المقالة

ملاحظات على مسودة الدستور الليبي (2/2)

أتيح لنا في سياق محاولتنا إجابة السؤال الذي طرحناه حول ماهية.. قيم ديننا الحنيف.. التي قرأنا في ديباجة التقديم لمسودة دستورنا أنها أساس هذا الدستور، أن نحظى بصورة واضحة ومتكاملة لهذه القيم والذي يعني أنها مرجعيته الفكرية والأخلاقية والحقوقية، ولمبدأ التوحيد الذي تجئ هذه القيم عنه وتتأسس عليه، وتصور يوافق العقل ولا يناقض الإيمان، بل يمكن القول أنه تصور كاف بذاته لأن يكون قسطاساً يقاس بالإضافة إليه مدى نضج وسلامة كل منهما، بقدر كفايته وأهليته لسد الثغرات والشروخ التي تسمح بتسرب الأستبداد والديكتاتورية التي لا تقوم في ظل المجالس النيابية مثلما جاء في واحدة من المغالطات السوفسطائية التي طالما صدع بها معمر القذافي وإعلامه المدجن وجوقات دعايته رؤوسنا، بل هي تنشأ في مستنقعات الأيديولوجيا وتتغذى على النزوعات الإستحواذية التسلطية والعنصرية والتعصب، وذلك على الرغم من أن الديكتاتورية قد تتمكن من السلطة عبر الإنخراط في الحياة البرلمانية والتمثيل النيابي، فهي لا تفعل ذلك إلّا بالاعتماد على رؤية أيديولوجية مخادعة تعتمد الخداع والتزوير وتزييف الوعي تناقض بحكم طبيعتها الإستبدادية الرؤية الديموقراطية التي تجسدها الحياة البرلمانية والتمثيل النيابي، كما أن الديكتاتورية قد تصل إلى مبتغاها في الهيمنة على أوضاع المجتمع عبر الإنقلاب المباشر الذي يتخذ غالباً الصبغة العسكرية، مثلما جاء القذافي للإستحواذ على السلطة فوق اكتاف العسكر.

وكيفما كانت الوسيلة التي يصل عبرها الطغاة إلى السلطة فإن ما يجمع بينهم هو حرصهم جميعاً على ضرب العقد الإجتماعي، في نصه وفي تطبيقاته في الواقع المعاشي للمجتمع، فكل الديكتاتوريات تصر على إلغاء الدساتير القائمة والمعمول بها قبل وصول الطغاة إلى السلطة وذلك تمهيدا لتفكيك البناء الإجتماعي وإعادة صياغته وتركيبه وفق أهواءها ودوافعها الإيديولوجية،

وكذلك تتيح لنا هذه الصورة الواضحة لأسس دستورنا، والتي تبلغ من بساطتها أن تطابق ما نعلنه دائماً ونحب أن نؤكد عليه من وسطية اسلامنا ونقاءه، وهو ما تعبر عنه حكمتنا الليبية (ميمونه تعرف ربي، وربي يعرف ميمونه) عميقة الدلالة والمغزى والتى تنطوي على تأكيد مباشر لغنانا الإيماني واستغناءنا عن أية تصورات تنسب لديننا، وليست في حقيقتها غير مزاعم مذهبية وأيديولوجية قاصرة عن إستيعاب الإسلام في شموله، وحسيرة البصر والبصيرة عن رؤية مدى عمقه وسموه، وتصب جميعها في قناة التبرير لما تهدف إليه من استحواذ وتسلط والحرص على الظهور بمظاهر التميز والتفوق، من منطلق مبدإ (أنا خير منه) وتمكننا من قطع الطريق عليها مثلما تمكننا من قطع الطريق على الأفكار والأيديولوجيات المتدثرة بدثار الحداثة والعلمانية والتي تدعي تمسكها بحقوق الإنسان ولا تستنكف عن زعم عدم حاجته إلى الدين، ومحاولة تبرير زعمها الفارغ بإجترار أفكار غربية مبتورة من سياقاتها وترديدها فيما يشبه السرنمة  ببغائية مخزية.

وفوق ذلك فإن قراءتنا لمسودة الدستور في ضؤ صورة ديننا الحنيف التي اتيحت لنا هنا، وهو ما سنحاوله وإن جزئياً في هذه المقاربة التي سنتوقف فيها عند بعض المواد الواردة في مسودة الدستور. ففي (الباب الأول) المخصص للحديث عن (شكل الدولة ومقوماتها الأساسية) نقرأ في [المادة الثامنة] تحت عنوان (مصدر التشريع) أن “الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية مصدر التشريع وفق المذاهب والإجتهادات المعتبرة شرعاً من غير إلزام برأي فقهي معين منها في المسائل الإجتهادية، وتفسر أحكام الدستور وفقاً لذلك” لنجدها تعاني ارتباكاً وخلطاً قد نعزوهما إلى عدم وضوح صورة الأسس المؤسسة للدستور في أذهان من صاغوها، فالإسلام بمنظومته القيمية وبمبدأ التوحيد الذي تستندعليه وبما يعنيه ذلك من أنه كيان متكامل وأساس وجودي وفكري وأخلاقي وحقوقي، يبقى وحده المصدر والمنبع الذي تمتح الشريعة الإسلامية ومختلف المذاهب والإجتهادات من معينه وتعتمد عليه، وذلك يجعل من تقرير الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع إختزالاً للإسلام في الشريعة دون غيرها من مكونات الإسلام وأبعاده الأخرى، وهو اختزال مخل باسس الدستور ونرى فيه محاكاة تفتقد الوعي ووضوح الرؤية للأطروحات الأيديولوجية الضيقة الافق والحسيرة البصر والبصيرة التي تختزل في شريعة مدارها الجزاء والعقاب، وعودة بنا إلى مساوئ الواقع المتردي الذي عشناه تحت الشعار الزائف والمنافق “القرآن شريعة المجتمع” وما من للخروج من ذلك الخلط والبراءة من الإختزال المترتب عنه إلا بتغيير صيغة هذه المادة وجعلها “الإسلام دين الدولة ومصدر التشريع……” لأن الإسلام هو مصدر كل الأحكام الجزائية والعقابية التي يطلق عليها في مجموعها اسم الشريعة، كما أنه مصدر ومرجعية المذاهب الفقهية التي اجتهدت وتجتهد في فهم وتفسير تلك الأحكام، والتي يظل فهمها وتفسيرها متوقفين على كيفية قراءتها للإسلام، ومدى موافقة تلك القراءة للأمر الإلهي الوارد في مفتتح الوحي القرآني {إقرأ بسم ربك….} أو انحرافها عنه وازياحها نحو القراءة بإسم.. الأنا.. الموافقة لمبدإ (أنا خير منه….) التي تهدف إلى تبرير التعصب والعنصرية والنزوعات الاستحواذية التسلطية.

ونقرأ في [المادة التاسعة] التي تتمحور حول (المُوَطٓنٓةِ) “المواطنون والمواطنات سواء في القانون وأمامه لا تمييز بينهم نقصاناً أو تقييداً أو حرماناً، وفق احكام هذا الدستور”. وبذكر هذه المادة لقيمة (المساواة) إنما تؤكد على كل القيم وعلى أن المواطنة، التي يمكن تعريفها بأنها الإنتماء إلى وطن محدد الأبعاد والمعالم الجغرافية والتاريخية والطبيعية والبشرية والحضارية، والمشخص تبعاً لذلك لهوية واضحة يمكن الإشارة والحديث عنها والتمييز بينها وبين هويات غيرها من الأوطان، قيمة إنسانية سامية لا يستوي عقلاً ولا ديناً استبعادها من منظومة القيم الإنسانية التي يقرها ديننا الحنيف ويؤكدها ويؤسس عليها الإجتماع الإنساني، ولا تقتصر هذا المادة على ذكر قيمة المساواة لتأكيد قيمة المواطنة، بل هي بذلك تستدعي كل القيم وتؤكد على ارتباطها الجذري، بحيث أنها تتداعى لتؤكد بعضها البعض، فالمواطنة التي يتساوى المواطنون وفقاً لها وكما تعلن صيغة هذه المادة (في القانون وامامه) تعني أنهم متساوون أيضاً في الحياة والحرية والعدالة وأمام بقية القيم بل وأمام المبدأ الأسمى المؤسس لتلك القيم.

وتجئ [المادة العاشرة] والتي تتناول (النظام السياسي) متفقة مع أسس الدستور ومنطلقاته “يقوم النظام السياسي على مبادئ التعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات، والتوازن والرقابة بينها على أساس الحكم الرشيد”. والواقع أنه ما من حكم أكثر رشداً من حكم مؤسس على منظومة قيم انسانية سامية مؤسسة بدورها على أسمى المبادئ على الاطلاق، مجسداً في الديموقراطية التي هي الصيغة السياسية لقيمة الحرية التي لا تتحق إلا بمعية غيرها من القيم  السامية.

 وبهذا فإن المادة العاشرة لا تكتفي تبين لنا أن منظومة القيم التي يتأسس عليها دستورنا ليست فقط أسساً وجودية ومعطيات فكرية وايمانية، بل هي إلى ذلك أسس أخلاقية وحقوقية وسياسية واقتصادية تؤنسن الإجتماع البشري بكل أبعاده ومكوناته، يضاف إلى ذلك أن حرص هذه المادة على التداول السلمي على السلطة تأكيد على مبدإ الحوار والإعتراف بالآخر والقبول به، والذي يتوقف قبل كل شئ آخر على قبول الذات، ولا يعني الافتقار إليه سوى رفض الذات وانكارها ونفيها بإختزالها في.. الأنا.. فردية كانت أو جماعية، وهو ما لا نعدم أمثلة بينة فيما يحيط بنا وربما في دواخلنا من تنامِ لاسوي للنزوعات الإستحواذية التسلطية، وفي مختلف وجوه التعصب الإثني والجهوي والأيديولوجي، فيما لا يعني قبول الذات والآخر ارتقاء الوعي وتسامي الحس الإنساني.

وتقول [المادة الثامنة والخمسون] التي عنوانها (دعم حقوق المرأة) والواردة في الباب الثاني الذي يتمحور حول (الحقوق والحريات): “النساء شقائق الرجال، وتلتزم الدولة بدعم ورعاية المرأة، وسن القوانين التي تكفل حمايتها ورفع مكانتها في المجتمع، والقضاء على الثقافة السلبية والعادات الإجتماعية التي تنتقص من كرامتها، ومنع التمييز ضدها واتاحة الفرص أمامها في المجالات كافة، وتتخذ التدابير اللازمة لدعم حقوقها المكتسبة”. وتنطوي هذه المادة.. وفقاً لما جاء فيها.. على تسليم بدونية المرأة وقصورها مما يبرر حاجتها إلى الرعاية والحماية، ثم أنها لا تحدد المقصود بالدولة التي تلزمها بحماية المرأة ورعايتها، هل هي ما نعبر عنه بقولنا الدولة الليبية أو دولة ليبيا ونعني به المجتمع بكليته وبكامل مكوناته ومؤسساته؟ أم أن المقصود هو المؤسسة السياسية بمكوناتها التشريعية والتنفيذية والرقابية؟

وعلى العموم ففي الحالتين لا ترتقي هذه المادة لتوافق أسس الدستور، فما تلقاه المرأة في مجتمعنا من قهر وقمع وتبخيس ومن اسقاط للعقد والهنات والمساوئ، متجذر في الثقافة الذكورية المتخلفة وما تنضح عنه وتفرزه من مفاهيم ومواضعات وسلوكيات لاتسئ إلى المرأة وحدها بل وإلى الذكور الذين يحملونها ولا يعرفون شيئا عن النقاء خارج أفقها الكامد، وذلك يجعل من مواجهة هذه الثقافة وتعريتها وكشف ما تنطوي عليه من ظلامية وعدمية،  إلزاما واجباً وجودياً واخلاقي، ويؤكدعلى أهمية الإبداع الفكري والأدبي والفني وضرورة لتحقيق ذلك الهدف النبيل الذي لايمكن تحقيقه بالتشريعات العقابية والجزائية، بل الأحرى بإتاحة مناخ من الحرية ومد براح بسعة الوطن للمبدعين ليؤدوا دورهم التنويري وذلك بإزالة كل العراقيل التي تقف في طريق ابداعهم وتضع أمامهم حزماً من المحرمات والتابوهات التي ما أنزل الله بها من سلطان بل تستمد سلطانها من الأيديولوجيات المتخلفة التي تحرص على ديمومة الثقافة الذكورية المتخلفة.

في (الباب الثالث) الذي يتناول موضوع (نظام الحكم) وفي قسمه الأول المخصص (للسلطة التشريعية) نجد [السابعة والسبعين] تحمل تسمية جانبها التوفيق (مجلس الشورى) وتقول: “يتكون مجلس الشورى من غرفتين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ويتولى سلطة سن القوانين واقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والإجتماعية والموازنة العامة للدولة ويمارس الرقابة على اعمال السلطة التنفيذية، وذلك على النحو المبين في الدستور”. وهنا نلاحظاً نقلاً حرفياً من دساتير دول تفهم الشورى وتفسرها وتتعاطى معها وفقاً لرؤاها ومنطلقاتها المذهبية والأيديولوجية، التي تختزلها في هيئات ومؤسسات رسمية ملحقة بأنظمة حكمها بل بحكامها بالذات، وتحويلها إلى أداة لتبرير ممارساتها، التي ليست موافقة بالضرورة للأسس التي أعلنت هيئة صياغة الدستور اعتمادها عليها أساساً له، فالشورى كقيمة سامية تتبوأ مكانتها إلى جانب غيرها من القيم المؤسسة على مبدأ التوحيد، وليست مجر أداة إجرائية ولا وسيلة حكم توظف لأغراض التحكم والإستبداد ولتبرير التمييز والظلم كما نرى ذلك في الأنظمة التي توظفها أيديولوجياً ولا يجهلها أحد منا أو ينخدع بادعاءاتها وزيف شعاراتها. ولأننا في ليبيا نحتاج دستوراً حقيقياً ونريده، ولسنا في حاجة إلى بيان أيديولوجي قد تستجيب له سذاجتنا وانفعالاتنا العاطفية، ولكن لا بد من أن تستهجنه عقولنا ويرفضه إيماننا، ولذا فلا حاجة بنا إلى هذه التسمية المتناقضة والأسلم أن تعنون (المادة السابعة والسبعون) ب (المجلس التشريعي) أو (الهيئة التشريعية) أو (هيئة التشريع).

ويبقى التأكيد على أن هذه المقاربة المقتضبة لمسودة الدستور لا تدعي أنها أحاطت بكل جوانب موضوعها وأتت بقول فصل في بل هي مجرد ملاحظات متواضعة على هامش نص يحتاج إلى أن يُقرأ من مختلف جوانبه قراءات شاملة ومتعمقة، ولا بد من إسداء الشكر المستحق لإعضاء الهيئة التاسيسية لصياغة مشروع الدستور الذين عناء إعداد هذه الوثيقة المهمة والخطيرة على إمتداد سنتين كاملتين.

مقالات ذات علاقة

بيروت.. بيروت

جمعة بوكليب

المرأة في عيون الرجال

عادل بشير الصاري

التليسي والأعرابي

بدرالدين المختار

اترك تعليق