قصة

نوار عشية

إلى أُمي محبة واحتراماً…كَتَبتُ هذه القصة بأنفاسها العطرة.

 

” نمشوا الساحل”!

كانت هذه العبارة إيذاناً بالسفر إلى خارج المدينة.

 طريق طويل معبد ضيق كدودة الأرض يوازي ساحل البحر، يقع في منتصفه “السبيتار” بسوره الأبيض المنخفض، وعند جامع “بن طاهر”، وتحديداً دكان الحاج “علي” المليء بالحلوى والبسكويت الملاصق للجامع اللذين يشكلان معاً ثنائياً معمارياً بسيطاً، تنزلق السيارة بنا من كوة أشواك الهندي إلى زقاق ترابي، لنجد أنفسنا وسط بلدة أخرى بأزقتها الترابية التي تحفها التلال العالية، والطوابي، والسواني الخضراء المعمرة بأشجار الفواكه واللوز، وجداول “الصفصفة” بسيقانها الرقيقة تتحرك في رقصة جماعية على هدهدة نسيم البحر، وشجر النخيل الشاهق المزدحم، والبيوت المربعة ذات الأسقف المفتوحة، تطل من جنباتها نباتات الهندي الدائرية كأنها عيون تحرس المكان وتتربص بالدخلاء.

تنزلق السيارة بيسر عبر الأزقة، تعلو وتهبط عند الحفر، وتستحث دواليبها الغبار وتستثيره، تُدخل الهلع على الدجاجات التي تسارع بأرجلها الضعيفة الصفراء تستبق أجسادها، تتطاير على جنبات الزقاق وهي تصيح، بينما الديك بعرفه الأحمر يقف شامخاً على تلة ترابية…

وبعد بضعة أمتار، دون انعطافة، تتوقف السيارة أمام بيتها.

كنا في أعمارنا البضة، على يقين من أنها قد تجاوزت المائة وأنها تطل علينا من زمن سحيق، يتجعد وجهها كجذع النخلة، لفحته الشمس كأنه تمثال من البرونز محفورة ملامحه بدقة، قصيرة القامة بفعل ظهرها المحدودب، تضع عصا من جذوع الشجر إلى جوارها، تتكيء عليها في رَوْحها وغدوها وقد التفت أصابع قدميها على بعضها، كالنوتة الموسيقية.

تلتف في رداء قطني، وتشد من وثاقه حتى يكاد منتصف جسدها أن يتلاشى، بينما يتسع جيب ردائها لكل شيء بما في ذلك مفاتيح غرف بيتها التي تشكشك عند حراكها. تغطي رأسها بـ”تستمال”، تنسدل من تحته “قُصة” حمراء اللون على إحدى عينيها، ينزلق غطاؤها من على رأسها من حين لآخر، ليظهر فراغاً لحمياً ما بين فرقة شعرها الذي يفضي إلى ضفيرة حمراء شحيحة ورفيعة. كانت ابتسامتها على اتساع فمها الواسع، تبرز منه ما تبقى فيه من أسنان.

وكلما خرجت من بيتها تضع لحاف ردائها على رأسها، وتقبض بفمها عليه، تستند إلى عصاها أو تتكيء على الحائط، لا تتجاوز حدود بيتها إلا لتعود إليه بخطوات بطيئة تعيقها أصابع قدميها المتشابكة كالبراعم عن السير.

كان للبيت باب واحد سماوي اللون، بعتبة اسمنتية، يفتح إلى الداخل، ما إن تجتاز أقدامنا تلك العتبة، حتى نجد أنفسنا في فناء مربع ذي أرضية اسمنتية، يقع في منتصفه بئر مغطى بقطعة غليظة من الخشب، يتدلى من حبله البني المفتول دلو أسود. وفي أقصى طرف الفناء دالية عنب يشق جذعها فضاء الفناء، وتتشعب أغصانها وبراعمها، تزحف على العريشة الخشبية، تنسج أوراقها المسطحة الخضراء سقفاً للبئر، تنتصب في إحدى زواياها نخلة سامقة بالكاد نتبين سعفها، يرتسم ظلها على الأرضية الاسمنتية، نلعب بجريدها المتساقط أو نتقافز بين ظلالها.

إلى يمين الفناء، حجرة فسيحة معتمة، مغطاة بالبسط، مفروشة أضلعها “بالمنادير” تفصلها عن الفناء عتبة اسمنتية أخرى، لا توجد بها نافذة. كان ينبعث منها من حين لآخر سُعال لرجل عرفنا أنه ابنها الأعزب ،لا ندخل الحجرة إلا إذا غادرها كالشبح لا نرى سوى ظهره المحني، وشعر رأسه الأشيب وهو يخرج من البيت.

يؤدي الفناء إلى فناء آخر أكثر اتساعاً، مفتوح بلا سقف، أرضيته مبلطة، تخرج منه أكثر من غرفة، أسقفها من جذوع الشجر. تنمو في أركانه شجيرات نباتات خضراء ضئيلة الحجم، هرمية الشكل، ذات وريقات رقيقة ناعمة الملمس، تظهر عروقها المتفرعة وتخترقها أشعة الشمس. ما إن يستوي المساء على امتداد السماء، حتى تبرز ما بين ثنايا وريقاتها أزهار مغمضة، تتفتح بألوانها البنفسجية والصفراء والحمراء “العكري”… وببزوغ شمس النهار تطبق أجفانها، وتختفي حدقاتها الملونة كأنها لم تكن. أما شجيرات العطر التي تتجاور معها فكانت أكثر كثافة وأشد اخضراراً، بسيقانها الغليظة و أوراقها المتشعبة القصيرة، ورائحتها الزكية النفاذة، وشح أزهارها البنفسجية الصغيرة.

بحلول المساء، تتحلق النسوة حول “عالة الشاهي”، ببراريدها الملونة المصنوعة من المعدن المطلي والكؤوس الزجاجية ذات الرقاب القصيرة المصطفة كطابور الجنود. تتربع إحداهن أمام العدة وتغطي قدميها جيداً بطرف ردائها، تضع على الكانون المتوهجة جمراته براد الماء، تبعثر فيه حفنة من أعواد الشاي الأحمر، ثم تبدأ في عزف سمفونية كركرة الشاي، ترفع أحد البرادين بيدها أقصى ما تستطيع.. تنهال بسيل الشاي الأحمر إلى البراد الذي تمسك به يدها الأخرى، ثم تقارب بينهما حتى يكادا أن يلتصقا، تعاود الكرة حتى تتكون رغوة صفراء تُلبس بها رؤوس الكؤوس الصغيرة، ثم تصب الشاي عليها فتزداد الرغوة ارتفاعاً كقبعات الخوص الأصفر. تختلط بالكركرة أصوات رشف الشاي، بينما تنبعث رائحة الكاكاوية وهي تحمص على الكانون و تطرقع شرارات النار ويعلو حسيسها. كنت أجلس القرفصاء في الفناء أمام شجيرات “النوار عشية”، أو أقعد على عتبة إحدى الغرف، أراقبها، أتحين اللحظة التي تتفتح فيها أزهارها، ولم أتمكن قط من اقتناص اللحظة، أشعر بالضعف وبأنها تلعب معي لعبة الاستخفاء وتتحين رَمْش عيني كي تتفتح، فأظل أفتح عيني بقدر ما أستطيع حتى لا تفلت مني اللحظة، لكنها تفلت.

كانت تجلس بين النسوة صامتة تداعب عصاها المُمدة إلى جوارها، لا يصدر عنها إلا أصوات رشفات الشاي العالية من حين لآخر، وحين تشرب الكأس الثالثة من الشاي تترك حبيبات الكاكاوية في قاع الكأس. تتطوع أصغر النسوة سناً لجمع الكؤوس من الجالسات وهي تدور بالسفرة بينهن، تتجه بها نحو حنفية مغروسة بين شجيرات “النوار عشية” والعطر، تمصمص الكؤوس بأصابعها ثم تدلق المياه على الشجيرات العطشى، تعود بالسفرة وهي تطرقع بأصابعها عليها وتدندن بصوت منخفض…”اسقي النوار في العشية… اسقي النوار مع الغالي بو عيون كبار، في العشية…”

يهبط الليل فجأة في “الساحل” وتتوقف الحياة إلا من حفيف سعف النخيل، تبرز النجوم في صدر الليل حتى تكاد أن تقع على الأفنية المفتوحة، نوصد الأبواب المطلة على الفناء ونغط في نوم عميق، وكما يهبط الليل، يعم الغرف ضوء النهار الباهر ويسبقه صياح الديكة.

زياراتنا إلى “الساحل” كانت متباعدة، وكنا في شهر رمضان، نحمل معنا بضاعة الحلويات من “سميد” و”دقيق” و “لوز” و “عسل”، نفرش بساط في الفناء الداخلي، تحيط بنا شجيرات “نوار عشية”.

تضع النسوة الإناء المعدني وسطهن، تخلط إحداهن فيه الخليط بيديها وقد سقط غطاء ردائها إلى الخلف، يصنعن منه الكعك المالح والحلو في شكل دوائر فارغة، و”المقروض” المحشو بالعجوة، و”الغريبة” المزينة باللوز الأبيض المقشر، ترصهن على “السفر” المعدنية الالومنيوم المستديرة. يأتي بعد ذلك دورنا نحن الصغيرات، نضع قطعا من القماش على رؤوسنا، ومن فوقها السفر المطعمة بقطع الكعك والحلوى ذات الأشكال المختلفة، نمسك حوافها بأصابعنا، وننطلق.. ننظر إلى خطواتنا، وما إن تتثبت ونعتاد السير في الأزقة الترابية ويدفيء قلوبنا الشعور بالثقة، حتى نرفع رؤوسنا ناظرات إلى الأمام بفخر، نلتفت من حين لآخر لبعضنا البعض في حركة آلية بينما أصابعنا لازالت تقبض على “السفرة” وتجذبها بثبات إلى قمة رؤوسنا، نترك خلفنا على التراب نقوش نعالنا أو دوائر شباشبنا البلاستيكية التي تنحسر فيها حبات الحصى، حتى نصل بها إلى كوشة عمي “مصطفى”. وبحركة آلية ندفع بجذوعنا إلى الخلف، وننزل “بالسفر” إلى الأمام، نضعها على أرضية “الكوشة”. تميز كل سفرة أمارة لا تخطئها العين، غالباً ما تكون كعكة مخالفة الشكل في مكان بارز داخلها.

كنا نعود إلى المدينة محملين برب التمر اللزج الأسود القاني، وماء زهر الليمون و العطر في موسميهما، و”الصفصفة” قرب عيد الأضحى، وثمار الهندي و البلح وأصناف التمر في الخريف، وأكياس الكسكسي الجاف. نترك خلفنا أشجار النخيل العالية يتسلقها الرجال “بالوصلة” تشدهم إليها وتحميهم من السقوط، يُعَكِّسون عراجينها ليسهل التقاط حبها الناضج، ويذكّرونها بزهيرات بيضاء هشة متطايرة في مواسم اللقاح، نراها تصغر شيئاً فشيئاً ونحن نقترب من المدينة.

لم نعد “نسافر” إلى “الساحل” التهمت المدينة ضواحيها وصُبت عجينة الاسمنت في أخاديد الأرض وبنيت الدور وسقفت، انتزعت من الهندي أشواكه فما عاد بقادرعلى المقاومة والبقاء، وسويت الطوابي بالأرض، وفرقت المباني أشجارَ النخيل، رحلت العجوز وأبناؤها وأحفادها الواحد تلو الآخر، إلا أن ما تبقى من شجيرات “نوار عشية” مازالت تزهر مع حلول المساء.

طرابلس 16. 11. 2009

مقالات ذات علاقة

نـــدم

خالد مصطفى كامل سلطان

من حصاد ذلك الزمان – بزنس

يوسف الشريف

جن مرضية

علي جمعة اسبيق

اترك تعليق