سرد

نعم سيدي

 

يعيش الجندي ويموت كما الدابة ، و ربّما أقلّ . فلكي ينال وجباته اليومية عليه بمجرد أن يتم تفريقه بعد الإصغاء البليد للقسم الثاني من الأوامر اليومية ، في نهاية الدوام الرسمي لكتائب الجيش ومؤسساته العسكرية . صامتا متراصّا في تشكيلات هندسية تعرف بالمربع الناقص ضلعا ، عليه من ثم أن يركض مسرعا باتجاه قواطع النوم لإحضار صحنه السفري ، ليلهث مرة أخرى جريا ، باتجاه واجهة (الميز ) – هكذا يسمّى مطعم الجنود في معجم الجيش الليبي- ليصطف في طوابير طويلة وضاجة ، حتى يحالفه الدنوّ من قابضي المغارف ، حذرا متوجسا ، كلما رمقت عيناه وجوههم الرمادية المتجهمة والمكفهرة المدخنة . و ليستلم أخيرا وجبة رديئة ، فضلات مرق محروق انصهرت خاماته وذابت بقوله وخضرواته ، غَرْفَة رزّ من فصيلة المعجنات ، قطعة لحم رخوة تنصلت من عظمها ، وتهرأ نسيجها بوطأة فرن طائش ، حتى كادت أن تفقد أصولها البروتينية ونكهة طعمها البقريّ .كان على الجندي دائما أن يرضخ مستسلما ، طائعا ، وأن يلبي دونما تردد أو سؤال أو نقاش ، أن يصغي بانتباه ، أن يقول دائما : نعم سيدي . أما أن يقرأ الجندي ، ويحوز كتابا ، ويظفر بقصيدة أو رسما لغيمة متخيلة ، أن يسمع موسيقى أو يرقص ، فتلك حكاية ، إن لم تكن شاذة ، فهي غريبة ، ومستعصية على الفهم . أنا الرقم 35094 جندي أول الهادي بن ميلود الشرشور ، سليل تلك الثكنات الصاخبة ، عانيت الأمرين ، خلال ثمانية عشر عاما قضيتها مرغما بين تلك النفاية البشرية ، ولكي أحتفظ بآدميتي كما أرنو وأريد .. كان عليّ أيضا أن أحفظ لكتبي التي أحبها ، قدرا من كرامتها المستحقة . وقد عبّرت فيما عبّرت عن هذه المكابدات المتوحشة في بعض ما دونت من نثريات عن سيرة الخصومة الأزلية بين الثكنة والكتاب .نَشرتُ بتوقيعٍ مستعار نتفا من أجزائها تفرقت بين صحف ومجلات وطنية وعربية . كما تخلل بعضها كتيباتي الصغيرة ،والتي خضعت لطبعات رديئة ، وقد ضمنت متونها ما استطعت إنقاذه خلال مسيرة الغبن تلك . لأن الاحتفاء بالكتاب في هكذا أمكنة ، يعدّ شبهة يعاقب عليها القانون العسكريّ، وضربا من الضلالة والتطرف في عرف الثكنات . لم يكن في وسعي حينها ، أعني عندما كنت ذلك الجندي الصغير ، مقاومة هوس الإطلاع والمعرفة. وعلى الرغم من أنني قد جُبلت منذ أمد على القساوة وحدها ، التي يفرضها حدّ السيف ، حيث الحياة ، محض حجر أعمى ، قذف بصلابة عمياء في مفازة شحيحة.. وهي الصلابة ذاتها التي رغم انتسابها لغويا لصفة التأنيث تظلّ في معجم الغابة رهنا ” ب المكان الذي لا يعوّل عليه ” إلاّ إذا افترضنا مجازا ، بأن صنعة النحاتين قد تضخ في شرايين أحرفه نسغ الأنوثة .. وهي معجزة تحكمها نزوة متخيلة ، لكأس مقدّسةٍ يتوق أعجاز الجندي الشاعر هنا ، إضافتها إلى شقيقاتها السبع ، في بيئة جافة ، تنظر إلى فن النحت – على سبيل المثال – كتركة وثنية مقيتة . هذا ما كُنتُه ، أو ما كان يفكر فيه كائنٌ معزول في ثكنة عسكرية تسيجّها القوانين الأشدّ جلافة وعنفا ، حيث لن يكون في مكنة الخيال البائس البحث عن كنز ، بهيئة امرأة تتعرّى في قصيدة .. وهي لاشك معضلة قد ألقتها الصدفة ..فثمة هنا وهناك وجاهة تتخلّق بمشيئات القهر، حين يتواطأ العدل ، ليولد الملوك ملوكا في أرحام أمهاتهم ..ويولد الأثرياء كما يقال : وفي أفواههم ملاعق من ذهب ..بينما يولد الفقراء موسومين بأ قدار فقرهم : نفاية مدن ، روث جهل ، وقود حرب ، طلاّب غيب يسعون إلى دخول الجنة بمؤخرات عارية . بيد أن صاحبنا الذي بات يدرك جيدا سوء طالعه قد استعاض عن خشونة الفقد بتلك الأنوثة التي تلقيها الصدفة سهوا في طريق التائه . كنت ضائعا لحظتها حين عثرت على ذلك الكتاب المجهول الذي لا اسم له .. مجرد مزق من ورق مهمل لم تسلم حوافه من جريرة العثّ ، فاستسلمت لهنيهة متواطئا مع فضول مريب ، أفكّك الكلمات وأخمش المضان المطمورة خلف السطور.. مقتفيا أخبار حكاية العشق السرّي ، التي ظلّت بلا خواتم .. لأن الصفحات الأخيرة للكتاب ، كانت كما يبدو ، قد تمزقت منذ زمن بعيد . لحظتها فقط ، شعرت بتلك الضراوة الغريبة للألم الذي تقاسيه الكلمات المعذّبة .. وقررت ببسالة خوض رحلة بحث بين معاقل الوراقين عن تتمة منصفة لكتابي المجهول. منذ اللحظة تلك ، استمرأ الجندي الذي بتّ أفتتن بألعاب خياله ، وأكره حذاءه الثقيل وخوذته ووشم يديه ، استدراج الكتب إلى سريره ، وهي مسألة يمكن حدسها ، وتصديقها أيضا كواقعة شخصية لا تحتمل الشك في ضرورة مقصدها ونزاهة ألوانها التي بدأت فيما بعد تتشكّل كإشارات لمّاحة ، حوّلت ذلك الجندي الغشيم ، إلى شاعر حالم يدرك دون عناء : أن الحياة الحقّة أكبر من أن تخضع لأحزمة معدنية من أسلاك شائكة يتربّصها الصدأ .. فانحاز بكل جوارحه لسلالة الكلمات .. حتى أضحى يعتقد دون ريب : أن القراءة صنو الرئة ، فظلّ يلتهم في شهية جامحة كلّ ما تقع عليه عيناه من عناوين في الشعر و التاريخ والحكمة وفقه اللغة ، وأصبح يتصفّح متون أبي حيّان التوحيدي ومآثر إخوان الصفا ،وفتوحات الشيخ محي الدين بن عربي ، ويتلو طواسين الحلاج مثلما يتلو العاشق رسائل حبيبته .. ويصغي من ثم لعبد الله بن المقفع ،والسياب ، وتأملات أنسي الحاج . لم تعزه الحيلة لاكتشاف الخلوات الآمنة التي تجعله مطمئنا وقانعا بلذاذة صيده ، بعيدا عن أعين الرقباء والبصّا صين . ولأن أنوار عنابر النوم عادة ما كانت تُطفأ في تمام الساعة العاشرة ليلا.. كان لا بد له من التحايل على سلطان الظلمة وتمزيق سواد قماشتها القاتمة ، متيحا لحياته المخبوءة ما تيسر من السوانح المجيدة .. لكي تتخلق بسمو خفي يتعذر لجمه.. وهي مسألة محيّرة أرّقته ليال طوال قبل أن تهديه قريحته ، للاستئناس بذلك الكوكب الذي افترض له مدارا سريا حول الكلمات .. ضاربا عرض الظلمة ببؤرة متكتمة من نهار استثنائي يخصه وحده ، بواسطة مصباح يدوي.. قدّر له أن ينبعث بمرح تحت الغطاء الخشن ليوقظ الكلمات النائمة ويهيّج بصمت واجف كوامن الخيال الكسول . غير أن بهرة المصباح اليدوي ، المتفردة في غياهب الليل بحذر شديد ، قد تجاوزت إقليم صفحات الكتاب ، متطاولة على عتمة الخارج .. ولم يكن نورها في تلك الليلة الشتوية المشئومة سوى أداة اتّهام بالغة الطرافة ، بعد أن تسرّب شعاعها النشيط من بين طيّات البطّانية العسكرية . فوجئ الجندي القارئ ، بغطائه يسحب بقوة عنيفة .. وبعريف الخفر واقفا حدّ رأسه ،ينتشله عنوة من صحبة رواية الدكتور زيفاكو. في ليلة الشؤم تلك صودر مرة أخرى كتاب يوري باسترناك ، والذي لم يفهمه عريف الخفر ، وقضى الجندي الصغير ما تبقى من ميراث الظلام البغيض خاضعا بقوة للعقاب الميدانيّ .. مهرولا وزاحفا عبر ساحة الثكنة حتى انسلخ جلد ركبتيه وكوعيه. تاركا مسارب من الدم فوق أرضية الأسمنت الباردة .. وبالكاد استطاع في صبيحة اليوم التالي الوقوف إزاء آمر الكتيبة الموسوس ، ليواجه رغما عنه تهمة اختراق الضبط والربط ، بعد أن كسروا مصباحه اليدوي ، واعتقلوا عائلته الأثيرة التي تتألف من: ألف ليلة وليلة ، والأخوة كرامازوف ،والصخب والعنف ، والكلمات التي تقاتل .. باعتبارها أدوات جريمة ، ودليلا قاطعا ، لا يقبل الشك على انحراف صاحبنا – الجندي الصغير – الذي امتثل دونما رأفة لتقبّل العقاب الرادع وقد آثر بطواعية أملتها اللحظة التزام الصمت الساذج ، وانبرى يتظاهر بالإصغاء إلى كلمات الآمر المتصالبة وهي تتقاذف صارمة كأنها قُدّت بعناية بليدة على هيئة توبيخات عنيفة الوقع.. مؤكدة أن قراءة الكتب في أوساط الجندية ، ضرب من الضلالة ، والعبث الذي لا ينسجم مع صلابة وانضباط آلة الحياة العسكرية . لكن الرقم 335094 الجندي أول الهادي بن ميلود ، وعلى الرغم من تعهده لآمر الكتيبة، شفاهة بعدم تكرار هذه المثلبة ،كان قد أضمر في نفسه حياة أخرى ، حيث اهتدى فيما بعد إلى إشارة المعصية الجميلة ، التي بدورها قادته إلى صناعة شمس مجهولة لا تمسّ أو تقال .. لأنها ،وبحكم خفائها تظل أشد بلاغة من أن ترضخ لمجاز الواقع أو تنصاع لمقتنيات الجلاد . شمس عظيمة هي لا تدركها قوانين الثكنات . ولا تخشى ما تخبئه الظلمة البغيضة بين أعطافها من دسائس ، للإطاحة بوريث عرش المعرفة الذي ما فتئ يتقدم بجسارة لا عهد للثكنات بها .. وحيدا بأسره يقرأ في الظلام بلاغة الضوء ، وما خطته يد السدنة الأوفياء ، عشاق الحكمة ورسل الروح وأرباب الخيال المقدس. فقرأ، وقرأ، وقرأ ، مدفوعا بشهوة لا تُضاهى عديد المدوّنات والمصنّفات النادرة ، من دون حاجة لاستخدام الشموع والمصابيح اليدوية .. إلى أن صار في مكنته بعد حينٍ من الدهر ، أن ينسج الحكايات العجيبة و يَقُدّ الأشعارَ المتوحّدة . لأن الجندي كلّما تقّدم .. اقتحم حصونا ، وفتح حياة جديدة ، وصبح واحدا آخر ، أكثر قرابة و ألفة من برزخ الحكمة التي لن يراها أحد ، إلا هو . هكذا خسر الجندي وانتصر الشاعر .

______

مقالات ذات علاقة

خـراف حـنـاي

كريمة حسين

أجمل فتاة في المدينة

عبدالله عمران

رواية الحـرز (33)

أبو إسحاق الغدامسي

اترك تعليق