ساعةَ الوصول أُفرغُها وأرتبُ الأغراض. عادت ذاكرتي إلى الـمَشهدِ الدَّوَّار: حقيبةُ السفرِ على الطاولة. أطوي الملابسَ.. أرتبها داخلها.
”تبِّي تسافر؟“
قال الطفلُ صديقي الذي اعتاد رؤيةَ هذه اللحظة في أحلامه. ابتسمتُ. نظرَ هادئًا إلى دميةٍ صفراءَ في يده الصغيرة. رفعَ صفاءَهُ برفقٍ: “خوذ هذي معاك.. العبْ بيها وأنتَ مسافر!“…
يا لجدِّية براءته! انحنيتُ على غدير عينيه:
حبيبي.. خلّيها معاك. أنتَ سفرُكَ طويلٌ أطولُ من سفري. ستحتاج إلى كلِّ أشياءِ عالـمِكَ الناعمِ. أنا سأهديك شيئا تجده يوم أرحلُ أطولَ الرحلات.. يوم يغطِسُ الحزنُ في قلبك تجده.. سأكتبُ لكَ:
أنْ تسافر يا صديقي الصغيرَ يعني أن تلمس سقفَ العالم وتطأ القاراتِ بخطواتكَ الطويلةِ. أن تتنفس كلَّ الأهوية. أن تشرب كلَّ الأمواه. أن ترى الله بكل الأديان. وأن لا تراه أيضا.. أن تعرفَ أنك قديمٌ قِدَمَ الأرضِ وأنَّكَ صدقًا ابنُ الكون، الترابِ المنثورِ مذ ولد العالم. لا شيء فيك جديد! كل ما فيك ذراتُ هواءٍ عتيقةٌ تراكمت وتراكمت فكوَّنتكَ كلَّكَ. تنفضُها عنك كل يوم.. تكسبُ غيرَها من حيثُ تمشي تستوطن وتتغذَّى. كل ذرة لها حكايةٌ. تاريخٌ بعمر الكونِ ذاتِهِ. هي من جسد أحد الأسلاف (أجمادٍ وكائناتٍ حيةٍ).. هي منحدرة مع الأنهار.. منهمرة مطرًا مُسافرًا.. تنفضها فيولد منها كائن آخر.. نحن كلُّ الكائنات.. واحدٌ نحنُ.. وواحدٌ نحن وما ليس نحن.. نرحلُ نعيدُ غبارَنا إلى أُمنا الكون.. نولدُ نسافرُ نلمسُ سقفَ العالم.. نطأ القارات بخطواتنا الطويلة.. نتنفس كلَّ الأهوية.. نشرب كلَّ الأمواه.. قديمون نحن.. مسافرون ولا منتهون…
المنشور السابق
المنشور التالي
حسام الدين الثني
حسام الدين الثني.
ولد في ليبيا بمدينة بنغازي، في 22 أغسطس 1984م.
ماجستير تنميط وراثي من جامعة هدرسفيلد، (هدرسفيلد، إنجلترا) 2012.
عملَ باحثا في جهاز المعامل الجنائية ببنغازي، ثم محاضرا بجامعة بنغازي.
يكتب النصوص الأدبية والمقالات منذ عام 2008م، ونشر نتاجه في الصحف والمواقع الإليكترونية العربية.
مهتم بفن الخط العربي، وفن الحروفيات. كما يقوم بتعليم فنَّ الخط العربي منذ عام 2006م. وأَطَّرَ ورشَ عمل في الحروفيات في ليبيا وتونس والمغرب.
عضو مؤسس لتجمع تاناروت للإبداع الليبي، ويشغل وظيفة المدير التنفيذي للتجمع منذ تأسيسه.
له تجربة بالعمل الصحفي، فكان مديراً لتحرير (ملحق الكلمة الثقافية) طيلة العام 2014م، كما وأشرف على الصفحة الثقافية لصحيفة (الرسمية) الليبية العام 2015.
صدر له:
حضرةُ السيد ظلي، شعر - عن وزارة الثقافة والمجتمع المدني بليبيا 2013.
نُشرت بعض نصوصه ضمن أنطولوجيا بعنوان "شمس على نوافذ مغلقة"، عن مؤسسة آريتي للثقافة والفنون ودار دارف للنشر.
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك