النقد

نقدُ النقدِ لكتاب (روايات نسائية ليبية) للكاتب يونس شعبان الفنادي … (نموذجاً )

أ. رقية محمد سعيد

كتاب روايات ليبية نسائية.
كتاب روايات ليبية نسائية.


النقد الأدبي هو علم يكشف النقاب عن كوامن النص الأدبي، وإصدار الأحكام عليه، لأنه فن يتعالق فيه ذوق الناقد و فكره محاولاً سبر أغوار جماليات النص أو عيوبه.

ولو التفتنا إلى الجذور الأولى للنقد نجده كان عفوياً شفاهياً أنطلق من سوق عكاظ آنذاك، حتى جاءت مرحلة التأسيس في عصر الخلافة، انتقالاً إلى عصر التأليف النقدي الذي تصدره سلام الجمحي بكتابه (طبقات فحول الشعراء) في العصر العباسي، من ثم أتت عصور أخرى تغيرت فيها ملامح النقد بشكل أعمق و ذلك من خلال اتصال العرب بالغرب وإخضاع النظريات الفلسفية اليونانية للتطبيق والممارسة وتناسل من أرحامها مناهج نقدية تتبنى مباديء معينة في مقاربة العمل الأدبي منها التي أهتمت بالنص باعتباره تعبيراً وانعكاساً لواقع المبدع كالمنهج النفسي والتاريخي والاجتماعي، ووصولاً إلى المناهج الداخلية التي تقوقعت في رحم اللغة والدال والمدلول والتي نادت بموت المؤلف، كالبنيوية والسيميولوجيه، والأسلوبية، حتى انبثاق نظرية القراءة والتلقي، والنقد النسوي، ونقد النقد، وقراءة القراء.

أما نقد النقد، أو ما بعد النقد، أو الميتا نقد هو خطاب ونفس مستحدث في المختبر النقدي الذي يتصدره القاريء الناقد. هذا ويرى فيه عبد المالك مرتاض بأنه “نقد ثانٍ يهدف إلى نقد النقد الأول بدافع الغمز والتهجين، والبغي والتنقيص”([1])، أما مصطلح ميتا نقد، فكلمة “Meta“ استعملت في العلوم الإنسانية ليقصد بها: انضياف شيء أو علم، أو يتخصص معنى من معنى آخر، لاقتضاء العلاقة المعرفية التي تتطلب ذلك”([2])، وهذا يعني كتابة عن كتابة بمعنى التعقيب أو المتابعة للنقد الأول.

هذا ويرى تزفيتان تودوروف أنه نقد حواري، فالنقد الأول هو حوار يلتقي فيه صوت الكاتب وصوت الناقد، ويردف هذا القول بأن هذا النقد يتكلم ليس عن المؤلفات إنما مع المؤلفات، ويمتنع عن استبعاد الصوتين الحاضرين آنفاً ([3])، بهذا وبذاك يعتبر نقد النقد امتزاج الأصوات واتساع دائرة الفكرة الرئيسة، ويصبح خطاب ثاني كحوار أو تعقيب فكري وابستمولوجي على الخطاب الأول، لهذا يسمى نقد النقد بكتابة الكتابة وقراءة القراءة.

أما عن محور هذه القراء النقدية ، فلا نريد في بداية الأمر الخوض في إشكالية مصطلح الكتابة النسائية أو النسوية، لأنه لا يخفى على أحد المكانة التي احتلتها الرواية النسوية اليوم، فنحن بصدد قراءة كتاب نقدي حول كتابة الأنثى، وأنوثة الكتابة، كتاب بعنوان روايات نسائية ليبية، الصادر عن مكتبة طرابلس العلمية العالمية سنة 2017م، للمؤلف يونس شعبان الفنادي الذي سنحاول الكشف عن منهجه النقدي ونظرته عن الكتابة النسوية في ليبيا، والقضايا الجوهرية التي عالجها من خلال الحوار والتعقيب بما جاء في لب المتن، حيث نجده استهل كتابه في ثاني عتباته بإهداء إلى أول روائية ليبية الأديبة مرضية النعاس، ومن ثم تأتي المقدمة التي اختزلت تاريخ الكتابة النسائية في ليبيا، وتتبعتها الارهاصات الأولى للكاتبة مرضية النعاس التي لها حق الريادة في الكتابة عن روايتها (شيءٌ من الدفء)، المنشورة في بداية سبعينيات القرن الماضي، وحتى صدور أخر رواية للروائية المبدعة نجوى بن شتوان سنة 2017م.

وعند سبر أغوار الكتاب في عتبته الأولى المعنونة (“الهجرة على مدار الحمل” ها قد حان وقتها)، وهي مقالة عن رواية (الهجرة على مدار الحمل) للأديبة رزان نعيم المغربي الصادرة عن دار الأوائل، بدمشق سنة 2001م نلتقي بمحاورة بين الناقد والمؤلف الضمني للنص حيث يصرح الكاتب يونس الفنادي في استهلال القراءة جازماً بأنه “يمكن القول بأن هذا النص هو سيرة ذاتية أو شبه ذاتية للكاتبة رزان المغربي”([4])، ثم نجده يغوص في العالم الفكري للنص، ومن خلال ذاك الغوص نكتشف أن النص يحمل ثنائيات شتى متضادة بين حياة البادية وحياة المدينة، وبين الحرية والتحرر بكل قيمه، والتحفظ والتقوقع في بيئة منغلقة بكل قيمها، وخاصة بين بطلة الرواية وحبيبها، وكذلك صراعاً بين القيم والعادات والتقاليد الراسخة، وثقافات دخيلة مستحدثة. ومن ثم يرصد الكاتب معالم الأمكنة التي زارتها بطلة الرواية، منها طرابلس ودمشق وسويسرا، وكذلك جنسيات شخوص الرواية. ثم ينقلنا الكاتب إلى قضية الايديولوجيا في الرواية وذلك بالتحدث عن التوجه الناصري والقومية العربية عندما يفسر جزئية من النص عن بطلة الرواية وصديقها “وهو من المصريين القوميين الذين تركوا بلادهم واختاروا الإقامة والعيش في ليبيا التي كانت تدعم التوجه الناصري”([5])، فغالبا ظهور حكايات الحب والعلاقات الإنسانية في الرواية النسوية تعد ضمناً رسالة إيديولوجية أو اجتماعية أو سياسية يحاول النص إشهارها أو نشرها.

ومن ثم نجد الكاتب يقتبس نصاً من الرواية الذي جاء عن الشخصية المحورية (زينة) “إليكَ أيها البدوي.. الذي نزع أوتاد خيمته من الصحراء، وغرسها على قمم جبال الشمال.. سأحبك مثل امرأة بدوية”([6])، يفسر الكاتب الفنادي هذا التصدير الذي سجلته الكاتبة لنصها بأنه اعتزازٌ ووفاءٌ تكنه لشخصية حبيبها عمر، ويشير إلى التناقض داخل المضمون الفكري بين البداوة بطقوسها وحياة المدينة بتحررها التي تتوق إليها البطلة، فمن مبدأ الحوار والتعقيب فأنا أرى البطلة تخاطب قيم البداوة التي لم تنفصم عن ذاتها فهي تحفر في أغوار الذات وتعود لجذورها وتتكلم بغلتها، وهذا يذكرنا بالشاعر نزار قباني عندما قال :

هنا جُـذُوري هنا قلبي هنا لُغتي فكيف أوضحُ؟ هل في العشقِ إيضاحُ؟

وهذا يفسر أيضا علاقة الشخصية بالمكان الذي طرحت فوقه روايتها وهو فضاءٌ يحمل عالميين بين طرابلس هنا ودمشق هناك. ويبدو واضحاً وجلياً تعلقها بالمكان، فدمشق تعتبر مكان ثانوي، أما طرابلس تعتبر مكان رئيس ويتضح ذلك من خلال النص الذي استشهد به الناقد يونس الفنادي “أفسحتْ لي طرابلس مكاناً في القلب.. وأخذت تحتضني بحنان بالغ، فصرتُ أرى طرابلس الأم الحنون”([7]).

لاحظنا أنَّ النصَّ مفعمٌ بالصوت الأنثوي، فالشخوص الرئيسة كلها نسوية، وكذلك وضوح دلالة الشخصيات الثانوية التي جاءت لإبراز ايديولوجيات وتوجهات الشخصيات الرئيسة، أي أن الكاتبة لم تقدمها حشواً في المتن.

وأيضاً نجد مؤلف الكتاب يسجل تواريخ مهمة جاءت في ثنايا الرواية، وأحداث سياسية تتعلق بالهزائم التي لحقت بالوطن العربي كالاستعمار الايطالي في ليبيا، والفرنسي في سوريا، وكذلك حادثة الانفصال بين دولتي الوحدة مصر وسوريا. ونلاحظ في نافلة القراءة أن الكاتب يؤكد في مقالته أنَّ الرواية تتعالق مع أجناس أخرى كالشعر والغناء. ونافلة في العتبة، إمكانية القول أنَّ الناقد طغى على قراءته منهجين نقديين هما النفسي والاجتماعي.

العتبة الثانية: (قُصيل) عائشة إبراهيم.. تستنطق جماليات المكان.

غلاف رواية قصيل
غلاف رواية قصيل

هنا نلتقي بالناقد يونس الفنادي يستنطق جماليات المكان، وينبه قرائه أن هذا النص اخترقه في محاكاة المكان وذكرياته من خلال الرواية الأولى للكاتبة عائشة إبراهيم. والكاتب يستهل مقاله بالإشارة إلى أهمية الفضاء المكاني في البناء الفني للرواية باعتباره العنصر الرئيس الذي تشيد فوقه الرواية، وكذلك شارحاً مدى التعالق بين المصطلحين المكان والفضاء في العمل النقدي. أما من خلال الاتصال النصي فقد لاحظنا عملية التقاء القارئ أو الناقد الضمني بالكاتب الضمني أو الذات الثانية لكاتبة النص في محاورة شيقة، وهذا لا يعني أننا نقصي المؤلف الواقعي، ولكن القاريء الضمني يريد التعامل مع النص المكتوب وكشف النقاب، ولا يريد الوقوف على النص من خارجه، وهذا يذكرنا بالأديب الألماني (ولفجانج إيراز) أحد مؤسسي نظرية القراءة والتلقي، الذي يرى بأن القاريء الضمني “يساهم في بناء دلالة النص، فهو يدمج كلاً من البنية المسبقة للدلالة الكامنة في النص والبنية التي يجسدها القارئ لهذه الدلالة الكامنة عبر عملية القراءة”([8]).

وقبل أن يستهل الناقد فك شفرات الفضاء المكاني ودلالته في (قصيل) نجده يضع مقاربات، أو تبايناً في تناول الفضاء في الرواية بين روائيين ليبيين، نراه يوضح أنواع الفضاء المكاني الجغرافي، والدلالي، والنصي، ومن بين هؤلاء الكتّاب عبدالفتاح البشتي عن روايته (مرسى ديله)، والفضاء الثاني في رواية (ليالي نجمة)، للروائي خليفة حسين مصطفى، وصور المكان في روايات الكاتب إبراهيم الكوني وغيرهم، مما يوضح مدى عشق الكاتب للهوية والأدب الليبي والإلمام بهما.

وقبل أن نعرج إلى تفسير الكاتب واستنطاق المكان، علينا التعريف بمعنى “قصيل” لُغوياً الذي لم يكن عبثاً اختياره كعنوان “قَصَل الشيءـ قصلاً قطعه قطعاً قوياً سريعاً. فهو مقصولٌ و قصِل. و الحنطة داسَها.ـ و الدابة ـ علفها القَصيِلَ.. والقَصيلُ : ما اقتطع من الزرع أخصر سريعاً”([9]).

وعندما نمعن النظر في تقصي الكاتب إلى تفاصيل المكان في رواية (قصيل) فنجده يصفه بأنه مكانٌ متماسكٌ ومترابط الأركان في كل فصول الرواية([10])، ويوضح لغة الكاتبة في رسم ملامح الفضاء بوصفها رصينة وقوية، خاصة أن الفضاء الجغرافي هو الجذور التي تنتمي لها صاحبة النص. ويبدو واضحاً جلياً، من خلال تحليل المؤلف، أن لوحة المكان كأنها صورة تعج بالحركة والحياة، وهنا يمكن القولُ إنَّ النص كان مفعماً بالصورة السردية التي تمنح الوصف الحركة والفعل، وكذلك يوجد به حيز للصورة الوصفية التي تركز على وصف الأشياء في سكونها.

كما يشير الكاتب/الناقد إلى تعددية الأصوات في الرواية، وبتتبع تقصي النصّ من خلال الكاتب واستنطاق ما هو موضوعي وفني، نجده يشير إلى البوليفونية في الرواية، وأنها تسجل أو تستحضر أحداثاً تاريخية، وعادت بالمتلقي للقرن الثالث الهجري “إن الساردة لم تعرض الأسطورة المكانية القديمة مجردة منعزلة أو منفصلة زمنياً عن محيطها البيئي، بل مترابطة في تواصل مستمر زمنياً بين تراث وأمجاد الماضي، وحكايات وتأويلات واعتقادات سكان الحاضر في بني وليد، ودور تلك الأسطورة فيما حلَّ بالمدنية من نكبات آلت إليه من مصير بائس”([11])، كما يرصد في هذه القراءة تيمة المضمون التي تختزل الصراع بين العادات والتقاليد، ومعالم الحداثة بكل صورها التي قدمتها الكاتبة من خلال ثنائية السرد والوصف لأركان المكان.

وبذلك نكون قد تتعبنا مدى تقصي الكاتب لجماليات المكان في رواية قصيل، وكيفية رصده لمراحل ازدهار المكان والحياة الصاخبة فوقه، وفي النهاية نجده يرصد مشاهد وقوف بطل الرواية (قصيل) على مظاهر انهيار المكان وانحلاله، وقد تجلت عليه ملامح الشيخوخة التي حلت به، وعن مشهد هذا الحدث يقتبس يونس الفنادي صورة سردية لقصيل ” كانت الجدران تنظر نحوي بأسى وعتب، وتقترب من لحظة النهاية مثل جَذْيٍّ يساق إلى المذبح، وكنت أعرف أنني لن استطيع أن أنقذها، ولا أنقذ المعصرة من جبل الفولاذ القاسي الذي يجثم بين عجلاتها، ولا أن أخلص الرصافة وركحها البارد الظليل من غاشم يوشك أن يقتلعها من مربضها الذي نبتت فيه منذ أن قامت الدنيا..”([12]) ويعلق الكاتب عليه بقوله “تسجل الساردة بكل صراحة موقف قصيل العاجز عن حماية مكانه وإرثه وتاريخه”([13])، ومن مبدأ التعقيب أتفقُ معه لأنَّنا في استهلال العتبة تعرضنا للتعريف اللغوي لاسم قصيل فهو العرف الهش الذي يقتلع سريعاً من الأرض، أليس في هذا المعنى إسقاط اختارته الكاتبة عن شخص أو فئة أو مجتمع بكل أطيافه هشاً ضعيف الحيلة إزاء الدفاع عن تاريخه أو مكانته أو مكانه؟.

أما عن المنهج المستخدم في متن هذه القراء، فقد مازج الناقد بين البنائية الداخلية للنص وخاصة بناء المكان، وسيوسولوجيا الأدب، وقدم بعض الدلالات على ذلك من خلال مجموعة اقتباسات من نص رواية “قصيل”.

العتبة الثالثة: صُراخُ الطابق السُفلي.. بعضٌ من تاريخنا المؤلم.

غلاف المجموعة عن صفحة الناقد منصور أبوشناف

(صراخ الطابق السفلي) هي الرواية الأولى للدكتورة فاطمة الحاجي الصادرة سنة 2016م، ومن خلال قراءة الكاتب لها وتتبعه للبناء الفني والسردي، نجده يستنطق النص تارةً من خلال الغوص في مشاهد الكاتبة الضمنية ومحاولة فهم ما وراء مقاصدها، وتارةً أخرى يحاور أفكار الكاتبة الواقعية لأنها قريبة من بيئته مكانياً وزمنياً، وهنا تكمن أهمية التفاعل بين الأطراف، لأن الروائي عندما أصدر نصاً للعامة فهو، أثناء الكتابة، وضع في دهاليز فكره فئة واحدة من قرائه قادرة على فك طلاسم ما كتب وسهولة وصول رسالته إليهم كاملة، بكل ما اكتظت به من هموم وقضايا حيال المنفيين والمهمشين والمضطهدين جراء جلّ انواع الاستبداد، سياسي كان أم ديني، أم فكري، أم اجتماعي.

ومن خلال سطور المقالة نتابع مع يونس الفنادي رصد سيرة شبه ذاتية للكاتبة، ومن ثم يصف الكتاب من خارجه وعدد صفحاته، ثم يلجُ عتبة العنوان باعتبارها نصاً قائماً بذاته، ومكثفاً بالمعاني والدلالات، لأنَّ “العنوان غدا علامة لها مقوماتها الذاتية مثل غيره من العلامات المنتجة للمسار الدلالي الذي نكونه ونحن نؤول النص والعنوان معاً، على النحو الذي يدخله في صلب اللعبة النصية، ويمنحه فاعلية أوسع على مستوى التأثير”([14])، ويفسر يونس الفنادي بأنَّ صراخ الطابق السفلي، عنوانٌ “موحياً بالتحرر من معاناة الكبت والصمت المكبل والقلق والخوف والرعب والعنف الذي عاشته الطبقة السلفي من المجتمع الليبي”([15]).

وهكذا من خلال تحليل العنوان يسبر الناقد يونس الفنادي أغوار نص رواية “صراخ الطابق السلفي”، ليطلعنا بأن عنوانها يوحي بالتحرر من كظمٍ وصمتٍ وكبتٍ طويل، فالكلمة الأولى في العنوان (صُراخ) تمثل منفردة نصاً ثرياً، فهي كلمة زاخرة بعدة رموز ودلالات، لأنه من الواضح أن الكاتبة حاولت إماطة اللثام عن أوجاع طبقتها أو الطبقة القريبة منها، فالكاتب أدرى بهموم وتطلعات الطبقة التي عاصرها وعاش وسطها، وراسماً ملامحها، وأسباب تدني مستواها عن الطبقات الأعلى منها، لأن الكاتب المفعم بالفاعلية في التغيير يصدر نصوصاً، ويرسم لقرائه حقهم في سلك منحنيات التغيير، وهذا ما لمسته في قراءة يونس الفنادي لهذه الرواية التي حاول بها إزاحة الستار عمّا يكنًّه أو يضمره النَّص، من اضطهاد سياسي وإيديولوحي في مرحلة زمنية من تاريخ ليبيا الحديث والمعاصر، ولاحظنا أن الكاتب والمؤول للرواية هو جزءٌ من الحكاية، بل وجد نفسه أحد شخوصها وهو يصرح أن الحكاية بكل مواقفها شاهدها واقعياً أثناء دراسته الجامعية، وأحداثها تمحورت عما كان يحصل في الحرم الجامعي، وعايش المعاناة النفسية القاسية ذاتها التي سردتها الدكتورة فاطمة الحاجي لأنها أعادت بصورة فنية وواقعية مفرطة كل مظاهر القمع والارهاب التي مارسها أصحاب الفكر الجماهيري على طلاب الجامعات آنذاك من قمع جسدي وتقييد للعقول ولجماً للفكر، وهنا يتجلى دور الناقد لأن قراءة المسكوت عنه في النص الروائي تحتلُ مكانةً هامةً في النقد العربي اليوم، فالمبدع يجد نفسه بحاجة إلى بعث إشارات تلميح للمتلقي، فهو ليس بوسعه طرح القضية بشكل فيها تفسير مسهب، لأن النص الروائي يقع “تحت سلسلة من الضغوط الداخلية والخارجية تجعله تحت رحمة سلطات قامعة وكابحة منها سلطات زمنية وأخرى روحية، وثالثة جمالية، إذ يقع الروائي تحت تأثير سلطات الدولة الامبريالية، والآخر في الدول النامية وتحت إرهاب الدولة الوطنية وأجهزتها القمعية والبيروقراطية”([16])، ولذلك فإن القاري الضمني هو وحده الذي يتمكن من تدوين وقراءة الميتا سرد ويكشف النقاب عن قصدية الروائي وتحريره من السلطات التي كبلته من دين وسياسة وعادات وتقاليد.

أما من زاوية نقد النقد وإمكانية التعقيب برؤية ثانية لاستنطاق عنوان صراخ الطابق السفلي الذي يحمل بصمة أنثوية خالصة، فالصراخ هنا صوت أنوثة الكتابة التي هدفها طرح القضايا بصوتها لا صوت الرجل وكسر صنم الهيمنة الذكورية، ونبذ هرمية السلطة المترسبة في العقول بين أعلى وأسفل، أو أعلى وأدنى، والتمييز بين ما يسمى الطرف الأول والطرف الثاني. فالطابق السلفي هنا يعبر عن السلطة التي تسير في منحنى رأسيٍّ، فالصراخ بالنسبة للكاتبة فاطمة الحاجي هنا يعني المقاومة والرفض والتمرد ، ونجد بصمتها في تسجيل جزء من وقائع حقيقية استشهد ببعضها واقتبسها يونس الفنادي مثل سؤال الساردة العميق الذي أتى بصوت سعاد بطلة النص ” كيف ينمو الحب داخل أروقة الجحيم، وكيف يحدث هذا تحت أعواد المشانق وعويل الأشباح، جوقه مصاصي الدماء، كيف يأتي هذا العشق متمرداً على كل الأعراف الوجدانية والكونية ليصبح قصة العشق الحارق الذي يبحث عن مرفأ؟ وكيف ينمو زهرة تحت حبل المشنقة وسط قفر الديار وعواصف الرمال الساخطة التي تلعن المباني والحكام والبشر في مدينة منحتها الالهة لثعابين وأفاعي الصحراء الكبرى أغلقت دونها الأبواب، مدينة تسمى طرابلس“([17]) هذه الصورة تختزل السلطة التي تمارس بشكل رأسي وتصور أيضا انفلات الكاتبة من كل القيود الوهمية التي يظنها الأغلبية أنها مقدسة، في صوة وصفية تجتمع في قيم الخير والحب والجمال والتي تختزل الإنسان الخلاّق، مقابل قيم الأرقل أو الأرقليين أولئك الذين تحكمهم الإرادة والعقل، وينبذون نهج الأخلاق فتحركهم النوازع البشرية الأولية مثل الجشع والطمع والاستغلال والمصالح الذاتية([18])، فالكاتبة تجمع بين متضادين أي بين الحب كمشاعر إنسانية نبيلة وبين مشاعر السادية وهمجيتها، وبين المدينة التي تحترم الحب وبين المدينة التي تقمعه، وبهذه الصور تختزل الكاتبة انغلاق بُنى المجتمع وتفكيره، وكذلك المشاهد الدموية للنظام السياسي.

وبالرجوع إلى تحليل الناقد الفنادي الذي استطاع تقصي وإظهار الميتا سرد من خلال صراخ الطابق السفلي، موضحاً أنه ليس هناك بطلاً محورياً في الرواية إنما البطل تحديداً هو الطبقة التي تمثل السواد الأعظم من مجتمعنا الليبي إبان مرحلة النظام السابق، وأن الرواية اختزلت وطناً بكل معاناته، ومن ثم يعرج إلى الجمال الفني في النص مؤكداً أن الرواية تنتمي إلى البوليفونية في سرد أحداثها وتحريك شخصياتها.

العتبة الرابعة: خريجاتُ قاريونس.. روايتان في رواية.

غلاف رواية خريجات قاريونس
غلاف رواية خريجات قاريونس

جاءت قراءة الكاتب يونس الفنادي حول رواية (خريجات قاريونس) للكاتبة عائشة الأصفر، الصادرة عن دار الهفاف للطباعة والنشر، دمشق سوريا، 2007، مقتضبة في خمس ورقات، ولكنها اختزلت بشكل مكثف العناصر الفنية أو السقالات التي تُبنى عليها الرواية من حبكة، وشخوص، وزمان ومكان، وأيضاً التيمات المكتنزة بها الرواية من قضايا اجتماعية وسياسية.

ويوضح الكاتب أنَّ النصَّ هو عبارة عن قصتين تسيران في خطين متوازيين، مزجت بين القص الواقعي والقص الأسطوري، وهذا الأسلوب في القص يذكرنا بالكاتبة التركية (إليف شافاق) في روايتها (قواعد العشق الأربعون) الصادرة سنة 2009م، فهي نص ذو نفس طويل مزج بين قصتين في آن واحد، الأولى ترجع إلى القرن الثالث والرابع الهجري واستحضار قطبي الصوفية في العالم الإسلامي (جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي)، والقصة الثانية معاصرة تدور أحداثها عام 2008م تمحورت حول بطلة النص (إيلا) المرأة الأربعينية اليهودية التي تتغير حياتها بشكل جذري عندما تعمل لصالح وكالة أدبية وتقيِّم نصاً روائياً عنوانه (الكفر الحلو) قبل نشره، والذي تتعرف من خلاله على معالم الصوفية وتنخرط فيها حد الانصهار.

ويمكن القول إِنَّ مثل هذا الأسلوب في القص يجمع بين ما يمكن أن يخفيه الكاتب، وما يريد الإفصاح عنه كي يطفؤ فوق السطح. لأن المرأة الكتابة تجد في الكتابة المتنفس عن المكبوت، والرواية تحقق لها ذلك وتساعدها في التخلص من أغلب الغيوم الملبدة، والاستفادة من هذه المساحة المتمثلة في ملكة بوح القلم عن المكظوم وغليان الذات من رفض وتمرد. وبذلك تلجأ إلى الرمز تارة، والتصريح تارة أخرى. وفعل كتابة النص الروائي هو الذي يخرجها من قمقمها المخبوء، و يضعها تحت الإضاءة التي تصنعها اللغة، بين إيحاء المفردات، ووطأة الرغبات، و هذا ما يميز القلم النسائي في التصريح عن الكبت التي تتقنه من خلال الإبداع([19]).

وعند تتبعنا للكاتب وهو يستنطق المضمون الفكري لرواية (خريجات قار يونس) يتضح بأن نصها يحمل مجموعة من التساؤلات الفكرية والفلسفية، ومن ثم يعرج إلى وصف اللغة وكيفية توغل الكاتبة في أسرار العربية، وجمال صاغيتها، مبرزاً متعة السرد، ومن خلاله يرصد تسلل فن الغناء الشعبي إلى لُبِّ النص، هكذا هى الرواية فن حميمي يمتلك صدراً رحباً يتسع للانصهار في أغلب الفنون.

العتبة الخامسة : (زرايبُ العبيد) معاناةٌ إنسانية تطرزها لغة متراقصةٌ.

غلاف رواية زرايب العبيد

يستهل الكاتب قراءته لهذا النص (زرايب العبيد) للكاتبة نجوى بن شتوان الصادرة عن دار الساقي، بيروت 2016، بالأشارة إلى قضية إنسانية تناسلت من مجتمع العصبية، فنجده أتى بصور من أدبنا العربي مستشهداً بمثال الشجاعة والشعر “عنترة بن شداد”، واقتباس أبيات من معلقته. والحقيقة أعجبني هذا الاستهلال المفعم بقيم العدالة والحرية، ضد التطرف والتمايز الجنسي. وبالرجوع إلى جذور القضية، وبالحديث عن “عنترة” الذي هو رمز الشجاعة المناهض للذل والاستعباد نستذكر بيت شعره المشهور الذي يقول:

لا تَسْقني ماءَ الحياة بذِلَّةٍ بل فاسْقني بالعزَّ كأسَ الحنظلِ

ومن ثم يذيل الكاتب يونس الفنادي استهلال مقالته النقدية بمكانة الكتابة النسائية في ليبيا اليوم والسُبُل التي سلكتها حتى وصلت هذا المستوي الإبداعي، وكذلك التفرد الذي نالته رواية “زرايب العبيد” عربياً وعالمياً.

وعند سبره وولوجه لمتن الرواية يوضح الفنادي أنّ العتبات التي تصدرت أبواب الرواية كانت منتقاة بعناية وأنها عتبات نصوص ذات معاني ودلالات، ولأهمية ذلك قام بتدوينها كاملة، قائلاً: “أن جميع عناوين هذه الفصول تتأنق كثيراً في ارتداء معانيها وتمثل مفاتيح حقيقية لكل متن تتصدره”([20])، ومن ثم يفسر التيمة التي يرتكز عليها النص، ويستنطق ذلك من خلال الغوص في دهاليز فكر الكاتبة الضمنية المنتجة للنص. فعندما يقابلك العنوان من كلمتين، “زرايب العبيد” فكلمة “زرايب” توضح وجع الفكرة في عمق الكاتبة، وهنا نجد الناقد يعلق بأن كلمة “زرايب إشارة إلى المستوى المتدني من المسكن، وهذه الكلمة مفردتها (زريبة) وهى غالباً ما تطلق على الحظائر التي تخصص في ركن البيت أو المزرعة لإيواء الحيوانات مثل الأغنام والأبقار، وبالتالي فهي لا تحمل أدنى مقومات المسكن أو البيت البشري الإنساني البسيط”([21]) ومن خلال توضحيه إلى ما وراء المصطلح كعنوان، الذي يحاكي كيفية التمايز الذي تتخذه بعض النفوس البشرية التي لم ترتقي لمعايشة الإنسانية، واحترام الجنس واللون والعرق والطبقة. فالزريبة المكان المغلق هو إسقاط على الإنسان الذي كبلت حريته ويعاني استلاب الإرادة.

وبعد تفكيك العنوان ينطلق الكاتب للنص مفسراً إياه من شتي نواحيه فنية وفكرية، والوقوف على المكان كفضاء جغرافي مفتوح، وكذلك معبِّراً عن اللغة التي مزجت بين الفصحى والعامية، ومن ثم يوضح العناق الحميمي بين النص والميثولوجيا والغناء الشعبي الليبي الذي جعل من النص حلبة تتصارع فيها الأصوات والأجناس، فعندما تقفز الموسيقى والغناء إلى النثر وتصل غالباً إلى حالة التوحد والتمازج؛ فإن هذا لا يعني أن الكاتبة تريد تضخيم حجم النص، إنما يأتي ذلك لخدمة فكرة ما في النص، وهذا ما رصده الكاتب يونس الفنادي عندما اقتبس مقطع الغناء في تحليله النقدي، موضحاً أنها ]الروائية[ اختارته بعناية لإيصال مدى القمع والأذى النفسي الذي لحق بمجتمع العبيد، فمن خلال تقصي أثر الكاتب في التأويل ومحاورته للنص يوضح إلى أي حد تمكنت الكاتبة من تعرية ظاهرة التمايز، وجلب كل المسكوت عنه في النص. وقد لفت انتباهي أنه أشار للمعجم النفسي في النص حيث قام باقتباس كلماتٍ مستخدمة ضد هؤلاء المضطهدين بيننا، ومدى وقعها على أصحاب البشرة السمراء. فعلى سبيل الذكر لا الحصر مفردة “شوشانة” مثلاً، لأنه في مجتمع العصبية ينشأ نظام يسمى “نظام تفاضلي القيمية والإنسانية”، وهذا التفاضل تدعمه التراتبية التي تقوم على التفاضل الإنساني، لازدراءها مبدأ المساواة في إنسانية الإنسان، وفي هذا النظام لا يعول الاهتمام على المساواة بين الناس، بل على السلطة التي هي فئة معيار التفاضل الاجتماعي والتمييزي([22]).

ومن خلال تقصي الكاتب يونس الفنادي لأثر الروائية نجوى بن شتوان في نقد الأدب، وتقصي الفنادي نفسه من رؤية نقد النقد يتجلى كيفية قدرة الرواية النسوية في اختراق البيئة وعبقريتها في ولوج الظلام للكشف والتجلي والإيضاح والإفصاح لأن “الحرية هي حقيقة الوجود الإنساني بأسره، فهي العملية الروحية التي تعبر عن مقدرتنا على تحرير ذواتنا، عن طريق الإبداع الواعي، والفعل الهادف فهي معنى الوجود الإنساني، وسعادته”([23]).

فالكاتبة قامت بتشرّيح مجتمع تمايزي وبطريركي بامتياز ذكوري بإفراط، يقصي المرأة، فكيف لا يحتقر ويستعبد المرأة ذات البشرة السمراء، ويأتي الفنادي باقتباس من الروية يوضح فيه جرأة الكاتبة في إظهار المسكوت عنه، وأساليب قمع الذات وسحقها، نقتبس بعضاً من ذاك الاقتباس :

“هذه ليلة يطيب فيها الشراب والرقص والغناء والحُبُّ والدلال إلى ما نهاية. خذي الحزام و احتزمي وارقصي.

ـ كلا، لا أستطيع. أطبق ذارعيه حولها ليس كما في السابق وأقعى على ركبتيه سائلاً:

ـ كم عمره؟

ـ منذ ليلة سفرك خُلق كتابه. هل تريده أم أسقطه؟”([24])

من خلال هذا الديالوج الذي تنازل فيه الراوي عن صوته فاسحاً المجال للشخصيات معبرة عما تكنه، تقدم بن شتوان صورةً يحضر فيها عصر ومجتمع الإماء بقوة في دهاليز الذات البشرية، لا تزال تلك العصور قابعة في الذوات وتمارس وتطفح فوق سطح الحداثة، وقد تحقق ذلك في النص، فالجنين في أحشائها السادة ُهم من يقررن حياته أو موته.

وبعد الانتهاء من قضية التمييز من خلال النقد السوسيولوجي للرواية يعرج الكاتب الفنادي إلى قضيةٍ أخرى في تحليله المتعمق لرواية (زرايب العبيد) وإيصال فكرة الظاهر والباطن لبعض أصحاب الخطاب الديني، ويظل تفسيره يحمل فك الرمز والجرأة في آن، خصوصاً وأننا جميعاً نعلم مدى شراسة هذه السلطة، وقوة جذورها التي تربطها مع باقي السلطات.

العتبة السادسة و الأخيرة: الدكتورة فريدة المصري تحكي عن تفاصيل روايتها (أسطورة البحر).

غلاف رواية أسطورة البحر للدكتورة فريدة المصري

هذه المقالة تبرز اختلافاً عما سبق من تحليل ونقد للنصوص الروائية، ففي هذه العتبة نلتقي بحوارية بين الدكتورة فريدة المصري، والكاتب يونس الفنادي حول روايتها الأولى “أسطورة البحر: رواية الروح” الصادرة عن دار الفرجاني بطرابلس سنة 2015م، من خلال مقابلة إذاعية تم اللقاء والحديث فيها حول النص بين كاتبة واقعية وقارئ واقعي، من خلال حوار تفاعلي شخصي مباشر (سؤال وجواب) عبر أثير إذاعي مسموع، حيث يستهل الكاتب الحوار بالتعريف بالرواية ثم بالسيرة الذاتية للكاتبة.

وخلال هذا الحوار يقدم الكاتب أسئلة مهمة حول النص مثل سبب اختيارها للمكان المفتوح لأن البحر الذي تقصده الكاتبة هو شاطي عروس البحر، وكذلك الحديث عن وفائها لمدينتها هو الذي جعلها تكتب عنها نصاً تُحِسُّ أنه نابع من دهاليز الروح.

أما السؤال عن أسباب اختيارها عنوان أسطورة البحر فتصرح الكاتبة أنه مستوحى من كتب الأساطير التاريخية القديمة حول مدينة طرابلس. وتضيف أنها رسمت معالم المكان الطرابلسي لإيصال صورة واضحة عنها لقراء العالم، وكأنها أحد شخوص الرواية، وتعلل وتوضح ذلك بأنه جزء من ذكرياتها في البيئة التي تنتمي إليها، وكذلك أهمية الزمكان في بناء النص الروائي، ووضع الثوابت مقابل المتغيرات، فالزمان متغير تتبدل فيه أحوال الإنسان، أما المكان فهو ثابت محافظ غالباً على ملامحه رغم مرور الأزمنة عليه.

ويطرح الكاتب/ المحاور يونس الفنادي سؤالاً مهماً، حول سطوة المكان في الرواية، فتجيب عليه الكاتبة بأن طبيعة المكان هي جزء مهم في تشكيل شخصية الإنسان، من خلال الطبيعة الجغرافية والاجتماعية من عاداتٍ وتقاليد، وهى التي تنتج هذا الاختلاف في أنماط الشخصيات، ومن الطبيعي أنّ الكاتب عندما يختار شخوصاً لروايته فإنه يكتب من هذا المنطلق، لكي تأتي الشخصية متماشية مع المضمون الذي من أجله يبنى النص.

وكما نستنتج من خلاصة هذه الحوارية أنَّ لُبَّ النَّص هو محاكاة المعالم التاريخية للمدينة القديمة من الداخل والخارج، من خلال حياة الإنسان فيها واستحضار تاريخها، وكذلك التسامح والمعايشة بين الأديان في رسالة إنسانية.

كأنها الخاتمة

(إنَّ المرأةَ قادرةٌ … فقط نوِّرُوا عُقُولَكُم)([25]) … جملتان أطلقهما الكاتب يونس الفنادي معبراً عن قدرة المرأة في خلق مناخ إبداعي يساهم في التغير ومعالجة كل المعضلات التي تعيقها، ومن خلال كتابه “روايات نسائية ليبية” الذي يعدّ من المصادر المهمة في النقد حيال السرد النسوي في ليبيا، فجلّ النصوص الروائية المختارة من قبله يبدو تاريخ صدورها متقارباً جداً، كما أنها غالباً تمثل النص الأول أو التجربة الروائية الأولى لكل كاتبة منهن.

ومن خلال تقصي الكاتب وقفنا على حقيقة هذه الروايات النسائية الليبية التي تم استنطاقها بطريقة نقدية حوارية، تعج بقضايا الفن والحياة، وقدرتها على الولوج إلى العوالم السرية، وطرح قضاياها بطريقة يغلب عليها الإسقاط، فغازلها الكاتب تارةً بالمناهج ذات الإحالة الداخلية للنص، وتارةً أخرى من خلال المناهج ذات الإحالة الخارجية للنص، وقد وفق في بعضها ولم يوفق في أخرى.

فرؤية الكاتب للمضامنين في هذه الروايات رأيناها بصورة كأنها مهرجان تتعدد فيه الأصوات، والحوارات، والديالوج، والمنولوج، والشخوص، والرواة، وما يسمى بالرواية البوليفونية. ورأيناها أحياناً أخرى كأنها حلبة تتصارع فيها الأجناس الفنية فجمعت النصوص، بين الغناء الشعبي، والشعر الشعبي، والميثولوجيا، والمألوف، وهو ما يسمى بتعالق الأجناس، فكل الأجناس التي ولجت نصوصهن وظفت لخدمة الفكرة.

الروائية الليبية اليوم هى في خضم مواجهة البنية الفكرية القاصرة، ومعتزة بالانفلات من قوقعة الاستهلاكية والشيئية، وتحولها من المفعول به إلى الفاعل المنتج للنص المنتصر للقضايا الإنسانية. فالمرأة الكاتبة أقوى مما تظن هى نفسها، وأكثر مما يظنه الأخرون عنها.


المصادر و المراجع:
ـ إبراهيم مصطفى، حامد عبد القادر وآخرون، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية القاهرة الطبعة الخامسة.
ـ يونس شعبان الفنادي، روايات نسائية ليبية، منشورات مكتبة طرابلس العلمية و العالمية، الطبعة الأولى 2017.
ـ علي عفيفي، نظرية القراءة في روايات عبد الحكيم قاسم نموذجاً، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة، الطبعة الأولى 2017.
ـ عبد المالك مرتاض، في نظرية النقد، دار هومة الجزائر، الطبعة الثانية، 2002.
ـالعموري زواي، شعرية العتبات النصية، دار التنوير الجزائر، الطبعة الأولى 2013.
ـ فاضل ثامر، المقموع و المسكوت عنه في السرد العربي، الناشر المدي، الطبعة الأولى 2004.
ـ عبد العزيز قباني، العصبية بنية المجتمع العربي، دار الآفاق بيروت الطبعة الأولى 1997.
ـ كريمة محمد بشيوة، الحرية في الفكر العربي المعاصر، دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتأليف طرابلس، الطبعة الأولى 2009.
ـ الأخضر السائح، سرد المرأة وفعل الكتابة، دراسة نقدية في السرد و آليات البناء، دار التنوير الجزائر، الطبعة الأولى، 2010.
ـ تزفيتان تودوروف، نقد النقد رواية تعلم، ترجمة سامي سويدان، دار الشؤون الثقافية العامة العراق، الطبعة الثانية.
ـ بلقاسم فوضيل، تجربة نقد النقد عند سليمان( كتاب مساهمة في نقد النقد) مذكرة مكملة شهادة الماستر في ميدان اللغة و الأدب العربي، جامعة العربي بن مهيدي، أم البواقي، جمهورية الجزائر.

الهوامش
[1] ـ عبد المالك مرتاض، في نظرية النقد، دار هومة، الجزائر، ط2002، ص 227، نقلاً عن بلقاسم فوضيل، تجربة نقد النقد عن نبيل سليمان، كتاب مساهمة في نقد النقد، مذكرة مكملة لنيل الماستر في اللغة، كلية الآداب و اللغات، جامعة العربي بن مهيدي، أم البواقي جمهورية الجزائر.
[2] ـ المصدر السابق ص 221.
[3]ـ ينظر: تزفيتان تودوروف، نقد النقد، رواية تعلم، ترجمة. سامي سويدان، مراجعة ليليان سويدان ، دار الشؤون الثقافية العامة العراق، ط2 ص 147،148
[4] ـ يونس الفنادي، روايات نسائية ليبية، منشورات مكتبة طرابلس العلمية العالمية، ط1، 2017، ص 14.
[5] ـ المصدر نفسه، ص 15
[6] ـ رازن المغربي، رواية هجرة على مدار الحمل، نقلاً عن كتاب روايات نسائية ليبية، ص 13.
[7] ـ رازن المغربي، رواية هجرة على مدار الحمل، نقلاً عن كتاب روايات نسائية ليبية، ص15
[8] ـ نظرية القراءة في روايات عبد الحكيم قاسم نموذجا، علي عفيفي، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة،2017، ط1، ص 12
[9] ـ إبراهيم مصطفى، و حامد عبد القادر، و آخرون، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية ط5،ص767
[10] ـ يونس شعبان الفنادي، روايات نسائية ليبية، ص24
[11] ـ المصدر نفسه، ص 32
[12] ـ عائشة إبراهيم، رواية قصيل، نقلاً عن كتاب روايات نسائية ليبية، ص34.
[13] ـ المصدر نفسه، ص33.
[14] ـ لعموري زواي، شعرية العتبات النصية، دار التنوير الجزائر، ط1، 2013، ص 128
[15] ـ يونس الفنادي، روايات نسائية ليبية، ص 62.
[16] ـ فاضل ثامر، المقموع و المسكوت عنه في السرد العربي، الناشر المدى، ط1 2004، ص10
[17] ـ فاطمة سالم الحاجي، رواية صراخ الطابق السفلي، نقلاً عن كتاب روايات نسائية ليبية، ص49.
[18] ـ ينظر: عبد العزيز قباني، العصبية بينية الوطن العربي، دار الآفاق بيروت ط1، 1997، ص18.
[19] ـ انظر، الأخضر السائح، سرد المرأة و فعل الكتابة، دراسة نقدية في السرد و آليات البناء، دار التنوير الجزائر، ط1، 2010، ص 68
[20] ـ يونس الفنادي، روايات نسائية ليبية، ص 70
[21] ـ المصدر نفسه، ص70.
[22] ـ ينظر: عبد العزيز قباني، العصبية بنية الوطن العربي، ص110.
[23] ــ كريمة محمد بشيوة، الحرية في الفكر العربي المعاصر، دار الاكاديمية للطباعة والتأليف والنشر طرابلس، ط1، 2009، ص6 .
[24] ـ نجوى بن شتوان، رواية زرايب العبيد، نقلاً عن كتاب روايات نسائية ليبية، ص73.
[25] ـ لقاء صحفي أجرته صحفية برنيق مع الكاتب يونس الفنادي، حاوته فيه ، (منى بن هيبة) ص 1.

مقالات ذات علاقة

أسئلة النص للقاص إبراهيم الككلي

المشرف العام

من ذاكرة الذات إلى ذاكرة الكتابة

المشرف العام

قراءة انطباعية لديوان الشاعرة/ حواء القمودي (هكذا صرختُ)

جمعة عبدالعليم

اترك تعليق