياً في النص بل يجعله الشاعر مترابطاً مع الأمكنة التي فاضت بهجتها بالذكريات كما تزينت بها قصيدته (الشاعر في مدينته)[25] التي ضمنها أمكنة عديدة يعترف بعمق العلاقة المتشابكة معها ويعتبرها قطعة من كيانه المادي الجسدي، ووجدانه الفكري والحسي:

(يوقظُ نبضَ الأماكنِ:
قوس المفتي – سوق الترك – برج الساعة – سوق المشير –
ميدان الشهداء – سيدي حمودة – مكتبة الأوقاف)

ولا غرابة في أن تبرز خصوصية المكان الطرابلسي الجميل جليةً طاغيةً في نصِّ الشاعر محمد الفقيه صالح لأنه كما عبّر عنه (… المكانُ أكبر بكثير من كونه مكاناً، فهو يمثلُ الحضنَ الأساسي وهو بدايةُ علاقتنا الوجدانية بالموجودات والبشر وبنمط حياتهم. فيه تتشّكلُ ملامحُ شخصياتنا الأولى. طرابلس هي بالنسبة إليّ كل ذلك. عشتُ في طرابلس المدينة القديمة والتي هي أشبه ما تكون بمتحف حضاري تاريخي بسبب تعاقب الحضارات عليها بدءاً من الفينيقيين ثم الرومان ثم الحضارة العربية وبعدها حتى العثمانية، وكلها تركت آثاراً فيها. وقد نشأتُ إبناً لعائلة حرفيّة تعمل في طرق النحاس، وقد عملتُ مع والدي حين كان عمري عشر سنوات، لكنّ طرابلس حضرت بقوة مرعبة في روحي حين اقتلعتُ منها وكان هذا أشبه بالفطام ووجعه. لذا كان استحضار المكان كاستحضار الأمّ في لحظة يتمّ واقتلاع. السّجن هو هذا اليتم وهذا الفطام وقد حضرت طرابلس وكتبتُها في داخل السجن.)[26]. ولكن الإنشغال بعشق هذا المكان الخصوصي والجزئي لا يُنْسِي شاعرنا خارطة الوطن بأسره، ولا يختصره في إقليم واحد أو مدينة بعينها، بل نجد جوابه رداً حاسماً على شمولية المكان/ الوطن في فكره ومشاعره، وذلك عندما وجه إليه سؤال عن الوطن فرد عليهم رداً قاطعاً ببيت شعري استحضره من قصيدة عروضية كلاسيكية بعنوان (ليبيا موحدةٌ وتاجٌ واحدٌ) للشاعر الراحل أحمد قنابة: (ليبَيا طَرابلسُ وبرقةُ وأختُها… صنوانٌ، قلبُ كليْهِمَا فَـزَانُ).[27]

وفي الوقت الذي يوطن الشاعر محمد الفقيه صالح هذا البيت العروضي التقليدي في قصيدة التفعيلة الحداثوية فإنه يبعث رسالة واضحة مفادها تفتح روحه الشاعرة وفكره المستنير المؤمن بالميراث الشعري التقليدي ومناهجه الكلاسيكية، مع مواكبته للأشكال الحداثوية في الأجناس الابداعية كافة والتي من بينها النص الشعري تأكيداً على استمرارية الإبداع والإنتاج الأدبي والشعري والفكري بجميع أجناسه الفنية ومذاهبه التقليدية والمتجددة. إضافة إلى ذلك فإن هذا الرد يعكس الروح الوطنية لدى الشاعر محمد الفقيه صالح وهي مستمدة ومعبرة عن جيله بالكامل الذي تشبع خلال مراحل تكوينه الفكري بالمفاهيم الوطنية والقومية المناهضة والرافضة لمشاريع الوصاية والتقسيم والاستعمار الأجنبي. وهذا يؤكد بكل ثبات دور الشعر والثقافة في إذكاء الروح الوطنية وتعزيز اللحمة الواحدة والتعبير عن الهموم المشتركة وتوحيد الصفوف من أجل الوطن وحمايته من كل المخاطر والذي نراه متواصلاً حتى الوقت الراهن كما عبرّ الشاعر في نصه (يخضور)[28]:

(أتوسلُ إليك
أنْ تُدرِك وَطناً
تتناهشُه الأنيابْ
وقيَاصرةُ الخرابْ
يتبادلون نخبَ افتراسِهِ
من حضيضِ عليائهم.
أتوسلُ
أن تدركنا
قبل أنْ يصيرَ كلُّ طارقٍ غريماً
وكل طائرةٍ ورقية
حِـدْأةً
تنّقضُ على دجاجاتِ العائلة..)

(5)

تقول الحقيقة العلمية بأن التنوع والتعدد والاختلاف هو سمة الكون في جُلِّ مظاهره. وكذلك هنا تتنوع القصائد الرقيقة في هذه المجموعة الشعرية (قصائد الظل) وإن ظهر بها تشابه في اللغة والأسلوب والموسيقى فإن ذلك لكونها تستمد وجودها اللغوي من قاموس واحد، ومبدعها هو قلب وفكر ونفس شعري واحد، بعث فيها دفقة حيويته الضاجة بالعذوبة والموسيقى، وزرع بذور التأمل والسؤال في فضائها الخلاب، فاستعاد النص الشعري بها رونقه وعلو ذائقته بما توفر له من مقومات الجمال ودقة الصعنة وبلاغتها التي أبرزت سمو شاعريته وابتعدت فيها مفرداته البسيطة التركيب والعميقة الدلالة وصوره التعبيرية الخلابة عن دهاليز الغموض والرمزية القاتمة أو الوقوع في مستنقعات الركاكة الأسلوبية أو الارتماء في أسر الايقاع الظاهري المجلجل بالضجيج.

وأخيراً لا يمكنني القول بأن ما كتبته في هذه القراءة الانطباعية العاشقة تصلح لاعتبارها دراسة منهجية أو نقدية فنية لمجموعة (قصائد الظل)، بل أعدها تحية تقدير وإعتزاز بنصوص الشاعر محمد الفقيه صالح الذي ظل وفياً ومخلصاً لشكل ومضمون قصائد التفعيلة ومحافظاً على معاييرها الفنية والجمالية التي أمضيتُ معها وقتاً طيباً وحلقت في فضاءات عوالمها الشعرية العذبة، فنقلت لي الكثير من دماثة خلق الشاعر نفسه، وصور شخصيته الودودة وهذا – كما يبدو لي – أبرز مظاهر التفوق في النص الشعري الذي نستطيع من خلاله التعرف على شخصية مبدعه وأن نخرج بأحاسيس متدفقة بالحياة في الوجدان بكل حرارة ومتعة.

_______________________________________________

(1) محمد الفقيه صالح، قصائد الظل، دار الرواد للنشر، طرابلس – ليبيا، 2016.

(2) د. علي عبداللطيف احميدة، ليبيا التي لا نعرفها: دراسات منهجية في التاريخ والثقافة والمجتمع الأهلي، منشورات هيئة دعم وتشجيع الصحافة، طرابلس- ليبيا، 2014، ص 9-15.

(3) عمر أبوالقاسم الككلي، سجنيات، دار الفرجاني للنشر، طرابلس – ليبيا، 2012، ص ص 81-86.

(4) جمعة بوكليب، خطوات صغيرة في دفتر الغياب، سلسلة الهلال العربي، العدد 1، مايو 2013، القاهرة – مصر، ص ص 6-11.

(5) خليفة محمد التليسي، رفيق شاعر الوطن، المطبعة الحكومية، طرابلس – ليبيا، 1965.

(6) انظر مقالته: بانوراما الشعر الليبي الحديث، في الثقافة الليبية المعاصرة: ملامح ومتابعات، دار الرواد للنشر، طرابلس- ليبيا، 2016، ص ص، 11-23.

(7) الفصول الأربعة، طرابلس، العدد 103، السنة الخامسة والعشرون، أبريل 2003، ص 181.

(8) مديح الظل، جونيشيرو تانيزاكي، ترجمة الحبيب السالمي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1988.

(9) محمد الماغوط، شرق عدن غرب الله، دار المدى، دمشق، سوريا، 2005.

(10) محمود درويش، مديح الظل العالي .. قصيدة تسجيلية، دار العودة، بيروت – لبنان، 1983.

(11) مجلة عراجين، العدد 9، شهر فبراير 2016، القاهرة، ص ص 229-234.

(12) قصائد الظل، ص 3.

(13) الفصول الأربعة، العدد 103، السنة الخامسة والعشرون، أبريل 2003، ص 183.

(14) قصائد الظل، ص 5.

(15) قصائد الظل، ص 4.

(16) قصائد الظل، ص 6.

(17) قصائد الظل، ص 7.

(18) قصائد الظل، ص 18.

(19) محمد الفقيه صالح، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، مصراته، ليبيا، 1999م.

(20) محمد الفقيه صالح، منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام، طرابلس، ليبيا، 1376 و.ر (2008م).

(21) الشط، العدد 1000، بتاريخ 5/10/2010، ص 45.

(22) خورخي لويس بورخيس، صنعة الشعر، ترجمة صالح علماني، دار المدى، دمشق، سوريا، 2006.

(23) قصائد الظل، ص 13.

(24) قصائد الظل، ص 27.

(25) قصائد الظل، ص 46.

(26) صحيفة العرب العالمية، لندن، العدد 10269، بتاريخ 8/5/2016، ص 13.

(27) شاعر من ليبيا، أحمد أحمد قنابة، دراسة وديوان، جمع وتحقيق الصيد محمد أبوديب، مطابع دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، أكتوبر 1968.

(28) قصائد الظل، ص 52-53.

مقالات ذات علاقة

قصائد رامز النويصري الملونة

المشرف العام

‘ماريش مرة أخرى’ .. شكل تقني واع

سالم أبوظهير

إطلالة على ديوان «عمر آخر»

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق