طيوب البراح

مُذكرات طبيبة امتياز

زمزم سيدي كوري

من أعمال التشكيلي الأردني وليد الجعفري
من أعمال التشكيلي الأردني وليد الجعفري


كان صباحًا جديدًا بدأته بشكر القدير على ما وهبني من نعم، شكرته على نعمة الأبناء، وصحة الآباء، شكرته وحمدته على الخير الذي أنا فيه؛ فكله بفضله، واطمأننت على أطفالي بعد ما حصّنتهم بالأذكار، وذهبت غير مسرعة بالسيارة مع زوجي إلى المستشفى.

أنا سعيدة جدًا اليوم، لا أعلم إذا علم الآخرون بذلك، ربما فضحتني عيناي المليئتان بالطموح؛ طموح طبيبة تخطو خطواتها الأولى كطفلة بدأت بالمشي بعد حبوها، تكسوها فرحتها وفرحة أهلها بالعزيمة والإصرار.

سجلت حضوري وهممت للحاق بركب المرور الصباحي فوجدتهم قد سبقوني، وقفت معهم أستمعُ بصمت، لامس البعض وجودي بهيئتي غير المألوفة، انتبه لوجودي رئيس القسم وقد عرف أنني طبيبة الامتياز بطريقة ما، وأنا عرفت بأنه رئيس القسم -رغم هيئته المتواضعة- بالطريقة ذاتها.

بدأنا بالحالات التي أُجريت لها العمليات، أغلبها كانت لابروتومي (شق عمودي في البطن)، تعددت أسبابها ولكن الجرح ذاته، ومن ثم مررنا على حالات البتر والتي كان أغلبها لمرضى السكر. أثناء المرور كنت أراقب الدكاترة وطريقة تعاملهم فيما بينهم، أحيانًا أجد نفسي بينهم، وأحيانًا أرسم مستقبلي باتجاه آخر، ولكنني كنت أتساءل في كلا الاتجاهين عمّا إذا كنت أستطيع أن أقدّم شيئًا مختلفًا. أسعدني وجود دكتورتين معنا في المجموعة، وتلاشت برؤيتهن كل الأفكار التي كان الآخرون يحاولون زرعها فيّ، بظنهم أنّ تخصص الجراحة ليس مناسبًا للمرأة! وجودهن في هذا المجال وتمكنهن مثل غيرهن أسعدني فابتسمت بصمت كما احتفلت بصمت.

– كيف حالك منير؟

– بخيرٍ الحمد لله.

– سستر حنان أزِيلِي الشاش -ضماد- من قدمه.

– كيف تشعر اليوم؟

– أنا أفضل حالاً من الأيام السابقة، هل أتحصل على إذن بالخروج اليوم؟

– إن شاء الله منير، إذا كانت الأمور مستقرّة وفي تحسن.

– أين صورة الأشعة للقدم التي طلبتها بالأمس؟

– تفضل دكتور.

كان هذا حوار “د.محمد” مع “منير” قبل أن تكشف “سستر حنان” عن قدمه وإصبعه المبتورة، يبدو منير بصحة جيدة وهو يتطلع للخروج من المستشفى اليوم؛ منير الذي لم يتجاوز الخمسين من عمره، مريض سكري دخل القسم منذ أيام، بُتر إصبعه الكبير بعدما أُكّدَ عدم وصول الدم إليه وإصابته “بالغرغرينة”، وخشية وصول “الغرغرين” لبقية أجزاء قدمه لَزِمَ بتره. أمّا اليوم فصورة الأشعة لا تبشر بالخير، تظهر الصورة تقدم الالتهاب -العدوى- في اتّجاه ساقه، تفحص الدكتور النبض في قدمه، بالكاد شعر به، تمتم بكلمات لم أسمعها ولو سمعتها لفهمتها! ولكنّها كانت مؤلفة لرئيس القسم قبل أن تصل إلى مسمعه، قال حينها مختصرًا كل شيء بجملة صغيرة يفهمها الجراحين: “keep the pt not limb”، التقطت جملته على الفور وفهمتها أكثر مما يجب، نظرتُ لحال منير الذي يحاول أن يتأقلم بأصبعه المبتورة، رغم صعوبة الموقف كان يُظهر شيئًا من الرضا، فما دام يستطيع المشي هو أفضل حالاً من شركائه في الحجرة الذين بترت أقدامهم بالكامل، وآسفني حاله وجهله لما ينتظره.

تقدم د.محمد ووقف بقرب منير الذي لم يفهم شيئًا مما قيل، وكان يتكلم بعبارات مليئة بالمواساة التي لم يدرك منير فحواها، أظنه حينها اعتقد أنّ فترة مكوثه بالمستشفى ستطول، وأنّ د.محمد يحاول أن يهيئه لذلك.

منير لازم من البتر!

ماذا تقصد يا د.محمد؟ وإلى أين؟

تحت الركبة مباشرة مشيرًا بيده.

لا حول ولا قوة إلاّ بالله، يا الله يا الله، استغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله!

دمعت عيناي قبل منير وبكيت حاله وشعرت بألم لن يردَّ له ساقه إن بُترتْ، لم أتحمل الموقف وخرجت من الحجرة، تركت المرور، تمالكت نفسي ومسحت حزني بيدي، لا يجب أن أبكي ولا يجب أن أهرب بل يجب أن أتعلم، سأكون ذات يوم في مكان د.محمد، كيف يمكنني أن أنقل الخبر حينها لمريضي؟ يجب أن أتحلى بشجاعة الموقف وألاّ تغلبني العاطفة، رغم أنني همستُ بهذه العبارات في نفسي إلاّ أنني لم أستطع الرجوع للحجرة واستكمال المرور.

ذهبت لحجرة جهاز الترا ساوند (الأشعة ما تحت الصوتية) وتابعت الحالات هناك، حيث لا أضطر لأخفي تعاطفي مع مريضي. بعد عدة ساعات ومع حالات كثيرة، من حصوة في المرارة إلى استسقاء، ومراجعات ما بعد العملية.

انتهى يومي الأول؛ انتهى يومي ولم تنتهي قصص المرضى ولا معاناتهم، لم تنتهي معاناة منير بل إنها بالكاد بدأت، ولم تنتهي قصتي فما كان اليوم إلاّ يومي الأول.

سألت الله أن يلهم منير الصبر وأن يدوم نعمة الصحة عليّ وعلى أحبتي.

مقالات ذات علاقة

ولد أحب الاكتشاف

المشرف العام

بلا حلم ونصف أمل

المشرف العام

ليبيا .. حقول الموت

المشرف العام

اترك تعليق