قصة

هستيريا الكتابة

 

بخطوه الثابت وقف أمام البائع.. بنظرة المتفحص، الباحث عن شيء ما وزع نظره بتبادل على محتوى المكان.. كتب مرصوصة من فرط تنظيمها يظنها الرائي نقشت على رفوفها.. أدوات مختلفة الأشكال، ومتعددة الألوان، مرتبة بطريقة تحار معها في الاختيار.. طابعات.. حواسيب.. أقراص، والمزيد المزيد مما تزدان به المكتبة…

تردد قليلاً في لفظ عبارته وكأنه يخشى رد فعل البائع ومن حوله:

– أرني أجود الأقلام وأرقاها.. وإن صدق القول أغلاها..

أشاح البائع عنه بوجهه سريعاً قبل أن يلاحظ مبلغ اندهاشه وامتعاضه مما قال.. لبى له طلبه… وبسرعة ترك المكان…

في مقهى يؤمه العديد من الأدباء والكتاب اتخذ لنفسه مقراً.. على طاولته المعهودة نثر أوراقه، وبسلة المهملات رمى العديد منها.. نظر باستخفاف لمن حوله قام يجر كرسيه بشكل عديم الذوق نحو شاب يرتشف قهوته، فيما أمامه مجموعة قصصية لأحد الكتاب الليبيين.

طارداً لغة الصمت بلغة الإشارة.. حيا الشاب الجالس أمامه، وتجرأ على البوح:

– خيالي يداعب السراب.. يجر الأسى كلماتي والأنين..  وحين تأخذني نشوة الكلمات أهيم مع قلمي..  وعند صحوي من هيامي، تبتعد عني كلماتي وعنها ابتعد..

عصره ألم مفاجئ لم يستطع معه التفكير.. تنبه لصمت رفيقه.. بدأ ضاحكاً وانتهى متهستراً، والخوف بادٍ على محيّاه عما عساه يكون رد فعل الشاب الجالس أمامه… انسد مجرى أفكاره… توترت أعصابه.. أومأ برأسه وقد بدت هزيمته تجر أذيالها… فقذف بكلماته:

– إذا لم تستطع أفكاري أن تصل إليكم.. وكلماتي أن تخترق حواجزكم.. فسلاحي الجديد سيصيبكم…

-… أمتلك الآن سلاحاً لرقيه وجودته وغلو ثمنه، بوسعه أن يصعد إليكم ويجتازكم…

– هكذا أنتم لا تعيرون كتاباتي اهتمامكم.. ذات يوم سيصدمكم الواقع…

-… لكن… لكن، عرفت السبب..

احتار رفيقه في أمره.. وظن أن تلك السنوات من البحث عن الكلمة، ومطاردة رواد المقهى من الكتاب بقصاصاته.. التي لا يعرف لها بداية من نهاية، ستصلح من حاله، وتجعله يعترف بحدود إمكاناته وقدراته… إلا أن سوءًا قد ألم به هذه المرة دوناً عن المرات السابقة.

تنبه جل من بالمقهى لما يدور من حولهم… تحلقوا حول طاولاتهم يتهامسون وينعتون الرجل بالجنون..

ذهل الشاب مما سمعت أذناه، ورأت عيناه… فخفق قلبه ألماً لحال الرجل… نظر إليه ليلحظ في عينيه ذلك الاضطراب الذي ازداد عمقاً… فجأة وجده يردد كلمات سبق له أن سمعها منه أثناء تلك الحالة التي أصابته:-

– عرفت السبب… عرفت السبب…

بأصابع مرتجفة فرك عينيه… شعر باليأس، لأنه كان متمسكاً بالأوهام، والجاذب الذي كان يشده نحو الكتابة، أمسى أكثر من مجرد سلك كهرباء مقطوع التيار…

جرجر رجليه مخلفاً شواهد لتذكره بعبق الماضي، بعد أن وجد صعوبة البقاء في واقع الحاضر…

ضيقاً لازال يعتريه، وهو يتذكر همسات الرجال، وتحلقهم حول طاولاتهم ونعتهم له بالجنون… رغم مرور عقد ونيف من الزمن على هذا الموقف..

سنوات أمضاها في القراءة والكتابة متجنباً كل ما يلهيه عن الوصول لمبتغاه… طغى عليه الارتياح مثل رذاذ ساخن في يوم شديد البرد.

نشر مجموعته القصصية الأولى… متوجساً الرفض، فصدمه قبول الأدباء والكتاب وحتى عامة الناس لها… أخرسته المفاجأة حين جاءه النبأ كصفعة أيقظته من ذهوله المؤقت.

أمضى ليلته يتقلب بين ما كان يتلبسه من يأس وبين سعادته الغامرة بمولوده الجديد… وعرف أن اليأس لا ينتعل إلا بالأمل…

2002.11.8 

مقالات ذات علاقة

قصص قصيرة

محمد دربي

واحة كبيرة تضج بالغناء

إبراهيم الكوني

وسادة مُثْقلة بالدموع

المشرف العام

اترك تعليق