كتاب الحديقة (الصورة: السقيفة الليبية).
المقالة

موسمُ الكشفِ: وهو الغبطةُ

218

هذا كشف عظيم ومفاجأة أخاذة. إنه كتاب الصوفي الليبي المجهول أبي الخير الغدامسي الذي عنوانه “كتاب الحديقة (وهو سفر الخلافة)”* المنشور بتحقيق وعناية الصوفي الضليع أبي الحارث موسى بن إبراهيم. كتاب يعد نجما ساطعا في دنيا الأدب الصوفي. يكاد أن يكون فريدا. وأقول يكاد لأنه يذكرك بكتابي النفري “المواقف” و “المخاطبات”. لكنه يتقدمهما بخطوتين: الجيشان الشعري وكونه مبنيا بناء سرديا يمكن أن يلحقه بالرواية. ولم يجانب راعي الكتاب السيد أبو الحارث الصواب حين أسمى هذا الأثر “رواية صوفية”. فالكتاب، فعلا، رواية. لكنها رواية من نوع خاص، لا يفيها وصفها بالصوفية حقها.

كتاب الحديقة (الصورة: السقيفة الليبية).
كتاب الحديقة (الصورة: السقيفة الليبية).

وما يزيد هذا الكتاب أهمية أنه أثر صوفي معاصر أنجزه آثُرُهُ أبو الخير الغدامسي* (1848- 1954) قبيل غيابه.
يقسم المؤلف كتابه إلى زمنين: “زمن الغيبة” ثم “زمن الخلافة” وبينهما مواسم. وبعض عناوين المواسم أو، بالأصح، تعريفاتها تعد إبداعا بذاتها. وسوف نتمثل ببعض منها:
– موسم الماء، وهو الفرح.
– موسم الضوء، وهو الفضح.
– موسم الحيوان، وهو الشاهد.
– موسم اللغة، وهو الهتك.
– موسم البكاء، وهو الغمر.
– موسم الفكاهة، وهو المؤونة.
– موسم الخمر، وهو التجليات.
– موسم الغناء، وهو قوت القلوب.
– موسم المعرفة، وهو الوجع.

الكتاب يهسهس بالشعر، ومفتتحات المواسم، التي تمهد للأقوال، غاية في الجمالية الشعرية. إنها تمثل أعمالا راقية من أعمال قصيدة النثر، وسنجتزيء أدناه بعض المقاطع الشاهدة:

من “موسم الماء (وهو الفرح)”
“وفيه انتظرت قدوم الماء غيما بعد غيمٍ، فعالجتُ الريحَ عن مقاصدها، وخمنتُ منها مآربَها، وأتيت الأرضَ أستسقي غيثها، فغار ماؤها، وغاضت عيونُها. فركضتُها برجليَّ ركضا، فلم يكن شيءٌ. ورأيت الماء يدور في قناع الحرِ والبردٍ، وأخذني توهانُهُ فسلبني. وكلمت نفسي بالعطش كرَّةً وبالارتواء كرة أخرى، وقعدتُ أرقبُ مداراتِ العناصرِ وترصدتها أبغي مسيلَها، وهي تتصلُ وتنفصلُ، وتميعُ وتجسؤ” ص 66.

من “موسم الضوءٍ (وهو الفضح):
“وفيه غمرتُ الحاجاتِ بنوري، وأجريتُ عليها ألواني. فبيَ حُقت وبطُلت، ومني فاضت وغاضت، وعني استبانَ الخبرُ وإليَّ ظهر المقصودُ. وقبله جاءتني المعاني كلُّها وقعدت قدامي، فغلبها العجز أن تبين عن غايةٍ، والظلماتُ أن تخلُص إلى حقٍّ، وقد حكمها حال الغفلةِ، وأعماها مُقامُ الخواءِ، وكان بها انطفاءٌ بهيٌّ، ولعيونها ظلمةٌ مهولةٌ، وعلى وجهها أثرُ ليلٍ حالكٍ” ص75.

من “موسم الخمر (وهو التجليات)”:
“وفيه نظرتُ العنبَ عناقيدَ عناقيدَ، وقد زهت ألوانها بين حمرةٍ وبياضٍ، وانتشت ألوانها بماء الحياةِ، وأخذتها عين المحبة بالحفظِ، ورعتها يدُ الرغبةٍ بالقسطٍ، وحملتها أغصان العنايةِ، وجاورتها زينةُ الرضى ونادمتها خواطرُ الرجاءِ. فكانت زهوةَ المجالسِ ولمَّا تنزلْ عن عروشها، ومسرى الروحِ ولمَّا ترُحْ عن ربوعها” ص175.

كتاب الحديقة: وهو سفر الخلافة. متنٌ، الشيخ بالخير الغدامسي، حاشيةٌ: أبو الحارث موسى بن إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2015.
ويقول المحقق أنه، لأسباب تتعلق بصعوبة الكتاب، لم ينشره كاملا، وإنما نشر “جرثومة الكتاب” الذي عمل على تحقيقه ما يزيد عن تسع سنوات، واعدا بالعودة إلى أتمام تحقيق ما لم يحققه.
** الشيخُ بِلْخير، عبد الرحمنِ بنُ محمّد البُستاني الغد امسي.

مقالات ذات علاقة

الذكاء الاصطناعي والحدود التي يذهب اليها

المشرف العام

أسئلة في العملية التعليمية

يوسف الشريف

المدينة الأكثر سحراً.. درنة الجبل الشامخ والمنقار الّذِي لا يعرف الهزيمة !!

شكري السنكي

اترك تعليق