النقد

(نداء ما كان بعيداً) لإبراهيم الكوني.. بحث عن جذر الهوية

 

سهام ملكاوي-الأردن

 

تصادف خلال انهماكي بمقولة الوجود ومعاينة مسألة الهوية، أن تعايشت مع إبراهيم الكوني عبر روايته الأخيرة نداء ما كان بعيداً ، الحائزة على جائزة الشيخ زايد للرواية العربية. وقفت خلالها على رؤية خاصة لتلك المقولة الأساسية (الوجود)، ولدت لدي التساؤلات وطرحت القضايا التي لامست بعض ما أفترضه من تصورات عن هويتنا العربية، بل وقاربت بعض ما أعاينه من خبرات وجودية ذاتية. وليس ما أقدمه هنا قراءة نقدية منهجية، وإنما تداعيات فكرية وجدانية تتحاور مع حوارات الكوني الإنسانية فلسفية الطابع. ذلك أن تلك الحوارات والتأملات، إضافة إلى البحر والصحراء، هي الشخصيات الفعلية للرواية.

يستهل الكوني روايته باقتباس من سفر الجامعة بعيد ما كان بعيدا، والعميق العميق من يجده . بحيث يبقى البعيد بعيداً عبر تداعيات الأحداث التي تتشكل في حوارات ذات حراك دؤوب في محاولة لتلبية ذاك النداء وسبر غوره، يقول: كلما جرته الأقدار جنوباً، ووجد نفسه في أحضان الصحراء، استولت عليه الدهشة، واستيقظ فيه حنين مجهول. لم يكن إحساسه الخفي حنيناً، ولكنه وسواس أقوى من الحنين. إنه نداء! نداء عميق، يستعسر على التفسير، رغم أنه حميم مثله كمثل لحن لذيذ لم يسبق له أن سمعه بأذن، رغم أن القلب أدركه من زمن بعيد… ولهذا يستجيب له بوجيب غامض كابتهال. وجيب غامض كالصلاة (ص 15).

يشكل تتبع مسار ذاك النداء الحدثَ المحوري في الرواية التي تقع أحداثها في ليبيا، حيث الجنوب جزء من الصحراء الكبرى، بينما يتم الحراك الإنساني بين هذا الجنوب الأسطوري والشمال الذي يمثل البحر، صنو الصحراء.

وتبرز لديه مفردات كثيرة، يمثل كل منها مدخلاً وجودياً يمتلئ بالدلالات ذات التشعبات المتناقضة، التي تشكل مجموعة من الجدليات، كالبحر والصحراء، الاستقرار والهجرة، التملك والتخلي، النداء القريب والنداء البعيد.. إلخ. إن الحقيقة تتخبأ في نقيضها (ص 141).

ومع تصاعد هذه الجدليات تتصاعد أحداث الرواية ذات الأصول التاريخية المفعمة بالإسقاطات المعاصرة، في محاولة تلبية النداء البعيد. ويختار الكوني الحقبة العثمانية أوائل القرن الثامن عشر المكتظة بالمماحكات الغربية، إذ البلاد بين استلابين، العثماني من جهة والأوروبي من جهة أخرى، البلاد مسرح الصراع، مجرد مسرح والآخرون هم اللاعبون. هل ثمة اختلاف بعد قرنين من الزمان؟!.

عند مقاربة تلك الجدليات وتفكيكها يتلمس القارئ هاجس البحث الجاد عند الكوني عن جذر الهوية، فكل جدلية تتصاعد مع الأحداث وتطور الشخصية الرئيسية في الرواية لتنبئ عن عنصر من العناصر المكونة لتلك الهوية. ولعل ذلك يتبدى واضحاً في جدلية الصحراء والبحر، وهو إذ يماهي بينهما حيناً ويبرز تناقضهما أحياناً، إنما يغوص في الأعماق متقصياً ذلك الجذر الوجودي، أصل النحن النابعة من صحراء يحدها أو يحتويها البحر.

لذلك فإن الصحراء والبحر كلاهما امتداد. كلاهما عبور. كلاهما لا مكان. لكنه ينتصر للصحراء عادّاً أنها الأكثر رسوخاً، بل الأكثر أصالة.

يقول عن جدة بطله ذات الأصول الصحراوية: انحدرت منها السلالة كلها. لم تنحدر منها سلالة الدم وحدها، ولكنه استعار منها سلالة الروح. سلالة الدم الحاملة لبذرة الحرية (ص 18). بهذا الرباط زاوج بين القطبين: البر والبحر. ولولا هذا الزواج بين هذين القطبين لما جرت في دماء السلالة حب الفروسية. لأن لا معنى للفروسية إن لم تكن عشقاً للحرية! فطوبى لمن كانت له هذه العنقاء طريدة! ولكن الويل لمن صارت له هذه العنقاء طريدة أيضاً (ص 47).

أليس في هذه المقاربة للصحراء والبحر، محاولة جادة للبحث عن جذر الهوية؟ عن تلك الهجرات التي غمرت الأرض المباركة من الفرات إلى النيل وشمالي إفريقيا، والتي يحار أهل السياسة المعاصرة في اختيار مسمى لها ذا دلالة على ما يخيطون للمنطقة من لبوس يناسب مقاساتهم؟ ألم تؤسس تلك الهجرات للحضارات المؤسسة للحضارة الإنسانية، سواء كانت أشورية أو بابلية، فرعونية، فينيقية أو كنعانية، معينيه أو سبئية، عمونية مؤابية أو نبطية أو تدمريه؟ أليست تلك الجدة هي ذاتها أُمّ الأحفاد الفينيقيين والكنعانيين أهل البحر المحاذي للصحراء، أو الأنباط أهل الصخر الموغل فيها؟

لعل في اختيار الكوني للحقبة العثمانية دلالاته الوجودية أيضاً. فمنذ اختار العربي أو المواطن الأصلي -لا فرق- الرضوخ طواعية للآخرين -من مماليك، أيوبيين، بويهيين، وأخيراً عثمانيين- ثم بعد ذلك الرفاق السوفياتيين أو -لدى بعضهم- الموحدين الأميركيين.. فإنه أسلم قياده لغيره يسوسه باسم الدين تارة، وباسم الشعار تارة أخرى يدور بإخلاص ثور الساقية. وهكذا نما الآخرون وتقدموا، وبقي هو يراوح ساقيته بل ساقيتهم، تطوروا وأسسوا المدارس والجامعات والمصانع في مراكزهم، بينما هو غارق في أميّته وسباته في بلاده التي تعدّ من الأطراف، بعدما كانت مراكز حضارية أصيلة. يقول في هذا السياق: ولما وضعت حداً لمهزلة الحكم في ربوع هذه المدينة العريقة التي شهدت في تاريخها الأقدم أمجاداً لم تحلم بها الأستانة، ولا سلفتها بيزنطة، وتوالت في أرضها النبيلة حضارات في وقت لم توجد فيه الأستانة، ولا بيزنطة، ولا بلاد الأناضول (ص 79).

وعندما يسلم المرء قياده للآخرين فإنه يفقد توازنه وقدرته على الاختيار، ذلك أن العربي لم يحكم نفسه فعلياً قبل الإسلام وبعده سوى في القرون الهجرية الثلاثة الأولى. ثم تدريجياً بدأ يسلم قياده للآخرين يبنون أمجادهم، باستخدام مقدراته وثرواته وسواعد أبنائه وموقعه الاستراتيجي، كل ذلك باسم الدين. يقول: الانكشارية! الداء هو شراذم الانكشارية الذين سمموا البلاد بالفتن، وقطعوا دابر الاستقرار بالدسائس، لأنهم ملة خسيسة لا تخلد لنوم قبل أن تشرب من دم، أو تنهب أرضاً، أو تغتصب عرضاً! (ص 31). ويقول: ولكن بسبب ذلك السيف المسلط على الرقاب المسمى سلطان الأستانة الذي لن يعترف بسلطة محلية قام بها أهل البلاد إلا إذا حدثت أعجوبة (ص 88).

نلاحظ أن مفردة الصحراء تؤدي تلقائياص إلى مفردة الهجرة ، فالصحراء رغم أنها بيئة محتوية، إلا أنها أيضا بيئة طاردة. أما أنها محتوية فهي أرض الغنى وكنز الروح: إن الأشياء ليست حقيقتها كما تبدو لنا، ولكن سرها في ما استخفى عنا (ص 49). وكأن مقيم الصحراء تغمر روحه تلك الأسرار فيكد وراءها حتى تقوده خطواته نحو القرار محاولاً غرس أسراره حتى تغور ثانية في أعماق الأرض الخضراء، التي تبتلع كيانه وأسراره ورغبة البحث لديه، بغواية لا تقاوم. فيترجم جموحه بناء واستقراراً، ويبدأ الصراع من جديد نحو البحث عن: ما أنا! هكذا تتكون المدن على ضفاف الصحراء. لذلك كانت مدناً ذات خصوصية أسطورية ساحرة، أطلق عليها الآخرون سحر الشرق ، وكأن جذور هذا السحر صحراوية.

لكن العمران والاستقرار يطفئ جذوة الروح. يقول: المدينة هي الطعم الذي يغوي ضعاف النفوس ليستبدلوا بسلاح الحرية أدوات العبودية. يستبدلوا بعبور أرض الله الواسعة استقرار الاسترخاء المسبب لعلل الروح، فتموت الروح ليحيا الناس بالجسد وحده دون الروح. لأن روح الاستقرار هو الذهب. لأن روح المدينة هو الذهب. لهذا السبب كان الذهب والروح دائماً في جدل. كانا دائماً في خصام . (ص 301).

عندما أسس العربي مدنه، كان جموحه الصحراوي هو السر الذي دفعه لاستكناه الوجود، فكان العلم وكانت الحضارة، إلى أن أمسك به طعم المدينة وقطع وصاله مع جذوره تلك، ذات المدى البعيد وأصبح نداؤه قريباً مفعماً بالذهب أو بالبترول، لا فرق! ذلك أن المدن لم تكن في يوم من الأيام سوى صنيع الخزينة. المدن بدعة اخترعها الذهب الذي يتخفى بالخزينة (ص300 ). ويقول: أما الصحراء فهي ركن الدنيا الوحيد الذي يحتقر الذهب، لأن عملته الحرية وليس الذهب (ص 301).

هكذا، نرى أنه كلما طال المدى بين الإنسان وجذوره اختلف حاله واختل توازنه واستسلم لضعف السليقة البشرية. يقول: لأنهم لم يروا في الصحراء روحها الحاملة لوصية الحرية، لكنهم رأوا فيها صرامة الجسد الحامل للسياط النارية. رأوها بعيون أهل الاستقرار التي تعشش فيها جراثيم العبودية، ولم يروها بعيون أصحاب الترحال الذين تحيا في قلوبهم شموس الحرية (ص 17).

هنا تبرز جدلية الاستقرار والهجرة. فالعربي منذ الأزمنة السحيقة يتأرجح بين الاستقرار والهجرة، يحمل في أعماقه روح الصحراء الوثابة الحرة والأبية، يبني ويؤسس ولا يقر له قرار. هو يحمل رسالة مقدرة له منذ الأزل، البحث والاكتشاف. يقول: الناس لا يحيون في هذه الصحارى، ولكنهم يعبرون هذه الصحارى! .. أردت أن أقول إنهم لا يحيون في الصحراء في مكان محدد، ولكنهم يحيون وهم يتنقلون! إنهم يبحثون عن الكلأ في ظاهر الأمر، ولكنهم يبحثون عن الله في باطن الأمر (ص 344).

يمكن التأكيد على سر الهجرة بأكثر من معادل موضوعي في حياة العرب والمسلمين. ألم يؤسس المهاجرون مع الأنصار نواة الدولة الإسلامية الأولى؟ ألم تبدع العقول العربية في المَهاجر؟ ألم يتجاوز المهاجر الفلسطيني نكبته فأبدع في مختلف المَهاجر على غير صعيد؟! ولكن لماذا؟ ما هو سر الهجرة؟ يقول: ولما كان الإنسان سليلاً ضعيفاً بالسليقة فقد آثر أن يستسلم منذ زم بعيد. آثر أن يستسلم يوم ألقى عصا الترحال ولم يعلم أنه إنما يتخلى عن الحرية. إنما يتخلى عن حقيقته، عن جبلته. استبدل بالخلود حطامَ البهتان الفاني (ص 301).

لعل السر يكمن في ذلك الجذر الصحراوي للعربي، البداوة والبساطة، أصل البطولة الحقيقية في نظره والذي يتجسد في فكرة التخلي مقابل التملك شعار المدنية الزائف. التخلي فكرة بسيطة عميقة، تكاد تشكل فلسفة قائمة بذاتها.

ألا تكمن مصائب البشرية في ذاك النزوع الوحشي نحو امتلاك المزيد، ابتداء من جشع الإمبراطوريات القديمة وحتى اقتصاد السوق وهيمنة الشركات العابرة للقارات؟ يقول: لأن أهل السر أول من يعلم أن الوطن الذي قرر أن يلتحق بالخفاء ويصير جزءاً من الوطن السماوي الكبير، لن يضيره أن يفقد جسمه الأرضي، لأن فقدان الجسم الزائل أول علامات الحضور، أول شروط الخلود (ص 242).

البدوي لا يملك أرضاً، فكل الأرض ملك يمينه، لذا فهو حر، قوي. لا تغله قيود ولا حدود، ذلك أن: البساطة هي التميمة! البساطة هي القوة الحقيقية (ص 213).

بالعودة إلى مسألة الهوية، فإن حفريات الكوني الصحراوية تبدو منطقية متسلسلة في معظم مقارباتها، لكنها تبدو متناقضة في بعضها الآخر. لا يمكن إلا أن نوافقه أن من لا يحكم نفسه ويسيطر على مقدراته مهزوم لا محالة، بل يقف على حافة التاريخ دون أن يتمكن من العبور، وهذا هو حال الأمة منذ قرون عديدة. يقول: فقد تذكر الوصية الصحراوية التي تقول إننا يجب أن نذهب بأنفسنا إلى إنجاز العمل الذي نريده أن ينجز إذا شئنا له حقاً أن ينجز. أما إذا شئنا له أن لا ينجز أبداً فما علينا إلا أن نبعث بمن ينجزه بالنيابة عنا. صدق القوم!.

وقد نقره بأن البداوة أصل، وأن حياة العبور البعيدة عن كسل الاستقرار وجشع التملك، طريق يتتبع صدى النداء البعيد. لكن ما تخبرنا به الوقائع حولنا أن البداوة أصل، جموح، حرية وكرامة، لكنها لا يمكن أن تكون شعاراً. ألم تكن دعوة الإسلام مدينية الطابع والشعار؟

إن جدلية الاستقرار والهجرة قادت البدوي العربي إلى تأسيس المدن منذ القدم، مكة، المدينة، الطائف، كلها مدن. وبعضها لم يعاين النمو المديني الطبيعي مروراً بالمرحلة الريفية، بل قفز إلى عالم التجارة المدينية الطابع إلى أقصى الحدود. وعندما حصل ابن الصحراء بمعونة السماء على دستوره المديني لم يستكنهه كما ينبغي، بل استعار نموذج المدينة الرومي أو الفارسي، فكان مفارقاً لطبيعته ولجذوره، وفاشلاً في تطوير ذلك النموذج الخاص للمدينة اللاانتهازية ذات الجذوة السماوية. هكذا تحولت المدينة إلى حاجز بصري، يحول دون تبصر العربي بالحقيقة، حقيقة الذات. بحيث تحولت إلى موضوع ذي أبعاد متقاربة تسد الأفق. لكنها ما تزال تتضمن الخفاء الصحراوي نفسه، وقد انحسر عنه طول المدى، وبقي أسيراً لضبابية الرؤية.

ليس بالإمكان هنا مناقشة الجدلية الأساسية في هذه الرواية المفعمة بالروح الصوفية والنزوع العلوي إلى آفاق لم تتسع لها المدينة الحديثة. فقد طاف القرمانلي بطل الرواية، في كل الأرجاء استجابة لنداء خفي بعيد، لكنه لم يجده إلا بعد أن تخطى الموانع الدنيوية والجسدية نحو عالم الخلود. لأن الحقائق الحقيقية هي ما نكتشفه بعد فوات الأوان. كل شيء باطل ما لم يقبل الموت (ص 316).

ولا يخلو الأمر من يقين آخر على المستوى الوطني الدنيوي. إذ يقول: إن كل من استولى على أرض أغراب يوماً، فلا بد أن يفقدها يوماً، لنجد أن هذه الرقعة قد عادت إلى صاحبها الفعلي في نهاية المطاف. الاستيلاء على الأوطان كالاستيلاء على الدنيا عمل جنوني. فأخبرني عما انتهى إليه الإسكندر الأكبر أو يوليوس قيصر أو هولاكو أو… والعمر حلم صغير (ص 457).

ترى هل يذهب الأغراب يوماً ويتركوننا وشأننا؟!.

مقالات ذات علاقة

اللقيط يواجه المجتمع في (الرسالة)

يونس شعبان الفنادي

التابوت رواية الحرب الليبية التشادية

إنتصار بوراوي

الحيوانُ بين الرمزِ والتجسيِّدِ الواقعي في رواية (الحيوانات) للصادق النيهوم

المشرف العام

اترك تعليق