الشاعر: علي صدقي عبدالقادر
دراسات

نساء صدقي 2/2

خديجة عمتي

عندما غادرتْ للمرة الأولى لمعهد سرس الليان بمصر كان في ذلك 1954م، وقتها كانت أنسة وعمرها لم يتجاوز 17 عاما، والبنت كانت ما تطلعش لفم الحوش في شارعنا، لكن والدي شجعها في السفرتين مصر ولندن، هو سعى لها عن طريق أعلان من المركز الثقافي البريطاني أول ليبية تتلقى دورة في علم المكتبات الذي حتى كتخصص دراسي تأخر في بلدنا.

الشاعر: علي صدقي عبدالقادر
الشاعر علي صدقي عبدالقادر

والدي سعى معها وشجعها في الدراسة بالداخل والخارج حتى ما كتبه كان يشجعها على الكتابة وباستمرار ولها مقالات وقصة قصيرة عن زلزال المرج بجريدة طرابلس الغرب، أذكر يومياتها ليبية في بلاد الانجليز بعد ما تكتبها يأخذها ويراجعها ويحملها إلى جريدة طرابلس الغرب حلقات حلوة تطلع كل أسبوع، كنت نجيبها ونقرا فيها  ونتبع في حلقاتها، وبعدين أنا سافرت ورجعت وسمعت بوفاة الشاب الصحفي الناجح عبد السلام دنف، شاب صغير  تقريبا في 1963م، عملوا معها عدة مقابلات منها الإذاعة المسموعة (طرابلس) كانت محطة واحدة يومها وشاركت في حوارات في برامج مسموعة، وكان أن تزوجت و توقفت عن الكتابة، عمتي الرائدة خديجة توفيت في حادث مروري شنيع صدمتهما سيارة نقل ركاب (إفيكو )، كانت متوجهة لمزرعتها رفقة زوجها في طريق عين زارة أصابتهما كانت بليغة لم تحتمل حتى التدخل الجراحي الله يرحمهما.

علي صدقي والأطفال

بابا صديق لكل الأعمار لكل الأجيال، هو واعي متفتح ومُتحرر، يقيم علاقة بسهولة مع الناس  حتى غضبه وزعله قليل جدا، أنا  عندما أتضايق و يغلبني لساني وأقول مفردات نابية لأبنائي مثلا، رغم أن والدي لا يملك هذا القاموس، أوفي أحيان أعانده على فكرة أو رأي، ولا أتفق معه، بهدوء تام يجاريني ولا يتلفظ  ضدي بأية عبارة، يطلب مني الصمت أوالتوقف عن إبداء رأي كونه عرفه، لم أسمع في حياتي منه لفظة نابية… لا لا أبدا عنده جملة دايما يرددها: سلم بنتي هدي شوية مش هكي تمشي الامور؟ وجملته الشهيرة يابنتي راهو الدنيا هواء الدنيا هواء، بابا متسامح جدا… أنا أشكو أحيانا من صديقه أو قريبه أزعجتني أعلن أني سأُقاطعها.. يجيب مبررات ويُحببني فيها  ولأكون متسامحة، لم أسمع ولو مرة والدي يدخل البيت ويشتكي من شخص أذاه (تدخلتُ هنا: لا يشكو من أحد علق على كلماته أو شخصه أو شعره) أبدا لم أسمعه يذكر اسم لمن صده أو هاجمه، أو عبر عن إمتعاض منه كنت أحسده على تسامحه العالي.

وبدون مجافة الحقيقة والدي أحب أطفال العائلة كما أحب الأطفال في حياته العامة واليومية وفي يوم من الأيام حكى لي عن طفلة صغيرة حاملة (قفة) وماشية بتشري حاجات لأمها، وجدها تبكي ووقف يسألها لماذا؟ قالت له: زوجة بوي أعطتني فلوس (نقود) ضاعوا مني، سألها ماذا كنت ترغبين أن تشتري ؟ ثم إشترى لها كل ماأوصتها بشرائه زوجة والدها وملأ القفة، لا يحصل موقف ويشاهده لطفل إلا ويتعاطف معه ويقف الى جانبه، وأؤكد لك مرة ثانية ليس أطفال العائلة فقط المشمولين بمحبته ورعايته.

لما يحضر جنازة رجل أو إمرأة أو طفل يقف ويبكي، فيسأله القريبون منه في المكان، المتوفي قريبك؟ فيجيب بالنفي، والدي رقيق وحنون وروحه رهيفه وحساسه جدا، والى وقت قريب قبيل وفاته وهو في المستشفى يجيبوا قصة والدته (جدتي)، عندما يتذكر والدته يبكي ويبكي بحرقة الفقد، أنا لم أبك لى أمي ما بكاه والدي على أمه رغم محبتي لها، والدتي توفيت من سنتين، كان والدي الأبن المُدلل والمُفضل عند والدته، كان يحكيلي أول ماتزوج في حوشنا بزنقة الجمل، سكنت فيه والدته والعيلة كلها عاشوا مع بعض يقول لي :كانت تركبلي صفرة فطوري فيها أشهى الوجبات تعدها والدتي خصيصا لي رفقة زوجتي… لم ينافس أمه فاطمة كامرأة في ما كتب… إلا الوطن.. ليبيا.

علي صدقي وعاداته

أسعد لحظات والدي لما يكتب خواطره في مذكرته، دائما مشغول بالقراءة والكتابة لذلك هو متحدث بارع، ليست له علاقة مداومة بالتلفزيون إلا فيما ندر لمشاهدة الاخبار ولفترة قصيرة .حتى في المستشفى أوراقه وموضوعه الصحفي يجهزه ويكتبه ويراجعه ويهتم ويلتزم بإرساله، مرضه كان عدا تنازليا فقد تطورت حالته فجأة  وتدهورت حتى هو كان مصدوم بتراجع صحته بشكل سريع وبسرعة.

والدي قبل دخوله للمستشفى كان يقود سيارته وكنت أطلب منه أن يتوقف وبإمكان تماضر ان تتنقل به لحضور اللقاءات الثقافية، في الفترة الاخيرة كان يشكي من قدميه، منذ عرفت أبي وهو مُهتم بغذائه ومن الناحية الصحية لم يكن يشكو من أمراض تتعب جسده وقلما كان المرض يزوره من الناحية الصحية ممتاز المرض كان في رجليه بعض الألم في الاول، هو محافظ جدا تصوري هو يحب الحلويات جدا لكن يمسك نفسه عنها ويتحكم في رغبته فيها وله قول دايما يحفظها ويرددها لنا في العائلة : إتقي الأبيضان الملح والسكر، أنا إبنته أحب الحلويات لكن هو يقول لي كلي الفواكه والخضروات أفضل لصحتك ولبشرتك.

لما يتلاقوا في أمسيات أدبية عربية أدباء وأديبات، والدي كان يقدر النساء منهم جدا، عنده رسائل متبادلة من نازك الملائكة  وغيرها، والدي أحب العراق وأحترم صدام وكره أمريكا! سافر قبل الحرب بأشهر قليلة على الاعتداء الامريكي  2003م، عنده مراسلات وتهاني بالعيد من شعراء وكتاب عرب وأجانب، أذكر وصلته رسالة من نزار وكنت أحبه قلت له ياريت نشوف نزار.

والدي في مشاركته المحلية الأخيرة ذهب مدعوا الى مدينة زلة وهو يعاني مرض في رجله شكرهم كثيرا وقال أهالي زله منحونا بيوتهم ويومها كنت مشغولة جدا وخفت على صحته الحرجة.

والدي يحب السفر عموما وداخل البلاد خصوصا ويشارك دائما في النشاطات التي يدعى إليها، لا يرد دعوة، والدي أحب كل مدينة كل قرية.

كانت تماضر تتابع ما استرجعته ذاكرة أحلام، فسألتُها عن ذكرياتها معه فبادرت متأملة حزينة:

أول يوم في المدرسة هو صحاني وأخذني علي كتفه، كنت أبكي وخائفة، وقد انزويت قبل ذلك الصباح في ركن ببيتنا، لكنه جاء وداعبني بكلماته، وأنه سيرافقني في أول يوم، كان يراجع معي دروسي حتى نظام يومي يتابعه… القيلولة نوم نرتاحوا ثم نباشر دروسنا، وليلا كان يقرأ لي كتاب الى أن يغفو بجانبي، يهتم بنا صحيا يذهب معنا يشتري هدايا لمدرساتي، لم يسمح لي بدفع مرتبي في أي شيء حتى هدايا عيد الأم، تتدخل أحلام: هو يشتريها كان كريم  يُعطي ولا يبخل أبدا، بل أن عيدية أطفالي حتى وهم كبار اليوم لم يتوقف عنها.

(تعود تماضر وتتابع) لما نسافروا معاه لا تقع عيننا على شيء، إلا ويلح علينا لنأخذه، ويلومنا إن لم نطلب ما نرغبه، وقبل السفر الى أي مكان يمدنا بمعلومات عن الأمكنة وتاريخ أبنيتها وشخصيات عاشت فيها حيث أنه سيحرص على أن نرى بعضها ما أمكنه ذلك.

تتوقف تماضر وتغالبها دموعها وتبكي بحرقة أشعرتني بالحرج تجاهها، فأوقفت تسجيلي، وقمت بمواساتها… فيمن لا يمكننا نسيان حضوره بيننا بوداعته ولطفه بتحيته للجميع، بمفرداته وجملته الأثيرة: يحيا الحب.

________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

ليبيا واسعة – 40 (عَسَّاس)

عبدالرحمن جماعة

ليبيا واسعة – 23 (روشن)

عبدالرحمن جماعة

شعرية اللغة وجماليات السرد

عبدالحكيم المالكي

تعليق واحد

عادل بن يوسف 5 فبراير, 2015 at 07:31

قرأت الجزء الأول والثاني، الموضوع جميل وكنت أمنى لو كان أكثر حرفية بالدخول لعوالم الشاعر علي صدقي عبدالقادر.

رد

اترك رداً على عادل بن يوسف